المؤرخ ابراهيم فاضل الناصري
(التكريتي والكلك)اسطورة الضفاف، وملحمة الساعد والمجداف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع النفس الاول لصبح التمدن في متوطنه العتيق الخالد، انتضى الرجل التكريتي مرودا، وتنكب مجدافا، مدشنا كدحه المزمن بجوب الضفاف العليا طولا وعرضا، بعد ان وسمته النواميس قدرا له، فسيّر الاكلاك على طول انسياب نهر دجلة في اعالي واديها المقدس الخصيب، ثم ما برح ان احتكر ملاحتها بلا منازع او منافس من مهد تحميلها بأثقالها والى حيث تحط برحالها، ماخر المسالك المتهادية حينا والصاخبة حينا اخر بـ كلكه الذي بناه بيده فاحسن (تكليكه)، انساب وهو يتحسس العباب بمروده الاسمر الممشوق كالرمح الهيّاب، وبمجدافة المشدود على كاهله، ويتمكن من عنان كلكه بمراسه الصعب، ولعل السامر بحكائياته عند جمر تلك المواقد التي لا ينطفئ اوارها على قول المعري ربما قد اشكلت عليه الامور فبات وهو لا يعرف من الذي اوجد من؟ هل الكلك هو الذي اوجد شخصية التكريتي التي عرفتها الايام شخصية عصامية جلدة مبدأيه مكافحة في خضم التاريخ الحديث ام ان التكريتي الكادح كدحا عذبا الذي اختار الكلاكة نصيبا هو الذي اوجد الكلك قدرا له فصارا صنوان ازليان يتقاسمان العناء. وان هي الا دورات لدولاب الاحقاب حتى بات ذلك التكريتي الذي انتضى العباب مركبا له يمتلك كامل زمام الشحن النهري بكل ثقة فكان بالمعنى مع كلكه صنوان ازليان في الكدح والضنى والكفاح والعنى، ثم ما فتئ ان أردف مهنته الشاقة هذه بمهنة اخرى متلازمة معها ومكملة لها وأعني بها مهنة النقل البري المسماة بـ (الكروان) والتي اصحابها يطلق عليهم (المكارية) فكان النقل البري والنهري من اختصاص التكريتي في ظهيرة زمان. فبهكذا مراس دق الأساس لغاية في وجدانه وأعني بها حالة (التمدن)، كون ان الاتصال يحقق التمدن ويرسخه.
ولا غرو في ان انغماس هذا التكريتي المكافح المتعاني على امتداد العهد العثماني بمهنة ملاحة وقيادة الاكلاك في حوض دجلة الاعلى وتفاعله وتلازمه معها كان قد بلغ حدا جعل هذه المهنة تشكل عنوانا مصيريا لعيشه ومعاشه وجعل ظلالها تؤسس لها قيمة ومكانة لا توصف في وجدانه الجمعي مما بات لها حضورا رمزيا او دلاليا حتى في اساطيره الحكائية الشعبية.
وهكذا وجدنا كيف ان حكايا الجدات للأحفاد كانت تتقصد تضمين او زج الكلك في مجرياتها السردية الحكائية.. ولعل حكاية الطرّاح (حسين النمنم) الاسطورية التي ما فتئت تتداولها مخيلة الحكي التكريتي في الاماسي المقمرة من قبل الجدات لخير مثال على ذلك حيث كان الكلك هو قارب الخلاص ثم الوصول للبطل الذي هو ذلك الطراح التكريتي المكافح بعد شوط ضياع وبعاد وخضوع مضني مضمخ بالالتياع ... وهكذا كان الكلك بصفته الواسطة النهرية القديمة الاستخدام متلائما ومتوائما مع طباع ومقدرات وامكانيات ابناء مجتمع مدينة تكريت البلدة الغافية على خدر دجلة منذ ازل قيامها ما آل لهم ان ينالوا تمام المكنة ويحوزوا دس العصمة في ملاحة هذا النوع من النقل النهري. سيما وانهم قد وصلوا في براعة الملاحة (الكلاكة) لهذه الواسطة النهرينية القديمة حدا قد فاق الحسابات النمطية بعد ان اعتادوا على قيادة اكلاكهم من مرافيء بناء وشحن قد كانت تختص بها في اعالي وادي دجلة الخالد بعد تحميلها بالبضائع والمؤن والمتطلبات وما كان هناك من خيرات والتوجه بها في رحلة نهرية طويلة وملبدة بالحرص والحذر والتثبت إلى بغداد حيث حارة التكارتة الكرخية التي سميت باسمهم (محلة التكارتة). او على وجه الدقة الى مرفأ شريعة خضر الياس و مرفأ شريعة القمرية، حيث اخر محطة من محطات رحلة هذه الاكلاك، ترسوا فيها بعناية، فيفرغون ما حملته من احمال (مؤن وتجارات) فمنها ما هو مباشرة يباع، ومنها الذي يسلم لأصحابها من التجار، ومنها ما ينقل الى الخانات للإيداع، بعدها يفككون الكلك فيبيعون أخشابه لحاجتها في تسقيف البيوت. ثم يفرغون قربه من الهواء ويجففونها ويعودون بها على الاكتاف إلى موطنهم تكريت. وربما يتبادر في ذهن البعض سؤال هو لماذا اختير التكريتي لمهمة ملاحة الاكلاك ما بين اعالي دجلة وبين بغداد؟ والجواب هو الذي افاد به الاساتذة؛ الدكتور محي هلال السرحان والدكتور المرحوم بهجت كامل في بحث مشترك اذ جاء الجواب منهم: (بعد تحر وجلسات مع بعض الرجال الذين مارسوا مهنة الطراح ممن لازالوا على قيد الحياة اتضح ن هذه الحرفة تحتاج الى مواصفات خاصة اولها الامانة وثنيها الصبر والقدرة على التحمل وثالثها الذكاء والقوة وان توفر مثل هذه المواصفات في رجل واحد ليس امر هينا فصفة الامانة مثلا يؤكد عليها تجار الموصل وتجار بغداد لأنهم حريصون على سلامة اموالهم لذلك وجدوا في كلاكة تكريت هذه الصفة واضحة).
ولقد اتفق باحثوا التراث الشعبي على كون الكلك منشأة ذات هوية تكريتية بمعنى احتكار التكارتة (ابناء تكريت) لقيادة وملاحة هذه الواسطة النهرية دون أدنى شك، انهم سادة النهر على طوله. ولعل من أبرز شهود العيان على تخصص التكارتة في صناعة الاكلاك واحتكارهم لملاحتها في دجلة بلا منازع هو العين عبد العزيز القصاب وهو من الشخصيات الحكومية في العهد العثماني الاخير حيث اورد في مذكراته المنشورة اشارة توحي بمضمونها الى ذلك وجاءت ضمن سرده لرحلته من الموصل الى بغداد ومفادها هو: (ولكي نتفادى نقاط التفتيش الانكليزية على لطريق فضلنا السفر (من الموصل) نهرا فكلفت أحد التكارتة ليقوم بعمل (كلك خاص بنا وعندما احضره وجدناه صغيرا فأضفنا فوقه عرشة تقينا من البرد والمطر. وصلنا تكريت بعد يوم وليلة وفضلت البقاء في الكلك وسمحت لملاحيه بمغادرته لزيارة عوائلهم بعد ان طلبت منهم عدم اخبار أحد بوجودنا وبعد شروق الشمس بنصف ساعة جاء الى الساحل الحاج ياسين التكريتي وعلاء الدين الالوسي والحاج حسن الطه وجميعهم من عيان تكريت والحو على تناول القهوة عندهم وقبلت دعوتهم مرغما. تناولنا الفطور في دار الشيخ علاء لدين ورجعنا بعد ذلك الى الساحل لنجد ان الكلك قد اختفى، فقد فك ملاحوه رباط خشابه وأفرغوا جرب جلود الحيوانات، تعجبت كثيرا لتصرفهم هذا وسالتهم عن السبب فأجابوا بان ليس لديك الان حاجة للسفر نهرا اذ يمكنك اخذ القطار الى بغداد وستصلها في اليوم التالي).
وهكذا كانت مهنة الكلاكة من نصيب ابناء تكريت على طوال العهدين العثماني والبريطاني وصولا الى نهايات العهد الملكي فانهم لجوا في معترك هذه المهنة الشاقة مخروا الانهر وجابوا الشواطئ ينقلون البضائع بأمانة وصدق كما جاء يقول حاتم الغثيث في كتابه عن تكريت. ويتعاطون التجارات بمهارة وأحيانا تلتئم مجموعة من اكلاكهم بمجموعة واحدة خلال رحلة واحدة. ينقلون مؤن وتجارات المدن الشمالية او مؤن وتجارات القريبة منها او المتاخمة لها من مناطق إيران او تركيا وحلب الى بغداد كمثل القمح والشعير والعدس والماش والحمص والبرغل والسمسم والمكسرات كالجوز واللوز والفستق والهرطمان والعسل وبعض المنتجات التي تصنع في مدن اعالي دجلة كالأجبان والبرغل والحبية والرشدة والسمن الحيواني فضلا على بعض أنواع الطيور.
ورب سائل يسأل: ما الذي جعل التكريتي يختار مهنة تسيير الاكلاك وقيادتها اي فن ملاحة النقل النهري بالاكلاك على طول حوض دجلة؟ وكيف تمكن من هذا الاختيار حد النجاح ولماذا اختاره من دون مهن اخر ربما كانت تتوائم وظروفه الحياتية من التي يتطلبها ويهيئ قيامها محيطه المحلي؟ والجواب هو انه: كانت مهنة النقل النهري بالكلك تتطلب الجهد العضلي والصبر والجلد وقدرة التحمل الجسدي فيمن يمتهنها ولا غرو ان ابناء مجتمع مدينة تكريت في عهد تكفلهم بها قد كانوا يتمتعون بتلك المزايا بشكل مثالي وأنها لطبيعية عندهم ولذلك كان رجال تكريت اول من سير الاكلاك وتولى قيادتها وضمن وصولها بأحمالها سالمة لأنهم كانوا أقدر من غيرهم على تحمل المشاق والتعب والصعاب وأكثر فطنة ودراية بانسياب الماء في النهر وقد توارثوا عملها جيلا بعد جيل بدافع الحاجة الى الرزق وبحكم موقع تكريت بين الموصل وبغداد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1288 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع