معدن الأقوام: حين تختبر الهويات في زمن ليس له قوام

إبراهيم فاضل الناصري

معدن الأقوام: حين تختبر الهويات في زمن ليس له قوام

في متاهات التاريخ ومراتع الحضارات، تمرُّ الأقوام والمجتمعات الصغيرة كما تمر الأنهار؛ اذ ان بعضها ينساب بهدوء، محافظًا على نقائه ورسوخه، يحمل في جريانه ذاكرة الزمن وروح الأرض التي وُلد منها. وأخرى تجرف معها الطمي والملوثات، تندمج مع مياه أخرى حتى تفقد صفاءها وهويتها، فتتحول إلى مجاري سطحية عابرة لا تترك أثرًا واضحًا في معالم الزمن.
والأنهار، رغم اختلاف مساراتها وأحجامها، تشترك في أنها تعبر الأراضي، تشق طرقًا، تُروّي، لكنها قد تتعرض للتلوث أو الجفاف، فتخسر قيمتها كنبع حياة. كذلك هي الأقوام والمجتمعات الصغيرة، تتشكل من مزيج من التجارب، تحافظ على ذاتها أو تذوب في تدفق المتغيرات.
هذه الصورة تعكس جدلية بين عمق الأصالة وسطحية الهجنة، بين معدن لا يصدأ وشكل يزول. وهي دعوة لفهم جوهر الهوية، والوعي الجماعي، والموقف الأخلاقي الذي يحدد ما إذا كانت هذه الأقوام ستصمد كجبال لا تنحني، أم ستنساب كأنهار بلا قرار، لتصبح مجرد أثرٍ عابر.
عمق الأصالة: جوهر لا يُشترى
الأصالة ليست مجرد شعار أو نسب يُفتخر به، بل حالة وجدانية متأصلة في اللاوعي الجمعي، تُصقل عبر مواقف الحياة. هي عقد اجتماعي نفسي وروحي يربط الأفراد بمجتمعهم عبر أجيال،
وفي المجتمعات الأصيلة، تُعتبر الكرامة شرفًا يوميًا، والشجاعة نمط حياة، والحرية عقيدة لا تنازل عنها. هؤلاء لا يميزهم المظهر أو التقاليد السطحية، بل معدنهم الصلب وصدقهم العميق.
والأصالة في ماهيتها هي عبارة عن مقاومة متجددة لعوامل الاغتراب والاغواء الثقافي، وهي طاقة تنبع من إدراك الذات الجماعي وقيمها الجوهرية التي تقاوم التآكل بفعل العولمة والتقلبات الاجتماعية. إنها زمن داخلي يجمع الماضي بالحاضر ويخلق حاضرًا يستحق المستقبل.
سطحية الهجنة: ضياع البوصلة
الهجنة ليست مجرد دمج طبيعي بين الشعوب، بل أزمة وجودية معاصرة تمثل اضطرابًا في وعي الذات الجماعية، أشبه بـ "اللامكان" الثقافي، حيث يصبح الإنسان منفيًا في وطنه بسبب فقدان صلته بجذوره. إنها أزمة في الهوية، حيث تتحول إلى سلعة تُستهلك أو تُغيَّر وفق أهواء القوى.
تُذكرنا هذه الحالة بظاهرة الاغتراب النفسي، فراغ داخلي عميق يشعر به الإنسان بلا معنى حقيقي لحياته، ما يؤدي إلى ضعف المقاومة، وارتفاع القابلية للاستلاب والتبعية. الهجنة السطحية تترك المجتمع بلا جذور حقيقية، عاجزًا عن تشكيل ذاكرة مقاومة أو صنع مواقف ذات معنى.
الهجنة بين التنوع والوعي
ليس التزاوج الثقافي أو البيولوجي مرفوضًا، فقد صنعت الهجنة العظيمة حضارات كالأندلس وروما. لكن الفرق يكمن في الوعي الذاتي. فالهجنة الموهوبة تُنتج هوية مركبة ومتزنة، توازن بين الأصالة والحداثة، بين الانفتاح والاحتفاظ بالجوهر، فتولد إبداعًا وحيوية.
هذه الثنائية في المقارنة تشبه مفهوم "الوحدة في التنوع" التي تنادي بها الفلسفات الحديثة، حيث يصبح الاختلاف قوة للحياة وتدعيم لحيويتها الفاعلة لا سببًا للذوبان أو الانصهار. إذًا، الهجنة ليست مشكلة في ذاتها، بل في غياب الوعي للذات الذي يجعلها قشرة خاوية.
النبل والوضاعة: إرادة لا وراثة
النبل لا يولد مع الدم، والوضاعة لا تُخلق مع الأصل. هما حالات وجودية تُعبّر عن نمط العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتعكس حرية الاختيار بين الصعود والهبوط، بين المقاومة والاستسلام.
النبل تعبير عن حرية داخلية، عن إرادة في خلق معنى للحياة، وهو التزام أخلاقي لا يأتي من الخارج، بل من الوعي الذاتي العميق. أما الوضاعة فهي نكوص عن إرادة الوجود، استسلام للظروف، وتبعية للعجز والذل.
هذه الرؤية تقربنا من الفكر الوجودي، حيث الإنسان هو صانع قيمه، وقوة النبل تكمن في إرادة تجاوز الذات والالتزام بالمبادئ، مهما كانت الظروف
بين الجبل الذي لا ينحني والسهل الذي يسيل
الأمم إما جبال شامخة لا تنكسر، تعبّر عن فلسفة الجذر والعمق والثبات على المبادئ، أو سهول تفيض ولا تحفظ شكلًا، تعبر عن المرونة التي قد تتحول إلى هشاشة.
هذا التوازن يشبه "الحكمة الوسطى" التي تدعو إليها الفلسفات القديمة، الاعتدال الذي يمنع التطرف الذاتي والانصهار الكلي. المجتمع القوي هو الذي يحفظ توازنه بين الصلابة والمرونة، بين الثبات والقدرة على التكيف، ليصنع من ذاته مشروع حياة يستحق الثبات والمقاومة.
نقاء المعدن مقابل براقة المظهر
هذه الجدلية انما تعكس صراعًا أزليًا بين الجوهر والظاهر، بين المعنى والشكل. في عصر السرعة والصورة، حيث صار التزييف ثقافة سائدة، والصدق أصبح عملة نادرة.
ان نقاء المعدن يمثل مقاومة نوعية للحياة السطحية، وهو تعبير عن أشكال الحياة الأصيلة التي تُختبر في المواقف الصعبة، بعيدًا عن صخب الإعلام والسطحية الزائفة.
المظهر قد يجذب الأنظار، لكن المعدن هو ما يحمي القلوب. المجتمعات التي تختار التجميل بدل التخلق تفقد جوهرها، وتنكشف عند المحن، حين يسقط القناع ويظهر العدم.
خاتمة: الاختيار بين العمق والسطحية — إرادة الوجود ومشروع الحياة
الاختيار بين عمق الأصالة وبين سطحية الهجنة هو ليس مجرد قرار عابر، بل هو فعل إرادي يتجاوز الفرد ليصبح قرارًا جماعيًا، ينبع من وعي متجدد بالذات والكينونة. إنه تمرد على التبلد والهوان، وإعلان تجديد مستمر للارتباط بالجذور الروحية والثقافية وسط عواصف التغيير العنيف التي تجتاح المجتمعات والاقوام التي تعاني المسالة وتعيش مخاضها.
المجتمعات او الاقوام هي ليست كيانات جامدة أو أزمنة ماضية تُحفظ في كتب التاريخ، بل هي مشاريع حياة ديناميكية تتطلب يقظة دائمة، تربية أخلاقية راسخة، والتزامًا جماعيًا بالمبادئ التي تجعل من وجودها حضورًا ذا معنى في الفضاء الإنساني.
التاريخ لا يُسجل فقط أنسابنا أو أصولنا، بل يكتب مواقفنا التي تتجسد في إرادة الشعوب للدفاع عن وجودها بكرامة، لخلق عالم يستحق العيش فيه. في هذا الفعل الواعي، يصبح الإنسان والمجتمع فاعلين لا متفرجين، مبدعين لا منساقين، أصليين لا منحرفين.
فليكن إرثنا هو إبداع في الكرامة، ثبات في القيم، ورفض للذوبان في موجات السطحية. أو لنكن، إذا غاب ذلك، صمتًا في الهوان، وغربة في الذاكرة، لا يترك سوى أثارٍ باهتة في صفحات الزمن.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

772 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع