
قلم باندان
حين تُدار السلطة ولا تُدار الدولة: في غياب الأفق الاستشرافي للسياسي العراقي
لعلّه ليس من قبيل التوهّم الفكري القول إن إخفاق تجارب الحكم المتعاقبة على أرض العراق لم يكن ناجمًا عن شُحّ الموارد، ولا عن تعقيد الجغرافيا السياسية وحده، بل عن افتقارٍ بنيويّ إلى ما يمكن تسميته مشروع إدارة دولة. فالدولة، بوصفها كيانًا مؤسسيًا متكاملًا، تختلف جذريًا عن السلطة بوصفها أداة حكم، وشتّان بين من يُحسن إدارة النفوذ، ومن يمتلك أفقًا لإدارة الكيان.
منذ التغيير الذي شهده العراق، لم تُطرح على نحوٍ جادّ أسئلة الدولة الكبرى: ما شكل الدولة؟ ما فلسفة إدارتها؟ ما علاقتها بالمجتمع، وبالتاريخ، وبالمستقبل؟ بل جرى التعاطي مع الدولة كغنيمة سياسية، لا كمشروع حضاري. وهكذا، تحوّل الحكم إلى إدارة توازنات، وتقاسم مواقع، وإطفاء أزمات، فيما ظلّ مفهوم الدولة غائبًا أو مؤجَّلًا أو مُفرغًا من مضمونه.
السياسي العراقي، في غالبه، لم يتقدّم إلى الحكم بوصفه صاحب رؤية، بل بوصفه ممثلًا لمكوّن، أو ناطقًا باسم ذاكرة مظلومية، أو وريثًا لمرحلة صراع. وهذه الخلفيات، مهما كانت مشروعيتها التاريخية، لا تُنتج وحدها مشروع دولة، لأنها تنتمي إلى الماضي أكثر مما تنفتح على المستقبل. فإدارة الدولة تتطلب عقلًا استشرافيًا يرى ما بعد اللحظة السياسية، ويخطط لما بعد الدورة الانتخابية، ويؤسس لبنى تستمر حتى في غياب شخوصها.
إن غياب الأفق الاستشرافي لدى المتطلعين للحكم جعل السياسة في العراق سياسة ردّ فعل لا فعل تأسيسي. أزمات تُدار عند وقوعها، لا تُمنع قبل تشكّلها؛ قوانين تُفصّل لتخدم لحظة، لا لتؤسس نظامًا؛ مؤسسات تُدار بالأشخاص لا بالأنظمة. وهنا تتبدّى الفجوة العميقة بين إدارة الحكم وإدارة الدولة: الأولى آنية، ظرفية، قابلة للتبدل السريع؛ والثانية تراكمية، مؤسسية، محكومة برؤية طويلة الأمد.
الدولة لا تُدار بالنيات، ولا بالشعارات، ولا حتى بالخطاب الوطني المجرد، بل تُدار بخارطة طريق واضحة: اقتصاد سياسي محدد، تصور للعلاقة بين المركز والأطراف، فهم لوظيفة الهوية الوطنية في مجتمع تعددي، وإدراك لمكانة العراق في محيطه الإقليمي والدولي. وكل ذلك غائب أو مجزأ أو متنازع عليه في خطاب النخبة السياسية.
ولهذا، لم يتحقق تقدم نوعي في إدارة الدولة، رغم مرور سنوات على التغيير، لأن ما أُدير فعليًا هو السلطة لا الدولة. سلطة تُمسك بمفاصل القرار دون أن تعيد تعريفه، وتحكم دون أن تؤسس، وتستمر دون أن تُراكم. والنتيجة دولة متعبة، ومجتمع مأزوم، ومستقبل معلق بين الاحتمالات.
إن الخروج من هذا المأزق لا يبدأ بتغيير الوجوه وحده، بل بتغيير السؤال ذاته: من سؤال من يحكم؟ إلى سؤال كيف تُدار الدولة؟ وعندها فقط، يمكن للعراق أن ينتقل من زمن إدارة السلطة إلى زمن بناء الدولة.

1046 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع