
د . أنور أبوبكر الجاف
العراق يصوّت من جديد… لكن اللعبة لم تتغيّر
العراق يدخل هذه الانتخابات البرلمانية وهو مثقل بتجربة سياسية امتدت لأكثر من عقدين اتسمت بالجمود وتكرار الوجوه وانعدام الثقة الشعبية في الطبقة الحاكمة التي تحاول دوما شراء الذمم والتهديد من اجل السلطة
فمنذ أول انتخابات بعد عام 2003 وحتى اليوم لم تُحدث صناديق الاقتراع تغييرًا جوهريًا في نمط الحكم أو في توازن القوى، بل استمرّ نظام المحاصصة الحزبية والطائفية والقومية بشعاراتها المنمقة كآلية لتقاسم النفوذ والمناصب، ولهذا تراجعت نسبة المشاركة في آخر انتخابات إلى نحو 41%، وهي الأدنى منذ عام 2005 في دلالة على الإحباط الشعبي الواسع والعزوف عن العملية السياسية.
المواطن العراقي اليوم لا يرى في الانتخابات وسيلةً للإصلاح بقدر ما يراها أداة لإعادة تدوير نفس القوى التي أنهكت البلاد ، فاستشراء الفساد الإداري والمالي وضعف الأجهزة الرقابية والقضائية وعدم وجود الضمير واستمرار ظاهرة الكتل المتنفذة التي تغيّر أسماءها لا جوهرها جعلت الثقة بين المواطن والدولة شبه منعدمة ويشعر الشباب الذين يشكّلون أكثر من ستين في المئة من السكان بأنهم خارج المعادلة السياسية، وأن أصواتهم لا تغيّر شيئًا في واقع البلاد.
أما الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني فهي تحاول أن تقدم نفسها كجسر إصلاح بين الشارع الغاضب والقوى السياسية التقليدية أطلقت برامج لمكافحة الفساد وتحسين الخدمات، غير أن نجاحها ظلّ محدودًا أمام مقاومة الأحزاب المتجذرة في الوزارات والمؤسسات، كما أن تحالف الإطار التنسيقي الذي جاء بالسوداني يجد نفسه أمام خيارين صعبين: إما دعمه ليستمر بعد الانتخابات، أو استبداله بمرشح أكثر توافقًا مع موازين القوى الجديدة التي قد تفرزها صناديق الاقتراع.
وقد نبّه رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق، القاضي فائق زيدان، في مقالٍ تحليلي قانوني، إلى أن التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع كل أربع سنوات هو من أهم المكاسب التي تحققت بعد عام 2003، لكنه أشار بوضوح إلى أن التجارب السابقة كشفت عن تجاوزٍ متكررٍ للمدد الدستورية المحددة لتشكيل السلطات، من دون وجود جزاء أو أثر قانوني رادع، وهو ما يُضعف روح الديمقراطية ويجعل عملية الانتقال بين الحكومات أقرب إلى التفاهمات الحزبية منها إلى الإرادة الشعبية. وهذا التشخيص القضائي يعكس بدقة ما يعانيه النظام السياسي العراقي من فجوةٍ بين النص الدستوري والممارسة الواقعية، وهي الفجوة ذاتها التي جعلت الانتخابات أداةً لتدوير السلطة لا لتغييرها.
في الجانب الكردي ما تزال الانقسامات قائمة بين الحزبين الرئيسين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني وسط خلافات متراكمة حول ملفات النفط والرواتب وتوزيع السلطات، ومن المرجح أن يركز كل طرف على تعزيز موقعه داخل الإقليم أكثر من انخراطه في تحالفات وطنية قبل اتضاح نتائج الانتخابات.
أما القوى السنية فما تزال مشتتة بعد انقسامات ما بعد حكومة الحلبوسي وتسعى لإعادة ترتيب أوراقها عبر تحالفات مناطقية جديدة في المحافظات الغربية والشمالية.
والتأثير الخارجي لا يقل أهمية عن الداخلي، فإيران ما زالت اللاعب الأكثر حضورًا في الوسط الشيعي وتسعى إلى ضمان أغلبية برلمانية موالية لها تحافظ على مصالحها وسط التوترات الإقليمية.
وفي المقابل تتابع الولايات المتحدة المشهد العراقي عن بعد، مكتفية بالدعوة إلى انتخابات نزيهة وغير خاضعة لهيمنة السلاح، فيما تدفع بعثة الأمم المتحدة إلى إشراف دولي محدود يضمن قدراً من الشفافية في ظل الشكوك المحيطة بالمفوضية العليا للانتخابات.
الاحتمال الأقرب أن تفرز الانتخابات المقبلة توازناً شبيهاً بما هو قائم اليوم، مع إمكانية محدودة لظهور تيار شبابي مدني يحصل على بعض المقاعد دون تأثير حقيقي في بنية القرار السياسي، وبذلك ستكون الانتخابات القادمة أقرب إلى إعادة ترتيب داخل نفس المنظومة لا إلى تجديد حقيقي في بنية الدولة.
إن انعقاد الانتخابات في موعدها وسط أجواء اقتصادية وأمنية متوترة يعدّ بحد ذاته نجاحًا نسبيًا، لكنه لا يعني أن العراق تجاوز أزماته، فإذا لم تتحول نتائجها إلى إصلاح واقعي في القضاء والاقتصاد والإدارة فستبقى البلاد تدور في الحلقة ذاتها من التجديد الاسمي دون تغيير فعلي، حيث تتبدل الوجوه وتبقى السياسات على حالها ويظل المواطن العراقي ينتظر لحظة الصدق السياسي التي لم تأتِ بعد.
وعلى اي حال يمكن القول: بان الاقتراع في العراق: شرعية شكلية لواقعٍ بلا إصلاح و دوّامة السلطة واللامساءلة و ديمقراطية تتنفس الفساد او تجديد في الشكل وجمود في الجوهر .
د . أنور أبوبكر الجاف
باحث أكاديمي

980 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع