رحلة الشتاء الى اندونوسيا

 رحلة الشتاء الى اندونوسيا


بقلم احمد فخري*

منذ امد ليس بقريب وانا افكر بزيارة اندونوسيا كي استكشفها للمرة الاولى. ذلك البلد الاسيوي الذي وصل تعداد سكانه الى الربع مليار مواطن والذي لا اعرف عنه الا الشيئ اليسير. فهي اكبر دولة بالعالم من حيث احتوائها للجزر الكثيرة والمترامية الاطراف إذ يبلغ عددها 17500 جزيرة. وعندما سنحت لي الفرصة في التعرف على صديق من ذلك البلد وافقت فوراً على دعوته الى بلده دون تردد وقررت شد الرحال باقرب فرصة ممكنة. اخبرني صاحبي الاندنوسي (زكي) بان لديه اجازة طويلة الامد اين يعمل في هونغكونغ ابتداءاً من 14 كانون الاول ديسمبر من العام المنصرم 2024. لذا، باشرت بحجز اول رحلة متاحة الى العاصمة جاكارتا بالرغم من انني لم اتمكن من الحصول على حجز يوصلني الى هناك بنفس يوم عودة صاحبي الى وطنه لذلك وصلت قبله بثلاثة ايام. وبما انني رحال متمرس ولا اترك للحظ مجال كي يصيبني بالدهشة والذهول. قمت بالاتصال بسفارة اندونوسيا هنا في الدنمارك وسألتهم إن كان لديهم اي متطلبات او تأشيرات استثنائية يمكنني الحصول عليها قبل البدئ بالرحلة لكنهم اكدوا لي ان تأشيرة الدخول بالامكان الحصول عليها في المطار عند الوصول الى جاكارتا لانني احمل الجواز دنماركي (ابو النعلچة).

في مساء الثلاثاء من يوم 10 اقلعت بي طائرة الخطوط الهولندية KLM من مطار كوبنهاكن متجهة الى امستردام. وبعد طيران قصير دام ساعة ونصف هبطت الطائرة بمطار سكيبول الدولي العملاق. واول شيء صدمني بذلك المطار المهول حين دخلت قاعة الوصول هو سوء تنظيمه لانه يفتقر الى شاشات الارشادات التي يستدل بها المسافر على وجهته التالية. اخترت ومشيت باتجاه واحد لا على التعيين فوجدت نفسي في ممر طويل جداً يكاد يصل طوله الى كيلومتر كامل تقريباً. بدأ الخوف يدب في قلبي لانني إذا كنت مخطئاً بسيري فسوف اضطر الى العودة ادراجي كي اقطع نفس المسافة اياباً. لذلك دست على كرامتي واقتربت من فتاة شابة تعمل كبائعة للمأكولات وطلبت منها المساعدة. كانت الفتاة في غاية اللطف. طلبت مني بطاقة ركوب الطائرة لتتفحصها جيداً ثم اتصلت عبر هاتفها النقال وكتبت بقلم احمر على بطاقتي قالت، "استمر بسيرك في هذا الاتجاه حتى تصل الى البوابات. وهناك ستتبع البوابة D25. شكرتها كثيراً وواصلت المشي بالممر الطويل. ولما وصلت القاعة الكبيرة التي اشارت اليها بدأت اميز بين يافطات المسالك والدهاليز التي تؤدي الى مقصدي. وعند بلوغي البوابة الصحيحة لرحلتي. تفحصوا بطاقة ركوبي للطائرة وادخلوني قاعة ثانوية مع باقي المسافرين انتظاراً للاذن بالصعود الى الطائرة. لم يدم انتظارنا كثيراً حتى اذنوا لنا بركوب الطائرة العملاقة التي كانت من نوع بوينغ 777. اخذت موقعي على الكرسي المخصص لتنطلق بنا الطائرة هذه المرة في رحلة طويلة ومملة جداً امدها 11 ساعة الى... الى... الى... كنت اعتقد اننا متجهين الى جاكارتا عاصمة اندونوسيا وهذا ما حجزته عبر تطبيق موموندو على الانترنيت. فالتطبيق اخبرني ان لدي تغيير واحد فقط الا وهو امستردام. لكن الذي حصل هو ان هناك حيلة تتبعها شركة الطيران (الرصينة) او بالاحرى كانت رصينة في الماضي. فقد تفاجأت من الرجل الهندي الكهل الذي كان يجلس الى يميني حين سألني إن كنت متجهاً الى ماليزيا. فقلت له بكل سذاجة، "كلا يا عمي، هذه الطائرة متجهة مباشرة الى جاكارتا عاصمة اندونيسيا ". لكنه قال وبكل ثقة، "سنهبط نحن اولاً في كوالال لمبور عاصمة ماليزي، ثم تطيرون انتم من جديد لتأخذكم الى جاكارتا". كانت كلماته قد اثارت حفيظتي. فهل من المعقول ان تكذب علينا شركة عريقة مثل الهولندية بعدد محطات الهبوط؟ لقد تأكدت بلا شك انني طلبت وقفة واحدة في رحلتي الكاملة اي كوبنهاكن-امستردام- جاكارتا فلماذا اقحموا كوالالمبور بآخر لحظة؟ لا، لاعتقد انهم اقحموها آخر لحظة لان المسافر الجالس الى يميني قال انه اشترى تذكرته قبل فترة شهرين. لذلك علمت يقيناً انه اسلوب رخيص تستعمله هذه الشركة في تسويق رحلاتها الطويلة.

لا اريد الاطلالة عليكم، بعد مرور 11 ساعة (مكره اخاك لا بطل) هبطنا بمطار كوالالمبور وبقينا هناك مدة ساعة ونصف اخرى حتى خضعت الطائرة للتنظيف وتم التزود بالوقود ثم ارجعونا الى اماكنا لنخوض رحلة قصيرة اخرى امدها ساعتان وثلث فيصبح المجموع الكلي للرحلة 18 ساعة من ضمنها الانتظار بمحطات الوقوف في المطارات اثناء الرحلة. طبعاً ليس من السهل وصف حالة الارهاق الذي كنت اعاني منه بعد رحلة شاقة من هذا القبيل وخصوصاً الشعور بالخذلان لانهم (لعبوا علينا تكت) كما نقول. سمعت القبطان ينبئنا بالمذياع اننا شارفنا الهبوط بمطار (سوكارنو الدولي). يا الهي اسموا مطارهم باسم مفجر ثورتهم ومحرر البلاد من الاستعمار الهولندي (احمد سوكارنو). فجأة تذكرت ان ذلك الرجل جاء لزيارة العراق عام 1961 فاستقبله الرئيس الراحل عبد الكريم قاسم رحمه الله. واذكر الاهازيج الشعبية التي جالت بالشوارع وهي تهتف، "سوكارنو اهلاً بيك، شعب العراقي يحييك". اجل انا ذاهب الى موطن سوكارنو بعد عقود طويلة.

احمد سوكارنو الرئيس الاول لجمهورية اندونيسيا

توقفت الطائرة عن الحركة وبدأ ركاب الطائرة يمارسون توترهم المعهود في الرغبة بالنزول من الطائرة وتلك طبعاً مسألة طبيعية لان الانسان خلق على اليابسة ويرمو البقاء فوقها ليشعر بالراحة والامان. بدأ الجميع بالسير ببطئ شديد حتى وصلني الدور فتتبعت الركب وخرجت خارج جسم الطائرة لادخل مطاراً عملاقاً يضاهي المطارات العالمية الكبرى التي هبطت او اقلعت منها بحياتي. كان التنظيم واضحاً وكان الغالبية العظمى من الموجودين حولي هم من المواطنين الاندنوسيين يسيرون بهدوء نحو مقاصدهم. استمريت بالمسير حتى وصلت البوابة الخارجية لانفذ منها لكن الموظف الموجود هناك اخبرني بانني لم ادفع رسوم التأشيرة لدى VOA والتي تبلغ 330000 رݒية.

مبلغ كبير حقاً لكنك عندما تحوله الى الدولار الامريكي يصبح مجرد 20 دولاراً. وقفت في الطابور وانتظرت حتى وصلني الدور فتحدثت مع الموظفة التي ارتسمت على وجهها ابتسامة سمحة، استحصلت مني المبلغ واعطتني مقابيل ذلك وصلاً بالاستلام. وقتها حمدت الله على انني مسافر متمرس لانني قمت بتصريف ما يقرب من 200 يورو الى العملة الاندنوسية مسبقاً قبل الرحلة تحسباً لاي ظرف طارئ. والا لكنت الآن ابحث عن مكان اقوم بتصريف اليوروات الى رپيات. سرت بعدها متجهاً مكان وصول الحقائب فرأيت حقيبتي تدور وحدها كالايتام على حزام بعيد فالتقطتها ومشيت باتجاه المخرج. لكن شاباً آخر هناك تحدث اليّ بالاندنوسية واشار بيده نحو جدار ليخبرني بان علي ملئ معلومات المسافر. اطعته وتوجهت الى الجدار فرأيت كودة (QR) كبيرة على الحائط. وجهت هاتفي نحوها فظهرت لي قسيمة فيها معلومات المسافر تتضمن اسم المسافر والفندق الذي سيسكن به ومدة الاقامة (طيب، بسيطة) لم اجد صعوبة بملأها لانها كانت بالانكليزية. توجهت بعدها الى الشاب للمرة الثانية وبرزت له هاتفي فأومأ برأسه هذه المرة علامة الرضى بما شاهد على هاتفي وسمح لي بالخروج. وقتها علمت انني الآن حرٌ طليق في داخل الاراضي الاندنوسية. خرجت خارج مبنى المطار فجابهتني لفحة من الهواء الساخن التي اعادت اليّ ذكريات الماضي حينما كنت اخرج من مطارات البلدان الاكثر سخونة كبغداد او بيروت او ابوظبي. اول شيء بحثت عنه هو سيارة اجرة تقلني الى الفندق. لم اشاهد سيارات اجرة بل رأيت اساطيل منها تنتظر نقل المسافرين الى وجهاتهم. لكنني وكما تعلمون كنت قد قرأت في الانترنيت قبل السفر عن اجرة التاكسي من المطار الى مركز العاصمة جاكارتا فوجدت انها تتراوح ما بين 230000 الى 260000 روبية. اي 14 الى 16 دولار امريكي. لكن اغلب السائقين اخبروني بان المبلغ سيكون حوالي 500000 اي 31 دولار. لذلك شعرت انهم يحاولون خداعي. لكن في الواقع انني لم اتأقلم بعد على عملتهم، لذلك كان الخوف من الاستغفال يتلبسني بكامل حلته. لا اريد الاطالة، وجدت سيارة اجرة وافق سائقها على نقلي بمبلغ وقدره 300000 اي 18 دولار فقط. وضعت حقائبي بالسيارة وانطلقت بي متجهةً الى جاكارتا. دامت الرحلة حوالي ساعة وربع تخللها زحام شديد خانق في مدخل العاصمة. فجاكارتا تعاني من زحمة السير بجميع ساعات اليوم وليست ساعات الذروة فحسب. وصلت الفندق مع الساعة السابعة مساءاً اشعر بارهاق كبير بعد رحلة طيران طويلة تخللتها توقفات مبررة وغير مبررة. لكن التعب زال تماماً عندما لاقتني وجوه مبتسمة ترحب بقدومي في الفندق. كان الموظفون الثلاثة في خانة الاستعلامات يعلمون جيداً ان النزيل قد يكون عانى من عناء السفر لذلك لم يؤخروني اكثر من دقائق معدودات حتى وضع احدهم امامي بطاقة الكترونية تعمل بمثابة مفتاح للغرفة وقال، "غرفة رقم 102 بالطابق الاول سيدي". شكرته وسرت وراء النادل الذي قام بسحب حقائبي ورائه وانا اتوق للسرير الذي ينتظرني. لكننا عندما وصلنا الغرفة جابهتني اول معضلة. كانت باب الغرفة تمس الارض فتصدر صريراً مزعجاً للغاية. لكنني قررت ان اتغاضى عن ذلك مقابل استلام السرير ووضع جسدي المنهك عليه. شكرت النادل واعطيته بخشيش كان يبدو كبيراً بنظري وهو 10000 ربية علمت بعدها انها اقل من دولار واحد. وبعد ان رحل نظرت حولي فلم اجد الخزنة الفولاذية التي كنت قد قرأت عنها في الموقع الالكتروني عندما حجزت الفندق. فالخزنة بالنسبة لي هي في غاية الاهمية. استطيع من خلالها ايداع جواز سفري ونقودي والامور المهمة التي لا انوي حملها في الايام الاعتيادية. لذلك قررت ان اتحدث مع الاستعلامات بالهاتف الداخلي للتعبير عن سخطي. ولكن اين الهاتف؟ هل يعقل ذلك؟ لم ارى بحياتي فندقاً بالعالم لا يملك هاتفاً ارضياً بداخل الغرفة. هنا بدأ محرار (الثرمومتر) يرتفع لدي الى الذروة. تركت حقائبي بالغرفة وخرجت منها لاسمع الضجيج الذي يصدره باب الغرفة. نزلت الى الطابق الارضي لاخبرهم بكل تلك السلبيات. كان رد فعل الموظف ايجابياً تماماً لانه طلب مني الجلوس في الصالة كي انتظر حتى يجد حلاً لكل الامور العالقة. وبعد دقائق ناداني ليخبرني بانه سينقلني الى غرفة ثانية رقمها 119 بنفس الطابق والتي تحتوي فيها كل ما اريد. وافقته وصعدت مع احد النوادل فقام بنقل امتعتي من الغرفة الاولى الى الغرفة الثانية. اول شيء تفحصته هو الخزنة الحديدية لاتأكد من عملها بشكل صحيح ثم تأكدت ان الباب لا يصدر تلك الاصوات المرعبة فأعدت فتحه وغلقه عدة مرات فلم يصرخ. اغلقت الباب ورائي وتعريت بالكامل لادخل الحمام واستمتع برذاذ الدوش الساخن فانفض عني كل السلبيات التي واجهتها في ذلك اليوم المتعب. لكن هذه المرة وجدت ان الدوش ضعيف جداً وبالكاد يخرج رذاذاً بسيطاً لا يسمن ولا يغني من جوع. لم اكن لاعترض مرة اخرى فحالتي الجسدية لم تعد تحتمل. تقبلت وضع الدوش واغتسلت جيداً حتى ارتمي بجسدي الواهن فوق السرير الذي صار يستدعيني بالحاح. فورما وضعت جسدي فوقه غرقت بنوم عميق وكأنني تلقيت حقنة بنج قبل عملية جراحية. لا اعلم كم بقيت على تلك الحالة حتى سمعت صوتاً يأتيني من بعيد. تحققت من الصوت وإذا به صوت اذان المغرب. اجل يبدو انه يأتي من جامع قريب من الفندق. أنتفظت مرة اخرى وتوجهت الى الحمام لاتوضأ ثم ارتديت بنطالي وقميص خفيف لان درجة الحرارة كانت بحدود الـ 30 في ذلك الوقت. نزلت الى الشارع وانا مازلت اتتبع صوت الاذان فعلمت انه قريب جداً من الفندق. خلعت حذائي بالخارج ودخلت الجامع فجائني طفل لا يتعدى العشرة سنوات اعطاني وزرة لاستوزرها. كنت اعلم ان بنطالي الجينز يفي بالغرض لاداء الصلاة لكنني لم اعارضه. فهمت ان التقاليد بذلك البلد تتطلب من المصلين ارتداء الوزرة اثناء الصلاة. فتذكرت المثل الانكليزي القائل، "عندما تكون بروما، افعل ما يفعله الرومان". لذا اخذت منه الوزرة وارتديتها فوق بنطالي وطلبت منه ان يزودوني بكرسي للصلاة فجائني بتختة بلاستيكية صغيرة اسندتها على احدى العواميد بالجامع واديت الصلاة مع المصلين. بعدها رجعت الى الفندق سيراً على الاقدام يراودني شعور جميل بالرضى. نمت بذلك اليوم ولم استيقظ حتى صباح اليوم التالي.

وفي اليوم التالي تذكرت ان موظف الاستعلامات اخبرني ان وجبة الافطار تقدم ما بين الساعة السابعة والعاشرة صباحاً وتقام في المطعم بالطابق السابع للفندق. لذلك قمت بجميع استعداداتي ثم ركبت المصعد الكهربائي الى الطابق السابع. هناك وجدت بوفية مفتوحة عليها كل ما لذ وطاب من الاطعمة الشهية التي تصلح لان تكون وجبة غداء لا افطار. لكنني لا اقوى على تناول وجبة دسمة في ذلك الوقت من اليوم. لذلك اكتفيت بقطعتي خبز محمصة مع القليل من الزبدة والمربى وفنجان قهوة. (ساحدثكم عن القهوة لاحقاً). اما القاعة التي لديها مهمتين. الاولى هي مطعم تقام فيه وجبات الافطار والثانية يتحول المكان الى مرقص ليلي يبدأ العمل فيه بعد الساعة التاسعة مساءاً. اول شيء صدمني هو شدة برودة التكييف الذي فتح على آخر درجة. لكنني تحملته على قدر فترة الافطار البسيطة التي تناولتها. وبعد ذلك نزلت الى غرفتي مرة لاخرى وبدأت اتفحص هاتفي كي اعرف اسماء المجمعات التجارية (مولات) في جاكارتا. الموقع على الانترنيت سطر لي الاسماء التالية:

بعد ان تسلحت بتلك المعلومات. بدأت ابحث عن مواقع هذه المولات جغرافياً نسبة الى الفندق فوجدت ان الاول اي (ليپو مول) هو الاقرب لانه يقع بمنطقة كامانگ. ركبت سيارة اجرة وطلبت منه نقلي الى ذلك المجمع. سارت بي سيارة الاجرة لاقل من 10 دقائق ثم وقفت امام المجمع ليطلب مني السائق 30000 ربية اي 1.8 دولار فقط.

دخلت المجمع فوجدت فيه منظراً جميلاً جداً. كانت جميع الماركات العالمية حاضرة بشكل ملفت للنظر. والمحلات والبوتيكات وزعت بصورة انيقة ومنسقة تبعث الانشراح لدى المتسوق.

بحثت عن مقهى استطيع ان اجلس فيه واترشف فنجاناً من القهوة لانني لم اعجب كثيراً بالقهوة التي تناولتها اثناء الافطار بالفندق. الا انني اصبت بخيبة امل للمرة الثانية. صحيح ان ثمنها كان لا يتعدى الدولارين لكن إنساناً مدمناً على القهوة مثلي لا يمكن ان يرضى بواحدة من هذا النوع وبهذه الخاصية المتدنية. وهذا ما اردت ان اشير اليه مسبقاً. فخلال فترة بقائي باندونيسيا لم يسعفني الحظ ان استمتع بقهوة تشفي غليلي. الاندنوسيون لديهم هوس كبير بمشروبات الاعشاب الصحية. لذا تجد لديهم جميع انواع الشاي بالاعشاب لكنهم لا يعرفون الى الكافايين سبيلاً. وكانت تلك هي مأساتي خلال الخمسة عشر يوماً التي قضيتها هناك. لذلك انصح كل من ينوي شد الرحال الى هناك كي يأخذ معه قهوته المفضلة. اما الشاي فقد كنت ذكياً بما فيه الكفاية إذ اخذت معي بعضاً من اكياس الشاي المفضلة لدي (الوزة طبعاً) وكنت اشربها فقط في الصباح الباكر لدى مطعم الفندق.

لا اطيل عليكم. تمشيت كثيراً في المول وتناولت وجبة الغداء باحدى المقاهي هناك اذ حظيت بساندويش كبير حيدري يحتوي على لحم الديك الرومي (العلي شيش) والجبنة والسلطة المقرمشة.

بعدها واصلت رحلة الاستكشاف. وعند الانتهاء من التسكع بالمول صرت اشعر بالتعب فقررت الرجوع الى الفندق. طلعت من الباب الخارجي وركبت سيارة تاكسي. وبالحديث عن التاكسي، تجدر الاشارة هنا الى ان اشهر شركة تكسيات في اندونيسيا واكثرها نيلاً للثقة هي شركة الطير الازرق Blue bird taxi.

بداخل كل سيارة اجرة تجد شاشة الكترونية لوحية صغيرة (تابلت) الى جانب السائق الايسر عليها رقم كبير يشير الى 9000 ربية اي حوالي 60 سنتا من الدولار الامريكي وهذا هو المبلغ الذي يبتدئ به العداد. اجل سمعتها بشكل صحيح الجهة اليسرى للسائق. فنظام السير باندونيسيا يشبه نظيرته ببريطانيا اي ان السيارة تسير الى يسار الشارع بعكس بقية دول العالم. وخلال فترة بقائي هناك واستعمالي للكثير من سيارات الاجرة لم يقابلني سائق واحد متعجرف او متأفف او عبوس او بطران او صلف او متذمر. جميعهم كانوا في غاية اللطف والاخلاق الحميدة. حكيت ذلك لصاحبي العراقي عندما جاء ليزورني هنا بالدنمارك بعد عودتي من السفر لانه اعترض على كلامي لكنني صدمته عندما سألته، "هل تقارن سائقي التاكسي في اندونيسيا بسائقي التاكسي في اسطنبول او اثينا او لندن مثلاً؟ فطأطأ رأسه الى الاسفل وقال، "لديك الحق".

دعني اكمل سردي للاحداث، في المساء خرجت بجولة تفقدية اخرى سيراً على الاقدام حول الفندق. وبعد صلاة المغرب قادني انفي الى رائحة شواء قاتلة تأتي من مسافة بضعة مئات من الامتار. ولما وصلت الى المصدر وجدته مجمع اطعمة شعبية يطلقون عليه محلياً بـ Food court.

دخلت المجمع واشرت لعامل الشوي (الكببچي) كي يعد لي 10 اسياخ خشبية مما يطلق عليه اسم سوتي. لكنني طلبت منه سدىً ان يحضر لي زجاجة كوكا كولا لانه كما اسلفت، قليلاً ما يستعمل في ذلك البلد لذلك جائني بقارورة ماء باردة ووضعها امامي. بعد ان تناولت السوتي وأطمسته بصوص مصنوع من عجينة الفول السوداني المغرقة بالصويا الحلوة اللذيذة طلبت منه عشرة اسياخ اخرى وقلت لنفسي (هي خربانة خربانة). تناولت الاسياخ وامتلأت معدتي بذلك الطعام اللذيذ. فصدمتني فاتورة من العيارة الثقيل بعد الوجبة. 55000 ربية اي 3.4 دولار. ضحكت وانا فاتح فمي على تفاهة المبلغ وحمدت الله على تلك الوجبة الشهية المشبعة. بعدها تمشيت في المنطقة حتى بلغت فندقي ذو النجوم الثلاثة فاويت الى فراشي كي استقبل يوماً جديداً من الاستكشافات.

وبعد مرور المدة التي كنت انتظرها اي في يوم 14 ديسمبر توجهت الى مطار جاكارتا لاستقبل صديقي المرتقب زكي. وصلت طائرته بالوقت المحدد فاستقبلته بحفاوة كبيرة. كان وجه حاله يقول بانه خجول مني لانه وصل بعدي لكنني اكدت له انني تعمدت الذهاب قبله كي استكشف العاصمة قبل قدومه وبقائه في نفس فندقي بالغرفة المجاورة رقم 120.

وباليوم التالي ذهبنا سوية بعد الافطار الى مجمع تجاري جديد اسمه Grand Indonesia Shopping Town . كان هذا المول واحداً من المجمعات التي كان على رأس قائمتي لذلك رحبت بالفكرة. سارت بنا سيارة الاجرة لاقل من ساعة بقليل وسط العاصمة الكبيرة جاكارتا ذات العشر ملايين ونيف من السكان وانا انظر الى البنايات الكثيرة المنتشرة في العاصمة والكم الهائل من الدراجات النارية التي تسير باعجوبة دون ان تصطدم ببعضها البعض. دخلنا ذلك المول وصرنا نتجول بداخله وفجأة اصبت بمفاجأة جديدة. فلقد رأيت منظراً مألوفاً لدي او بالاحرى كان مألوفاً لدي في بغداد وقت طفولتي. انه مخزن بـــاتـــا للاحذية.

وا حسرتاه على باتا وايام باتا. انه احساس غريب خلط عندي الماضي بالحاضر فطلبت من صاحبي ان يصورني مع ذلك المخزن العريق. وبعد ان توارت فترة اندهاشي بذلك المحل الاسطوري بدأنا نشعر بالتعب فقررنا الجلوس باحدى المقاهي هناك وطلبنا نوعين مختلفين من القهوة. وكألعادة لم اكن لارضى بالقهوة التي قدمت اليّ رغم ارتفاع ثمنها (نسبياً). رجعنا بعدها الى الفندق لاستدعي صاحبي على وجبة سوتي لدى الكببچي بالمنطقة. وقتها اكتشفت من خلال معرفته باللغة انهم يقدمون السوتي بالسمسم ايضاً. لذا كان لذلك اليوم اكتشافات لذيذة وجديدة عندي.

اخبرني زكي بان عليه زيارة ابنته واهله في مدينة (بوگور Bogor) القرية التي تبعد مسافة ساعة عن العاصمة. وانه سيتركني وحدي لمدة يوم واحد فقط. اخبرته بانني اصبحت الآن ابن جاكارتا ولا وخوف علي ولا هم يحزنون. فودعته وبقيت وحدي لمدة يوم كامل. اتصل بي هاتفياً باليوم التالي وطلب مني الاذن بالبقاء ليوم اضافي فاخبرته بان ذلك امر يسير وبامكانه البقاء هناك بقدر ما يشاء.

بعد مغادرته الى مدينته بوگور بقيت وحدي استكشف العاصمة التي تحتاج الى زمن طويل كي تتعرف على جميع معالمها. لكنني ومع شديد الاسف لم اتمكن من زيارة واحد من اكبر جوامع جاكارتا (جامع الاستقلال). او كما يسمونه مسجد الاستقلال في جاكارتا لانه يعتبر رمز للحرية والتسامح والتحرر من الاستعمار. يعود تاريخ بناء المسجد إلى فترة الاستقلال عن الاستعمار الهولندي عام 1945 بعد أكثر من 350 عاما من الجور وظلم الدولة الاوروبية المنادية بالديمقراطية والحرية والمساندة لحقوق الانسان. إذ طمح الإندونيسيون إلى تشييد مسجد يمثل رمزاً للحرية والاستقلال والافتخار لشعبه ويصبح مكانا مقدسا للعبادات.وأطلق أول وزير ديني في الحكومة الإندونيسية آنذاك العلامة وحيد هاشم و200 من الرموز الإسلامية أخرى -أمثال العلامة أغوس سالم وأنوار تشوكرو أمينوتو فكرة بناء مسجد يحمل اسم "الاستقلال"، وكان ذلك سنة 1953.

مسجد الاستقلال جاكارتا

كان السبب الحقيقي الذي منعني من زيارة هذا المسجد هو بعده الكبير عني فقد كان بالجهة المقابلة للعاصمة الى المنطقة التي يقع فيها الفندق. لذلك اكتفيت بالصلاة في المساجد المحلية القريبة.

بعد يومين اتصلت بصاحبي زكي فقال لي انه سيتأخر في المجيء الى جاكارتا لان لديه حدثين مهمين بمدينته. الاول هو حضور اجتماع الاباء لابنته (فطرية). والثاني هو انه سيعمل جلسة ذكر في بيته وذلك تبركاً بالبيت الجديد الذي اشتراه مؤخراً. هنا علمت ان تلك ستكون فرصة ذهبية كي اتعرف على عادات وتقاليد الاندنوسيين لذلك قلت له، "لماذا لا احضر انا الى مدينتك بوگور واتابع اجتماع الاباء وجلسة الذكر بمنزلك؟". لم يصدق زكي ما طلبته منه فقد فرح كثيراً ورحب بالفكرة ثم اعطاني الارشادات كي احضر الى مدينته بذلك اليوم. ركبت سيارة اجرة زرقاء وتوجهت بها الى مدينة بوگور لاصلها بعد حوالي ساعة فرأيت صاحبي ينتظرني بوسط المدينة كما وعدني. حياني بحرارة وركب معي كي يأخذني الى مدرسة ابنته فطرية. وفي الطريق سألته عن سبب تسمية ابنته بهذا الاسم الغريب قال، "ولدتها امها اثناء عيد الفطر لذلك نحن نسمي المواليد بذلك الاسم". وصلنا المدرسة فرفعت رأسي لاقرأ اسم المدرسة. (مدرسة الغزالي المهنية)

اجل لقد اسموا المدرسة على اسم الامام الغزالي رحمه الله. دخلنا انا وصاحبي زكي الى الصف حيث يقوم الاستاذ المسؤول بالحديث الى اهالي الطلاب كل على حدة ويخبرهم عن اداء ابنتهم خلال السنة الدراسية. ومن خلال ما اخبرني صاحبي ان ابنته فطرية كانت من المتفوقات بالدراسة مع العلم ان اباها يعمل خارج البلاد وتسكن هي مع احدى قريباتها بالقرية.

ولدى انتهاء اجتماع الاباء جاء الاستاذ مع صاحبي زكي فعرفه بي وقال الاستاذ بلغة عربية فصحى. "يسعدني ان اتعرف على رجل يتكلم العربية بطلاقة مثلك". فاجبته بانها لغتي الاصلية وانا افتخر بها. فقال له زكي ، "الاستاذ احمد هو احد احفاد الامام عبد القادر الجيلاني". فاصيب الرجل بذهول وانفرجت اساريره وصار يرحب بي بشكل كبير.

بعد انتهاء مهمة اجتماع اولياء الامور بالمدرسة ذهبنا سوية الى منزله الجديد حيث كانت النساء يهيئن الاطعمة لجلسة الذكر التي اخبرني عنها بمناسبة اقتنائه البيت الجديد. وبالمساء بدأ المدعوون يحضرون تباعاً حتى امتلأ المنزل برمته وبدأ الذكر بقرائة آياة من الذكر الحكيم وقد انتبهوا على الطريقة التي الفظ بها كلمات القرآن لانهم يلفظونها بشكل مغاير عن اللسان العربي. وكان ذلك مصدر اعجاب لهم. بقيت حلقة الذكر لاكثر من ساعتين ثم تلتها جلسة ودية للتعارف فطرحت عليّ الكثير من الاسئلة التي رددت عليها جميعاً بكل سرور.

بعد ان انتهينا من كل تلك المراسيم قررنا العودة الى العاصمة جاكارتا فطلبت منه ان يبقى بمدينته لانه لم يبقى داعي كي يرجع معي الى جاكارتا. لكنه اصر بشكل لا يصدق ان يصطحبني الى العاصمة ويذهب معي الى المطار بعد يومين او ثلاثة لتوديعي.

باليوم التالي في جاكارتا اخبرني صاحبي انه يريد الذهاب الى مول جديد يدعى Block M square.

تفحصت القائمة على هاتفي فوجدت اسم ذلك المول وسألته عن سبب رغبته في زيارة المول قال انه مول شعبي رخيص الثمن جداً ويريد ان يقتني بعض الملابس والهدايا لابنته فطرية. وافقته طبعاً وذهبنا الى ذلك المول افاصبت بالذهول. فهو كبير ويتألف من عدة طوابق ويمتاز ببضائعه الرخيصة بالمقارنة بالمحلات والمولات الثانية. بقي يصاحبي يجول بالمول حتى عثر على ملابس في غاية الاناقة لها وباسعار مغرية جداً. وانا بدوري اشتريت عطراً زيتياً مقطراً من زهر الياسمين. اخذته معي لانني احب شذى ذلك العطر. بقينا نتجول بالمول كثيراً حتى بدأنا نشعر بالجوع فخرجنا الى محيطه لنجد مجمع مطاعم كبير يقدم كل ما لذ وطاب من الاغذية البحرية والدواجن ولحوم الابقار الشهية. بعد وجبة الغداء رجعنا ادراجنا الى الفندق وبدأت احزم اغراضي استعداداً لليوم الموالي يوم العودة.

<<< يوم العودة <<<

استيقضت في الصباح الباكر كي ابدأ استعداداتي للسفر في رحلة العودة الى الوطن لكنني لاحظت شيئاً غريباً جداً. كان لدي شعور بضيق التنفس وذلك امر ليس بغريب. فانا اعاني من الربو الحاد خلال الربع قرن المنصرم. والالتهاب الرؤوي بالنسبة لي يشكل البعبع الذي اخافه كثيراً لانه يشل حركتي ويجعلني اشعر بالتعب الشديد حتى لو مشيت اقل من مترين او ثلاثة. لكنني حاولت ان امحي الاوهام من رأسي واعتبر تلك مجرد مخاوف ستنجلي عندما اصبح بالمطار متجهاً الى الدنمارك. ولكن هيهات، فالمرض لا يعطيك فرصة ولا يمهلك كي تنجز ما تريد تنفيذه. اتضح لاحقاً ان ما كنت اخشاه قد حصل فعلاً وقد اصبت بالتهاب رؤوي حاد. لذلك اخرجت اقوى سلاحين لدي من الحقيبة وهما (المضاد الحيوي التخصصي بيوكلافيد وحبوب الكورتزون ذات الجرعة العالية). تناولتها وانا على يقين انني سوف لن الاحظ اي فرق بحالتي سوى بعد يومين او ثلاثة من تناول الادوية اللازمة. ولكن لم يكن لي خيار آخر غير ذلك. اخبرت صاحبي زكي بما وقع لي فاقترح عليّ ان اؤجل سفري حتى ابرأ من المرض لكنني اصريت على العودة بالرغم من شدة الوهن.

وكما تجري العادة دائماً، قمت بتوديع موظفي الفندق اللطفاء واغدقت عليهم بما بقي لدي من ربيات وركبت سيارة اجرة زرقاء مع صاحبي زكي الى المطار. وبعد ان ودعته ودخلت قاعة المغادرة بدأت تتملكني مشاعر مزدوجة. فمن ناحية كنت سعيداً لانني ساعود الى بيتي بالدنمارك ومن ناحية اخرى فانا جداً قلق على مجريات الرحلة. فالطريق طويل ويتخلله السير المضني بثلاثة مطارات الا وهي مطار كوالالمبور-امستردام-كوبنهاكن. لكن الفاس وقع بالرأس ولا مفر من كل ذلك. جلست بمكاني بالطائرة وانا استعمل البخاخ اليدوي بكثافة بالرغم من عدم جدواه ولكن ليس باليد حيلة. اقلعت بنا الطائرة من مطار جاكارتا وانا اشعر انني اقاد الى الموت. وبعد ما يقرب من نصف ساعة رأيت قبطان الطائرة يمر من جانبي فطلبت منه الاذن بالحديث. سألني عن حالتي فاخبرته بانني اشعر بتعب كبير اثر اصابتي بالتهاب رؤوي حاد وانني ساجد صعوبات جمة كي اواصل الرحلة بكل ما فيها من سير على الاقدام في المطارات التي سنحط فيها. وعدني الرجل بانه سيقدم لي العون على قدر المستطاع. وبعد ان غاب لنصف ساعة او اقل بقليل. عاد واخبرني بان كراسي متحركة سوف تنتظرني بجميع محطات الرحلة كي تتمكن من نقلي الى وجهتي. شكرته الشكر الجزيل ورجعت الى مكاني. لم تتحسن حالتي نهائياً خلال الرحلة الطويلة التي دامت 18 ساعة ونصف حتى وصلت الى مطار كوبنهاكن بالدنمارك حيث وجدت ابني يحيى ينتظرني بشغف كبير ليمطرني بالقبل من شدة شوقه. اخذني بسيارته وارجعني الى شقتي ثم تركني بعد ان اشترى لي الكثير من المواد الغذائية الاساسية كالخبز والزبدة والجبنة والحليب ووو.

لكن مما اصابني بالذهول حقاً هو ان حاسة الشم اصبحت معدومة لدي والكل يعلم ان تلك هي احدى علامات جائحة كورونا. لذلك تذكرت المثل الانكليزي القائل (انها لا تمطر لكنها عندما تمطر فالمطر يهطل بغزارة). اجل لقد علمت انني مصاب بمرضين مزدوجين في آن واحد وهما الالتهاب الرؤوي الحاد وجائحة كورونا.

باليوم التالي اتصلت تلفونياً بطبيبتي الاخصائية التي تشرف على حالتي الصحية منذ اكثر من 7 سنوات واخبرتها بما جرى لي فسألتني إن كانت لدي الادوية اللازمة للالتهاب الرئوي فاخبرتها بما لدي. قالت بان الاتهاب سيزول اثر تناول المضادات الحيوية والكورتزون. اما الكورونا فسوف تتلاشى دون علاج. انها مسألة وقت وحسب. واليوم وانا اكتب هذه السطور، مضى على رقودي بشقتي اكثر من 17 يوماً واصبح الالتهاب بخبر كان وبدأت حاسة الشم تعود الي بشكل تدريجي. حمداً لله. وكل عام وانتم بخير.

... تمت ...

 *نائب رئيس تحرير الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1369 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع