هيفاء زنگنة
البارحة… كنا أحسن حالا!
انتشرت في السنوات الأخيرة، مقالات تُركز على الحسرة لفقدان «الأمس» وتعداد محاسن «الزمن الجميل» المفقود، جراء ثورة أو انقلاب أو حتى وفاة أو مقتل دكتاتور. وقد تزايدت المقالات، أخيرا، في مصر وتونس والعراق وليبيا من بين الدول العربية. وأي باحث عن الموضوع، إلكترونيا، سيجد عشرات الآلاف من المقالات المرتدية ملابس الحداد على ما مضى، بغض النظر عن طبيعة الأسباب التي سبّبت التغيير. ليُصبح الماضي فردوسا مفقودا، سواء كان الماضي قريبا أو سحيقا.
هناك مقالات تأخذ القراء إلى «فردوس» مصر، أيام السادات، وعقلانية خطوته للتطبيع مع الكيان الصهيوني، قبل فوات الأوان. ومقالات تسرد مناقب الرئيس الليبي القتيل معمر القذافي، وأخرى تتذكر بحنين يكاد يكون مقدسا زمن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بعد انقلاب زين العابدين بن علي عليه. لتليها موجة الأسى على نظام بن علي بعد الثورة التونسية في 2011 وهربه إلى السعودية. وإن نسينا الإشارة إلى مقالات تترحم على رؤساء أو ملوك مثلوا حقبة زمنية متميزة، لسبب أو آخر، في تاريخ شعوبهم، فليس بإمكاننا، عراقيا، نسيان الملك فيصل الثاني (اغتيل في 1958) وعبد الكريم قاسم ( اغتيل عام 1963) وصدام حسين الذي أعدم في 2006، والعراق تحت الاحتلال الأنكلو أمريكي، مما أكسب المقالات المترحمة على حكمه، والممجدة لشخصه، نكهة مغايرة. للمقالات المتحسرة على آخرين.
هل كان يوم أمس، في بلداننا، أفضل من اليوم فعلا؟ أم أنه الماضي المُثقل بذاكرة تنسى أو تتناسى بانتقائية؟ كما نلاحظ الآن في سردية ما بعد التحرر من الاستعمار وتحسر البعض على الاستعمار بعد سقوط الحكومات الوطنية في خنادق القمع والدكتاتورية والفساد؟ هل الإحباط وخيبات الأمل هي التي تقود شعوب البلدان العربية، في جلسات تبادل الذكريات المغموسة بالآهات، للتشبث بـ« الزمن الجميل»؟ الزمن الذي بات افتقاده حنينا وغصة قلب تقود إما إلى جلد الذات لتقليل مستوى الانخراط بالحاضر أو غالبا جلد الآخرين وإلقاء اللوم عليهم، لنفس الغرض وإن ارتدى شكلا مختلفا؟ والنتيجة هي الغرق في النكوص إلى الماضي والتشبث بما يُرى كأمجاد، تتجاوز الحكام، مكتسبة قيمة تاريخية ترفعها إلى مرتبة الخلود أحيانا. فَمَن مِن المثقفين، وعامة الناس، لم يقف مع الخليفة المعتمد بن عباد متماهيا، متناسيا مجونه وإسرافه، في لحظة نفيه من الأندلس؟ اللحظة التي تجاوزت كحدث تاريخي شخصية بن عباد، مؤرخة لما هو أعمق وأبعد تأثيرا، لهزيمة ساحقة، لاتزال أجيال من العرب والمسلمين تحملها في ذاكرتها، تتوارثها وتورثها للأجيال المقبلة، راسمة بذلك بعض ملامح مستقبلها. الذي أضيف اليه، مؤخرا، ندم شرائح أو طبقات من الشعوب العربية على تغيير حكامها/ الأنظمة وما تلاه من تغييرات سياسية واقتصادية وأمنية.
إن الرؤى الرائعة الكاسحة لأناس ينهضون منتصرين مثل موجة مدمرة ضد مضطهديهم محولين عالمهم بالنظريات والشعارات إلى عالم جديد وأرض عدل وحرية وأخوة، هي في أحسن الأحوال أوهام كبرى
الملاحظ أن حالة الحسرة على «الماضي الجميل» لا تقتصر على الشعوب العربية فقط بل تشمل شعوبا أخرى. يتساءل الكاتب الأوكراني رومان بودليان في مقالة له عما إذا كان الأوكرانيون قد ندموا على قيامهم بثورتهم في ظل ما جلبته من عدم الاستقرار؟ أجاب على تساؤله آلاف الأوكرانيين. فكتب ملخصا الأجوبة « يعتقد العديد من الأوكرانيين أن هذه لم تكن «ثورة» على الإطلاق بل انقلابًا، أوصل إلى السلطة أسوأ الحكومات الأوكرانية. كان لـ «الثورة» 52 بالمئة من المؤيدين في أحسن الأحوال. أن مؤيدي الانقلاب أو «الثورة» كانوا أقلية اعتبارًا من عام 2015. الأغلبية لم تدعمها أبدًا أو تندم على دعمها. البلد في حالة من الفوضى، وانخفضت مستويات المعيشة بين 200 ـ 300 بالمئة، وتفشى الفساد وجرائم الشوارع، ومهرجون في البرلمان والحكومة وحرب. غادر الملايين البلاد إلى الأبد».
ألا تماثل هذه الخلاصة، إلى حد التطابق تقريبا، حال عديد البلدان العربية والأفريقية؟ تساعدنا قراءتهاعلى تفكيك اعتقاد كل شعب بأن ما يمر به لا مثيل له في العالم، مما يشجع على خلق عقلية « الغيتو» ويقلل من فرصة استخلاص الدروس من الماضي، وبالتالي عدم القدرة على تجاوزه. فما يدفع الشعوب إلى الثورة أو الانتفاضة، متشابه على الأغلب مع بعض الفروق البسيطة. والثورات هي وليدة الاستياء العام من الظلم والقمع السياسي، والقيود المفروضة على حرية الرأي والدين، وعجز الحكومات عن تلبية احتياجات الشعب الأساسية الاقتصادية. إلا أن التاريخ يعلمنا أن الثورات، بكل طموحاتها للتغيير نحو الأحسن، لا تنجح في تحقيق ذلك. وسرعان ما تجد الشعوب نفسها في ذات الحلقة، بلا تغيير حقيقي، بعد أن يدب الخلاف بين الثوار أنفسهم، لأسباب داخلية وخارجية، ويفشلون في تحقيق الوعود. حينئذ تسيطر على السلطة قوة تفضل إعادة تدوير السلطة إلى ما كانت عليه، سابقا، بقيادة دكتاتور، والشروع بمعاقبة الخصوم. فيرى الشعب، جراء إخفاق تحقيق مطالبه وتوقعاته، أن الأمور تسير من السيئ إلى الأسوأ. وهنا منبع الحنين الى أيام الحكم السابق و«الماضي الجميل». ولا تخلو بلدان عربية وأفريقية ممن يُعبر عن حنينه لا إلى الأنظمة الدكتاتورية القمعية بل يذهبون أبعد من ذلك في حنينهم الى عودة الاستعمار الأجنبي بذريعة التخلص مما يسمونه « الاستعمار الداخلي».
وقد أشار الكاتب النيجيري الراحل تشينوا أتشيبي إلى هذه التوجهات في ذات الوقت الذي أولى فيه اهتمامه لتوثيق آثار الاستعمار المأساوية على الشعب، روائيا، بالإضافة الى الفساد الذي سرعان ما يشوه ويلتهم الثورة، قائلا:
«إن الرؤى الرائعة الكاسحة لأناس ينهضون منتصرين مثل موجة مدمرة ضد مضطهديهم محولين عالمهم بالنظريات والشعارات إلى عالم جديد وأرض عدل وحرية وأخوة، هي في أحسن الأحوال أوهام كبرى. نعم، أنه مد متصاعد، ولكنه لن يكون كذلك في الألفية التالية. فالقامعون الجدد كانوا قد أعدوا أنفسهم سرًا في التيار السفلي قبل أن تبدأ موجة المد بوقت طويل». وهو مصير يكاد يكون مؤكدا إن لم تتمتع الثورة بمناعتها الداخلية المستندة إلى احساس الناس بملكيتها.
1168 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع