القانون حين يشيخ: دعوة لتحديث مفهوم “الاستفادة”

 إبراهيم فاضل الناصري

القانون حين يشيخ: دعوة لتحديث مفهوم “الاستفادة”

في حياة الشعوب، لا يُقاس تطور الدولة بعدد بناياتها أو اتساع طرقها، بل بمدى قدرتها على تجديد وتحديث قوانينها بما ينسجم مع روح الزمن، ويعبّر عن حاجات الإنسان المتغيرة. فالقانون، مهما كان متينًا في لحظة صدوره، يفقد بريقه وجدواه إن لم يواكب الواقع، وإن لم يُراجع بضميرٍ حيٍّ يستمع إلى أنين الناس لا إلى صدى الأوراق الرسمية.
اليوم، نحن أمام قضية إنسانية واجتماعية تمسّ مئات المواطنين من معلمين وتدريسيين وأدباء وصحفيين وموظفين ومتقاعدين من مختلف المحافظات والبيئات العراقية. قضية تبدو في ظاهرها إدارية، لكنها في جوهرها مؤشر على فجوة بين النص القانوني والواقع الاجتماعي، وهي تتعلق بما يعرف في سجلات البلديات بـ “المستفيدين” من الأراضي السكنية.
فقد جرى، منذ عقود، إدراج أسماء العديد من المواطنين في قوائم “المستفيدين”، استنادًا إلى حصولهم على قطعة أرض سكنية في سبعينات أو ثمانينات القرن الماضي، وهو ما جعلهم يُحرَمون اليوم من فرص في التخصيصات الجديدة، بحجة أنهم سبق أن نالوا نصيبهم من الدولة.
لكن السؤال الجوهري هنا: هل الاستفادة التي حدثت قبل نصف قرن يمكن أن تُعدّ سارية المفعول اليوم؟ وهل يُعقل أن يُعامل من حصل على قطعة أرض في عهدٍ انقضى، كأنه ما زال يملكها أو ينتفع بها، رغم ما جرى من تغيّرات ومحن ومصائر قاسية؟
إنّ الواقع اليوم يقول إنّ كثيرًا من هؤلاء خسروا كل ما امتلكوه. بعضهم اضطر إلى بيع أرضه بسبب الحاجة أو المرض، وبعضهم فقد بيته في الحروب أو أثناء موجات التهجير القسري، وبعضهم ترك مدينته طلبًا للأمان في أماكن أخرى. وهناك من أكلت الكوارث والتقلبات السياسية ثمار جهده وأمانه. فكيف يُعقل أن يُؤشر على هؤلاء بأنهم “مستفيدون”، بينما هم اليوم في عداد المتضررين أو المعدمين؟
القوانين التي لا تُراجع تصبح أشبه بالأثقال التي تجرّ الأحياء نحو الماضي. وقد آن الأوان أن يُعاد النظر في تعريف “الاستفادة السكنية”، بحيث يُصبح من المنطق والإنصاف أن يُعتبر كل من حصل على قطعة أرض بعد عام 2003 — أي في عهد الدولة العراقية الحديثة — مستفيدًا، أما من كانت استفادته قبل ذلك، فلا ينبغي أن تُحتسب عليه، لأن الحقبة التي تفصل بين الزمنين حفلت بما يكفي من المآسي والاختلالات لتسقط معها العدالة الشكلية.
إنّ هذا المطلب لا يخصّ فئةً بعينها، ولا يتحدث باسم جماعة دون أخرى، بل يمسّ وجدان العدالة العامة، وحق الإنسان في أن يُعامل وفق منطق الواقع لا وفق وثائق بالية. فالمعلم الذي أفنى عمره في خدمة الأجيال، والأديب الذي حمل رسالة الكلمة، والصحفي الذي عاش مهنة التعب، يستحقون أن يروا الدولة تنصفهم لا أن تُقيدهم بسلاسل قراراتٍ استُهلكت مع الزمن.
إنّ تغيير هذا البند لا يعني ترفًا إداريًا، بل هو خطوة في طريق استعادة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. فحين يشعر المواطن بأنّ القوانين تستمع إليه وتتفاعل مع تغيرات حياته، تنمو لديه روح الانتماء والمسؤولية. أما حين يرى القانون أعمى عن واقعه، فإنه يفقد الإيمان في جدوى المطالبة بالحق.
لذلك، فإنّ دعوتنا موجهة إلى الحكومة المركزية، ومجلس النواب، ووزارات البلديات والإعمار والإسكان، إلى أن يبادروا بتعديل القرارات السارية أو سنّ قانونٍ جديد يحدّد بوضوح مفهوم “الاستفادة”، ويجعله منسجمًا مع مقتضيات المرحلة الراهنة. فالتشريعات لا ينبغي أن تكون وثائق جامدة، بل نصوصًا حية تتنفس مع المجتمع وتتكيف مع تحوّلاته.
لقد مرّ العراق خلال العقود الماضية بظروف استثنائية: من حروبٍ طويلة، إلى حصارٍ قاسٍ، إلى حقب الإرهاب والنزوح، وانتهاءً بتداعيات التنظيمات المتطرفة كحقبة داعش السوداء التي طحنت البنى الاجتماعية والاقتصادية. هذه الوقائع وحدها كافية لتبرير إعادة النظر في مفهوم “الاستفادة”، لأنّ أغلب المواطنين الذين تُطبّق عليهم هذه البنود لم يعودوا يمتلكون شيئًا مما كان يوماً أساسًا لتلك القرارات.
إنّ العدالة الحقيقية ليست في تطبيق القوانين بحرفية، بل في تجديد روح القانون لتظل قادرة على تحقيق غايتها العليا: إنصاف الناس. فالقانون الذي يُطبّق بلا وعيٍ إنساني يتحول إلى ظلٍّ من ظلم، مهما كانت نواياه الأولى نبيلة.
ولعلّ أجمل ما يمكن أن تفعله الدولة اليوم هو أن تُعيد إلى مواطنيها الإحساس بأنّهم مرئيّون في عين العدالة، وأنّهم ليسوا أسرى لقرارات صدرت في زمنٍ لم يعد يشبههم ولا يشبه حاضرهم.
إنّ إعادة تعريف “الاستفادة” ليست مجرد إصلاح إداري، بل إعلان عن نضج دولةٍ تعترف بأنّ الزمن تغيّر وأنّ العدالة لا تهرم. إنها خطوة نحو بناء ثقةٍ جديدة بين المواطن والقانون، وثقافةٍ جديدة ترى في التشريع وسيلة لحماية الإنسان لا تقييده.
لقد آن للقانون أن يُجدد شبابه، وللدولة أن تفتح نوافذها على واقع الناس، وللإنصاف أن يستعيد صوته بعد صمتٍ طال.
فالقانون حين يشيخ، لا بدّ أن نُعيد إليه شبابه بالعدل والانصاف.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع