العراق السياسي بين دعاة القبول بالغرب و مناصري التقليد والأمة والهوية
لقد تم تعريف مصطلح "الغرب" في العراق من قبل أصحاب التماهي مع الهوية والتقليد والأمة كمرادف للعلم والفردانية بإعتبار إن أصوله تعود الی المسيحية و أصبحت نظرتهم المليئة بالإنغلاق والعودة الی التقاليد في العقد الأخير من القرن الماضي و بالأخص عندما بدأ النظام البائد بالترويج لـ"الحملة الإيمانية"،
بعد أن أفلس في نشر فلسفته في الإشتراكية القوموية الكاذبة، تأخذ شكل رفض التغريب والتحديث بل و حتی رفض بعض من العلوم الطبيعية الأساسية، ذات الطابع الكوني، لتكتسح حيز جغرافي واسع من الفلسفة اليومية المبنية علی الآلية الفكرية الدفاعية. و هكذا فقَدَ عِلم الإجتماع الخلدوني معياره الذي كان مسيطراً الی أواسط الثمانينات من القرن الماضي ليستعيد معيار إبن تيمية المقام الأول في التفسير والتأويل و العودة الی الموروث بوصفه "العصر الذهبي" و العمل علی تجفيف ينابيع الإنضواء في نظام الفكر الكوني و الإبتعاد عن العقلانية الحقة و عن نقد يطال الذات والآخر بآليات الفحص التاريخي الأصيل.
و بعد سقوط نظام البعث الإستبدادي القمعي عام 2003 أستطاعت أحزاب دينية بتفاسيرها الثيولوجية الماورائية للدولة إعتلاء السلطة و أخذ زمام الحكم في العراق بيدها مشيرة بطريقة حاسمة إلی وجوب الإبقاء علی "الهوية الدينية" لإنهاء البحث المطلق عن الغرب و الفكر الغربي في الديمقراطية و رفض العمل علی تثبيت المؤسسة الفدرالية ناهيك عن التقارب مع الفكر الكوكبي البعيد عن عالم الأصوليات الضيقة والدوغمائيات الإصطفائية المتحجرة القائمة علی تعظيم النرجسية الثقافية و ظاهرة الزعيم الأوحد و الحاكم المطلق أو المرشد الملهم. فانتشرت كتب دينية مصبوغة بالصبغة الإيديولوجية القائمة علی إمتداح الرؤية الإسلامية و التهجم علی الرؤية الغربية لتعزيز النرجسية العقائدية عند الآمنين بها.
نحن نری بأن العملة الفكرية والرمزية المبنية علی الرهانات الدينية لم تعد تجدي في صناعة الحياة والإقامة في العالم. فهناك أزمات كونية و تحديات و أخطار لا يمكن مواجهتها بزرع جراثيم التضاد و منطق الصدام و عقيدة الإصطفاء و عقدة الضحية و لغة الطوبی و ذهنية المحافظة و خرافة المماهاة أو بـ"البداية والنهاية" لإبن كثير أو "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" لحجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي أو "نفحات الأنس" للجامي أو "عوارف المعارف" للسهروردي و "كشف المحجوب" للهجويري. أحوج ما نحتاج اليه الآن هو إدارة هوياتنا و أفكارنا و ثرواتنا و علاقاتنا بالعالم بإبتكار الجديد من الصيغ والمهام أو الطرق والوسائل والسبل. إذن مالنفع من الإنشغال بأسئلة و مشكلات و قضايا قديمة و ميتة أو زائفة و ترك الغير أن يفكر بصورة خلاقة و مثمرة؟
إن نشر ثقافة التطرف والتعصب و الكره والخوف والعداء والقتل والإنشداد الی الوراء و عبادة الأسماء والأفكار مآلها عراقياً أو إقليمياً تفخيخ العلاقات بين القوميات والمذاهب و الإنتقال من مأزق الی مأزق و من صدمة الی أخری ومن خسارة الی خسارة أكثر فداحة.
لا يمكن مجابهة التحولات بدغدغة العواطف أو إثارة روح الثأر و الإنتقام و العودة الی الأصوليات المقدسة لإنتاج برابرة جدد منذورين لتخريب معالم التمدن والحضارة أو بالعقائد النبوية بحروبها الدينية و سياساتها الإلهية الإنتقامية أو بتشبيحات نضالية و تهويمات تحررية.
الأولی للحكومة العراقية الإتحادية التمرس بقواعد الحوار والتعاون والتداول للتغلب علی عقلية الإحتكار و الإنفراد و الإستقواء عن طريق عقليات تفاوضية تواصلية مشرّعة علی تعدد الخطوط والمدارس، أو علی تنوع الخيارات والمواقف، أو علی غنی الخبرات والتجارب و العمل علی تشكيل المشترك من الأسواق والمساحات و المجالات و اللغات لبناء و ترسيخ الشراكة مع الإقليم الفدرالي والمحافظات العراقية الأخری و الإقرار بكافة الحقوق السياسية أو الثقافية بكسر منطق التمييز و الإقصاء.
وختاماً: "من يعتقد أن بإمكانه كرسول للحقيقة و الهداية أو كمحام عن العدالة والحرية أو كناطق باسم الهوية الثقافية للعراق أن ينوب غيره في التفكير والتعبير والتدبير و يسعی إلی القبض علی واقع المجتمع الكوردستاني و إستئصاله من خلال أطيافه و أحلامه التي من الممكن أن تفرز العنصرية والتطهير العرقي تاركاً سياسة الإعتراف بالآخر المختلف، بعيداً عن إتقان لغة التعدد، هدفه لا يمكن أن يبتعد عن ممارسة العنف والتوحش بوسائل الحجب و آليات التمويه والتلاعب والتمايز والتفاوت."
الدكتور سامان سوراني
891 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع