د. سعد ناجي جواد*
كيف قلبت المقاومة المعادلة في الصراع العربي-الصهيوني؟ وكيف يكتشف الاحتلال في كل يوم ان أحاديث قادة المقاومة ليست احلاما او تخيلات؟
انتشرت مؤخراً كلمة للمجاهد يحيى السنوار قالها قبل ثلاث سنوات، وبالتحديد في يوم 5 حزيران 2021, امام حشد من أساتذة الجامعات في غزة, شرح فيها تصوره لشكل ونتيجة المواجهة القادمة مع الاحتلال، وقال وبالحرف الواحد (خلال اشهر معدودة، أنا تقديري لن تزيد على العام الواحد، سنجعل الاحتلال امام خيارين، اما ان نرغمه بتطبيق القانون الدولي واحترام القرارات الدولية والانسحاب من الضفة والقدس وتفكيك المستوطنات وإطلاق سراح الاسرى وعودة اللاجئين، اما ان نرغمه نحن والعالم على اقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة في 67 بما فيها القدس، او نجعل هذا الاحتلال في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية كلها، ونعزله عزلا عنيفا وشديدا وننهي حالة اندماجه في المنطقة وفي العالم [وننهي] حالة الانهيار التي حدثت في جبهات المقاومة التي حدثت في السنوات الماضية). هذه النظرة الثاقبة للأمور (التي قال عنها احد الاخوة من اصحاب الروح الوطنية العالية بانها رفعت معنوياته 3 درجات على مقياس رختر)، لابد وان تُشعِر كل من يستمع لها بالثقة والاطمئنان إلى ان كل ما جرى يوم 7 اكتوبر (الذي هو بالمناسبة يوم مولد السنوار نفسه) لم يكن سوى عمل مبني على دراية وعلى تخطيط عالي الدرجة وثقة كبيرة بالنفس ومعرفة دقيقة بالاحتلال وقياداته، وبالتالي الاطمئنان إلى نتائج هذه العملية الجبارة.
هذا الحديث أعادني بالذاكرة الى سنين الإحباطات والهزائم السابقة التي حدثت بسبب سوء التخطيط وعدم المعرفة بالعدو بصورة دقيقة. ففي مقابلة تلفزيونية، بعد انتصار جيش الاحتلال الساحق والمحزن في حرب حزيران 1967، تحدث مجرم الحرب الاخر موشي دايان (وزير الدفاع الأسبق) بغروره وعجرفته المعهودين، عن خطة الحرب وكيف ان جيش الاحتلال تدرب عليها لسنوات حتى أتقنها، ولكنه زاد على ذلك جملتين مؤلمتين، الاولى قال فيها ان الخطة كانت منشورة في كتاب ومعروفة ومتيسرة لمن يريد ان يطلع عليها، والثانية جاءت ردا على سؤال من قابله: كيف تجازفون هكذا، الم يساوركم القلق بان العرب ربما كانوا قد اطلعوا على ذلك الكتاب، أجابه وبنفس الغرور (لعرب لا يقرأون واذا قرءوا لا يفهمون). ثم جاءه الرد على تبجحه هذا في رمضان/ اكتوبر 1973 عندما نجح الجيشان المصري والسوري، وبمشاركة قوات عربية اخرى، بتلقينه درسا أنهى حياته العسكرية والمهنية، ولولا احجام الرئيس المصري انور السادات عن التوغل في صحراء سيناء حتى المضائق، لكان الاحتلال في وضع غير الذي اصبح عليه نتيجة الثغرة التي سمحت له بالالتفاف على الجيش المصري وفرض شروطه من جديد.
على الجانب الاخر ان ما حدث ويحدث منذ بداية هذا القرن في جنوب لبنان وبعد ذلك في غزة والضفة الغربية والان في اليمن يجب ان يجعلنا مطمئنين ان ما حدث في عام 1967 وبعد ذلك في عام 1973، لن يتكرر أبدا. والسبب الرئيس هو رجال المقاومة ونمط قادتهم وإصرارهم وثقتهم العالية بقدراتهم وبالنصر النهائي، والاهم عدم خوفهم من جبروت العدو ومن يؤيده. اما ما يفسر سبب اصرار الاحتلال على ضرورة اغتيال قادة المقاومة هو لانه يجد فيهم الخطر الحقيقي على كيانه، والقدرة على فهم كل ما يجري في داخل المنظومة الحاكمة في فلسطين المحتلة، وفهم المجتمع الإسرائيلي والاهم الايمان والقدرة على تحقيق النصر.
في فيلم وثائقي عرض على شاشة ألبي بي سي قبل يومين عن حرب 6 اكتوبر 1973، (العاشر من رمضان) تحدثت رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير عن سبب إصرارها على الاستقالة رغم ان جيش الاحتلال استطاع ان يرد الاعتبار لنفسه بعد صد الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية، قالت بانكسار (أنا لا أستطيع الاستمرار في منصبي لاني لم اعد اشعر كما كنت قبل السادس من أكتوبر). والشطر الاخير من الحديث هو بالتأكيد ما يشعر به نتنياهو وكل من حوله هذه الايام رغم المكابرة، وهذا هو السبب الذي يجعله ومن معه، يُمعِنون في قتل الأبرياء وفي عمليات الاغتيال لقادة المقاومة، معتقدين ان ذلك سيمنحهم انتصارًا حتى وان كان زائفا.
بالعودة إلى كلام السيد يحيى السنوار، وما يماثله من أحاديث للسيد حسن نصر الله والسيد زياد النخالة وقادة انصار الله في اليمن ومن العراق نستطيع ان نفهم إيمانهم المطلق بانهاء الاحتلال مهما طال الزمن. ومن ناحية اخرى ان نظرة بسيطة على حال الاحتلال اليوم داخليا وخارجيا تثبت لنا كيف انه اصبح مهزوزا ومنبوذا، وكيف انه هو والولايات المتحدة قد اُجبِروا على التفاوض مع حركة حماس واستجداء موافقتها على وقف إطلاق النار، بعد ان كانوا يتحدثون ويخططون في أحلامهم لغزة (بعد القضاء على حماس). وكيف تسعى الادارة الأمريكية اليوم بكل ثقلها، ومن خلال كل وسيط ممكن، لإقناع حزب الله بعدم التصعيد، وكيف ان القوات الأمريكية والبريطانية والاوربية كلها تقف عاجزة عن ثني مجاهدي اليمن عن الاستمرار في مهاجمة أساطيلهم البحرية. (هل سمعتم سابقا ان نظاما عربيا واحدا قام، وبإصرار متواصل، بمهاجمة قطعة واحدة من قطع الأساطيل وحاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية؟)
باختصار شديد ان حركات المقاومة قد قلبت المعادلة بصورة كاملة والى الأبد، ولم يعد امام الاحتلال ومن يدعمه، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، إلا الرضوخ لإرادة الشعب الفلسطيني. حقا ان عملية طوفان الأقصى جعلت الكيان معزولا وفي حالة تصادم وتناقض مع الإرادة الدولية، واشعرته بعدم جدوى كل محاولات (التطبيع) مع الأنظمة العربية. وحقا اثبتت الأسلحة والصواريخ الجديدة والمتطورة التي يستخدمها مقاتلي حزب الله ان الاحتلال اوهن من بيت العنكبوت. وحقا عجزت قدرات أكبر جيوش العالم عن ردع مقاتلي اليمن. وهكذا اثبتت الوقائع ان أحاديث قادة المقاومة لم تكن مجرد تنبؤات مبنية على اوهام، وانما حقائق مستندة على اسس علمية ودراسات معمقة وإعداد عالي المستوى، وقبل ذلك على الإيمان بالله وبالقدرات الذاتية للشعب العربي.
كاتب واكاديمي عراقي*
2959 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع