بقلم احمد فخري
قصة (البركان)-الجزء الاول
خرج مثنى من الحمام والماء لازال يقطر من جسمه. قابلته زوجته بشرى التي وقفت خارج الباب بوجه يملأه الخجل وبيدها منشفة قالت،
بشرى : انا آسفة حبيبي، لقد نسيت ان احضر لك هذه، تفضل.
اخذ المنشفة من زوجته وقال،
مثنى : لا عليك يا عمري، هل استيقظ الاطفال؟
بشرى : اجل، استيقظوا وغيروا ملابسهم ثم تناولوا الافطار، وهم الآن في انتظارك.
مثنى : جيد جداً، سأجفف شعري وارتدي ملابسي ثم اتبعك للمطبخ.
بشرى : حسناً ميمو، اليوم لا تنسى الدواء الذي طلبته منك البارحة؟ فالالم اصبح شديداً في بلعومي وبالأخص عندما ابلع الريق.
مثنى : بامكاني إحضاره اليك الآن قبل الذهاب الى عملي.
بشرى : لا حبيبي، الامر ليس عاجلاً بهذا القدر. فقط اجلبه معك بعد الظهر عند انتهاء العمل.
مثنى : حسناً، سأفعل ذلك.
بعد ان تناول مثنى وجبة إفطاره على عجالة اخذ اولاده وخرجوا ليركبوا السيارة الواقفة بالمراب. اوصلهم الى مدرستهم ثم توجه بعدها الى عمله في شركة (ت.ر للتكنولوجيا الرقمية) اين يعمل كفنان جرافيكي بمنطقة المسبح فيبدأ يوم عمل جديد. وبينما هو منهمك امام شاشة الحاسوب مضت عليه عدة ساعات دون ان يشعر بالوقت لانه كان شديد الحرص كي ينهي مهمته التي وكلت اليه في تصميم شعار جديد لوزارة النفط. شعر بالتعب والتشنج برقبته فنظر الى ساعة الحائط ليجدها تشير الى الرابعة بعد الظهر. قفز من مكانه مسرعاً واتجه الى الخارج كي يلتقط اولاده من مدرستهم. وعندما وصل المدرسة رآهم جالسين على قارعة الطريق بعد أن أُغلقت البوابة الرئيسية. شعر بذنب كبير تجاههم وقال، "آسف يا احبابي لقد انشغلت عنكم ونسيت نفسي، هيا اركبوا لنعود الى البيت".
ركب اطفاله الثلاثة سيارة ابيهم فانطلق بهم في شوارع بغداد متجهاً الى البيت، وفي الطريق سألته كبرى اطفاله تالة قائلة،
تالة : في الصباح سمعت امي توصيك على دواء. هل اشتريته يا ابي؟
مثنى : يا الهي، لقد نسيت الدواء تماماً. ولكن لا تقلقي، ساشتريه الآن من إحدى الصيدليات التي على طريقنا. عفاك يا حبيبتي فبالرغم من ان عمرك 12 سنة لكنك ذكية جداً.
تالة : انا 13 سنة وسأنجح بامتحان البكالوريا قريباً لابدأ بالمتوسطة. ولولا مرضي الذي منعني من البدئ بالصف الاول لكنت الان بالمتوسطة.
مثنى : شكراً على التصحيح. وانا ليس لدي ادنى شك انك ستصبحين انجب طالبة متوسطة.
وبينما هو يقود سيارته رأى صيدلية قريبة من موقعهم فصف السيارة أمامها واخبر اطفاله الثلاثة بانه سوف لن يتأخر كثيراً وعليهم عدم مغادرة السيارة مهما حصل. تركهم ودخل الصيدلية فقابلته سيدة ترتدي معطفاً ابيض حيّته بادب فقال لها،
مثنى : اريد دواءاً لعلاج اللوزتين لو سمحتِ يا آنسة.
الصيدلية : هل تريد الدواء للكبار أم للصغار؟
مثنى : بل للكبار، انه لزوجتي ام كريم.
الصيدلية : منذ متى وهي مصابة بالمرض؟
مثنى : المسكينة تعاني من الم في البلعوم منذ الأمس.
الصيدلية : إذاً فالمرض لم يستفحل بعد. بإمكانها أن تأخذ حبوب مص من نوع (ستربسال).
مثنى : ماذا لو استفحل المرض وازداد الألم فيما بعد؟ ماذا بامكانها ان تأخذ؟
الصيدلية : وقتها تعرض زوجتك على الطبيب الذي سيُقَيّمُ جسامة الالتهاب فيصف لها مضاداً حيوياً يتماشى مع وزنها.
مثنى : الا يمكنكِ ان تعطيني المضاد الحيوي الآن حتى نختصر على أنفسنا الوقـ...
هنا قاطع حديثهما دوي اصطدام شديد خارج الصيدلية. نظر مثنى من خلال زجاج الصيدلية فاصيب بالهلع. رأى سيارة سوداء قد اصطدمت بسيارته الواقفة لتقلبها وتحطمها تحطيما كبيراً. صاح بأعلى صوته "الاطفـــــــــــــــــال". ركض الى الشارع ليستطلع الامر فرأى سيارته محطمة تماماً وقد تحولت الى كتلة حديدية مشتعلة. اصدر مثنى صيحة عالية كانت ما بين الحزن والالم والغضب ثم ركض نحوها ليرى السنة اللهيب تخرج من كل شبر من هيكل السيارة. علم وقتها أن خروج اي واحدٍ من اطفاله الثلاثة حياً سيكون امراً مستحيلاً. بدأ الناس يتجمهرون حول الحادث ويهزون برؤوسهم اسفاً على ماحدث والسخط على سائق السيارة المتهور الذي صدمهم. اتصل بعضهم بخدمات الطوارئ فقالوا ان فريق الطوارئ سيصلهم بعد قليل. بقي مثنى يحاول فتح باب سيارته المحطمة علّه يستطيع إنقاذ اطفاله الثلاثة كمحاولة يائسة الا ان حديد السيارة كان يحرق يديه كلما لمسه. العقل والمنطق يقول انهم جميعاً قد تفحموا الآن ولم يبقى منهم أحد على قيد الحياة. بقي يدور حول حطام السيارة يحاول ان يجد مكاناً يُمَكّنهُ من فتح الابواب لانتشال الاطفال. كل ثانية مرت عليه كانت تزيده حزناً وغضباً وجنوناً. ولما يئس من انقاذ اطفاله، استحوذه شعور جامح بالغضب فجن جنونه وذهب الى السيارة التي صدمتهم ليجد فيها ولدان مراهقان لا تزيد اعمارهم عن 15 او 16 سنة منكفئان الى الامام بداخل مخدات السلامة البيضاء المنتفخة. فتح الباب وحاول تفحصهم عن قرب لكنه وجدهم فاقدي الوعي وقد أصيبا بجروح طفيفة متباينة في رؤوسهم ووجوههم. أمسك بأحدهم الذي كان يجلس الى جانب السائق فرآه قد بدأ يتحرك. أدار رأسه للأمام وقال له بصوت باكٍ معاتبٍ حزين،
مثنى : لماذا فعلتم هكذا باولادي؟ من منحكم مقود سيارة يا كلاب؟
الولد : أرجوك يا عمي لا تؤذيني، صديقي قصي هو الذي كان يقود السيارة. لقد اخذها من ابيه وذهبنا لتناول (الچكليت) سويةً. انا لم افعل شيئاً ارجوك صدقني يا عمي.
مثنى : ما اسمك؟
الولد : اسمي معاذ وصديقي هذا اسمه قصي.
مثنى : ما اسم والدك ووالد هذا الكلب النتن؟
معاذ : انا اسمي معاذ فايق الكعبي. انا طالب بالمتوسطة وهذا صديقي قصي ياسين اللامي. هو ايضاً طالب معي بنفس المدرسة.
مثنى : أين آباؤكم يا انجاس؟ وكيف سمحوا لكم قيادة السيارة بهذا السن المبكر؟ هل تعرف انك قتلت أولادي الثلاثة؟
معاذ : أنا آسف يا عمي. لست انا من كان يقود السيارة قلت لك ذلك. انه قصي والله يا عمي قصي.
مثنى : كلاكما متشاركان بالجريمة يا ابن الزانية.
هنا جاءه من الخلف رجلان وامسكا بكتفيه ليسحباه اليهم فيهدؤا من روعه ويجعلاه يترك الشاب المصاب الا انه افلت منهما ثانية وهجم على الشاب وصفعه صفعة قوية ثم لحق به الرجلان وأمسكا به من جديد ليسحباه إلى الوراء فاجلساه على قارعة الطريق. صار مثنى ينحب ويبكي بحرقة على أولاده الثلاثة يقول، "ليتني كنت أنا من مات بهذا الحادث. ليتني مت قبل ان ادفن اطفالي الثلاثة. ما هذه المصيبة؟ ما هذا الاختبار الصعب يا ربي؟ لن اتحمل هذه الكارثة العظيمة انا سأموت من حزني على اطفالي. ولكن لا، لن اموت قبل ان اسجن أولئك الشباب المتهور وآبائهم الذين اعطوهم سيارات حتى يقتلوا اولادي".
وبينما هو يبكي بحرقة والم شديدين سمع رجلاً من بعيد ينادي ويقول، "الله اكبر، الله اكبر يا استاذ يا استاذ انظر هناك. هل هذه ابنتك؟". انتصب مثنى والتفت الى مصدر الصوت فرأى الصيدلانية تمسك بيد ابنته وهم يقتربان منه. "يا الهي انها ابنتي تالة. لا اصدق، انها بخير وليس بها اي جرح او خدش. كيف حصل ذلك؟ هل قُذِفَتْ من الشباك اثناء الاصطدام؟ شكراً لك يا ربي، لقد نجت ابنتي. ولكن كيف حصل هذا، كيف، كيف؟".
ركض نحوها والتقطها من الأرض وضمها الى صدره وهو يصرخ باعلى صوته، "ابنتي لم تمت، انها عائشة، أنها على قيد الحياة ابنتي عائشة. الشكر لك ياربي، الشكر لك يا الهي".
نظر بوجهها وقال،
مثنى : هل انت بخير يا روحي؟ هل تشكين من شيء؟ هل اصابك مكروه؟
تالة : انا بخير يا أبي سامحني يا أبي.
مثنى : ولماذا اسامحك يا عمري؟
تالة : لانك طلبت منا عدم الخروج من السيارة لكنني عصيت امرك وخرجت من السيارة لأنني رأيت من بعيد متجراً للادوات الرياضية فذهبت الى واجهته كي اتفحص بدلات القتال للـ (الكيك بوكسينغ) التي عرضها. ولما خرجت من السيارة وذهبت صوب المحل فسمعت صوتاً مدوياً شديداً. التفت خلفي لارى النار تشب بسيارتنا فاصبت بالهلع وتجمدت بمكاني من شدة الخوف على اخواني، ركضت الى الصيدلية كي اخبرك لكنك لم تكن هناك. انا آسفة لان سيارتك قد تدمرت بالكامل بسببي.
مثنى : لا يا روحي لا يا عمري، ليس بسببك انت. انه بسبب هؤلاء الحمقى الذين تُرِكوا يمرحون بسيارة ذويهم ويتسببون بقتل العباد. ساحاسبهم يا حبيبتي.
تالة : وماذا عن كريم وحليم؟ هل هما بخير يا ابي؟
مثنى : لا يا حبيبتي، اخوانك رحلا الى الجنة يا عمري. لقد قتلوهما شابان متهوران احمقان.
صارت تالة تبكي بحرقة ثم نظرت بغضب الى اباها وسألته وهي تمسح دموعها،
تالة : هل ستقتلهما يا أبتي؟
مثنى : بل سادع القضاء يقتص منهما يا عمري فنحن لا نقتل الناس لاننا لسنا مجرمين.
وصلت سيارات الطوارئ فطلبوا من الجميع الابتعاد عن موقع الحادث ثم وضعوا أشرطة صفراء لمنع الفضوليين من الاقتراب. بدأ رجال الإسعاف ينتشلون جثامين الأطفال بعد أن قامت فرق الاطفاء باخماد النيران المشتعلة في سيارة مثنى. كان الطفلين كريم وحليم قد تفحموا الى درجة لم يعد بالإمكان التعرف على ملامحهم. نظر مثنى الى جثث أولاده من بعيد وصار يضرب على صدره ورأسه ويصرخ ليخرج كلمات مبهمة واصوات هي اشبه بعواء الذئاب. أما ابنته فاكتفت بالبكاء على أثر بكاء ابيها. اقترب منه رجل مسن في عقده الثامن وسأله،
الرجل : هل أخبرت امهم بما حصل يا ابني؟
مثنى : يا الهي. لقد نسيتها تماماً. ستموت من حسرتها على الاولاد. لا لم اخبرها بعد.
اخرج هاتفه النقال من جيبه واتصل بزوجته فأجابت على الفور قائلة،
بشرى : لماذا تأخرتم يا مثنى؟ من المؤكد أن الأولاد قد ماتوا من الجوع.
مثنى : الأولاد ماتوا فعلاً يا بشرى.
بشرى : إذاً تعالوا على الفور فالطعام جاهز وقد وضعته فوق المائدة.
مثنى : قلت لكِ ماتوا يا بشرى، ماتوا. وقع حادث اصطدام ومات الاولاد.
بشرى : ماذا تقول؟ حادث؟ وماذا عن الأولاد هل هم بخير؟ هل تالة بخير؟ هل انت بخير؟
مثنى : انا بخير وتالة بخير لكن كريم وحليم... يا الهي، كريم وحليم...
قاطعته وامطرته بأسئلة كثيرة قالت،
بشرى : ماذا جرى للأولاد؟ انا لا افهمك، هل اصابهم مكروه؟ اخبرني يا مثنى هل هما بخير؟ لا تكذب عليّ. ارجوك اخبرني.
مثنى : مات الولدان يا بشرى. مات كريم ومات حليم ولم تنجو سوى ابنتنا تالة انها تقف الى جانبي الآن.
بشرى : لا، لا، مستحيل لا انت تكذب أليس كذلك؟ انها كذبة نيسان، بالتأكيد هي كذبة من اكاذيبك كما كنت تفعل بنا في السابق. لا يمكن أن يموتوا. لقد تحدثت إليهم هذا الصباح وكانوا بخير. فكيف يصبحون امواتاً الآن؟ انت السبب، انت تقود السيارة بسرعة جنونية. سأقتلك يا مثنى.
هنا اطلقت صرخة مدوية كادت تثقب طبلة اذنه وبقيت تصرخ مثل صفارات الانذار. بقي مثنى يناديها مرة بعد مرة لكنها لم تكن تسمعه او تستجيب لندائاته بعد ان سقط الهاتف من يدها على الارض. صار يقول اسمعيني اسمعيني يا بشرى ارجوكِ اسمعِي لكنها لم تسمع شيئاً بقيت تولول حتى اغلق الخط معها واراد التوجه لبيته على الفور لكن احد رجال الشرطة اقترب منه وقال،
الشرطي : البقاء لله سيدي. تفضل معي الى المركز كي نأخذ اقوالك.
مثنى : اي اقوال هذه؟ كلا طبعاً، يجب ان ارجع الى بيتي فزوجتي تكاد أن تصاب بالجنون. ونحن بكارثة غير مسبوقة.
الشرطي : هذا لا يجوز سيدي. سوف آخذك للضابط بالمركز وستتحدث اليه هناك ثم يتركك تعود لبيتك. صدقني، الأمر لن يتطلب وقتاً طويلاً. فقط تقوم بإخباره بما حصل ثم توقع على اقوالك.
مثنى : حسناً هيا ولكن ارجوك اسرع.
الشرطي : السيارة هناك، تفضل معي.
ركب مثنى وابنته السيارة الرسمية فانطلقت بهم الى مركز الشرطة. اقتيد مثنى وابنته الى غرفة المقدم عبد الغني فوقف امامهم وقال،
المقدم عبد الغني : البقاء لله سيد مثنى. انا المقدم عبد الغني. لقد سمعت بالحادث الأليم عبر اللاسلكي. لكنها مشيئة الله.
مثنى : كلا سيدي المقدم بل هو الإهمال وترك الأولاد كي يستبيحوا حياة الآخرين.
المقدم عبد الغني : انا اتفق معك ولكن رجاءاً تمالك اعصابك. اجلس وحدثني بتفاصيل الحادث كي ندونه بشكل رسمي. تفضل اجلس اولاً.
جلس مثنى وابنته على الاريكة التي أمام منضدة المقدم عبد الغني وصار يقص عليه ما حدث من البداية وحتى النهاية بينما كان يمسح دموعه بين الفينة والاخرى. وعندما اكمل سرد القصة نظر إلى الضابط وقال،
مثنى : هل ستحاسبونهم على ما فعلوا؟
المقدم عبد الغني : نحن لا نملك الصلاحية كي نحاسب احداً. سوف تعرض القضية على المحكمة. بعدها ستبت المحكمة بالامر ولكن يجب عليك ان تتهيأ كي تتلقى ما لا يسرك.
مثنى : ماذا تقصد حضرة الضابط؟
المقدم عبد الغني : اقصد ان الشابين هما دون سن الثامنة عشر وهذا يعني أنهما قاصران. والقانون يعاقبهما بطريقة مختلفة عما يعاقب بها البالغين.
مثنى : لكنهم قتلوا اولادي. لقد قتلوا كريم وحليم يا حضرة الضابط. اليست هذه جريمة قتل؟
المقدم عبد الغني : أجل ذلك شيء مؤسف حقاً ولكن عن دون قصد.
مثنى : هل قلت عن دون قصد؟ ومن الذي فسح لهم المجال كي يقودوا السيارة بهذا السن المبكر من دون رخصة قيادة؟
المقدم عبد الغني : على العموم نحن في المراحل الاولى من التحقيق وليس بمقدورنا اصدار احكام مسبقة خصوصاً وإن هناك محاكم وقضاة سينظرون بالامر لاحقاً.
مثنى : حسناً سيادة الضابط. ماذا نعمل؟ امرنا الى الله.
وقع مثنى على المحضر ثم خرج من مركز الشرطة وطلب من سائق التاكسي ان يقلهما الى بيته. نزلا من السيارة ودخلا البيت فرأوا نساءاً كثيرات يلطمن صدورهن بشكل هستيري وامرأة بدوية تنشد، "دلوني على المحروگ دلوني". بكى مثنى كثيراً واخذ ابنته الى الداخل ثم طلب منها الذهاب الى غرفتها بينما توجه هو الى غرفة نومه فجلس على السرير وصار يبكي بحرقة شديدة وهو يسمع صرخات النساء التي تصم الآذان.
<<<<<<<<<<
مرت ثلاثة ايام والعزاء ما زال قائماً ببيت مثنى والناس يدخلون ليعزوا العائلة فتستقبلهم عمة الاولاد نزيهة وكذلك الجيران يتلقون التعازي منهم ويقدمون القهوة العربية بمهمة (الوگافة). بينما ظل افراد العائلة الثلاثة في حالة يرثى لها. الأب توقف تماماً عن الذهاب الى عمله وتوجه نحو العبادة والاستغفار والتسبيح. الام اصبحت لا تتحدث بشكل طبيعي. فقط تصرخ كلما كلمها احد حتى لو كان يدعوها لشرب الماء أو تناول الطعام وتكرر كلمة، "ماريد". اما تالة فقد كانت تفضل أن تنزوي بغرفتها اين كان ينام اخوانها كريم وحليم. فتتحدث اليهم وكأنهم ما زالوا احياء يجلسون الى جانبها وتقرأ لهما القصص كما كانت تفعل في السابق. واحياناً تتخيلهم يلعبون معها واحياناً اخرى تتشاجر معهم وتصرخ بوجوههم لأنهم كانوا يزعجونها.
<< بعد مرور 60 يوماً من الحادث <<
ارتدى مثنى ملابسه ووقف بالطابق السفلي من الدار ينتظر زوجته وابنته. نزلت زوجته بشرى ترتدي فستاناً اسوداً ووضعت وشاحاً ابيضاً فوق رأسها بينما ارتدت تالة فستاناً اسوداً طويلاً. ركبوا سيارة اجرة وانطلقوا بها الى المحكمة كي يتابعوا مجريات المحاكمة التي ستأخذ لهم حقهم وتقتص من الشابين معاذ وقصي.
بدأت جلسة المحكمة بسرد محامي الادعاء وقائع الحادث الأليم الذي صادف يوم الاثنين السابع من تشرين ثاني 2022 بجميع ملابساته وحيثياته. ولما فرغ من الحديث، نظر الى الجمهور ثم رجع الى مجلسه فسمع القاضي يقول، "والآن لنستمع الى محامي الدفاع".
وقف المحامي ومشى ببطئ شديد ثم قال، "سيادة القاضي حضرات السادة الحضور، ابدأ حديثي بتقديم اقصى درجات الحزن والالم والمواساة لعائلة الطفلين كريم وحليم واطلب من الباري عز وجل ان يسكنهم فسيح جناته ويصبرهم على مصابهم الاليم. بدايةً، دعوني أوضح امراً في غاية الأهمية: فموكلي معاذ فايق الكعبي وموكلي الثاني قصي ياسين اللامي. لم يكونا قاصدين التسبب بذلك الحادث الاليم ابداً لانه كان قضاءاً وقدراً. كان همهما الوحيد هو الاستمتاع بأوقاتهم في قيادة السيارة التي حُرّمَتْ عليهم بسبب صغر سنهم. لكن الجميع يعلم أن الشباب بهذا السن لا يَزِنونَ الأمور بشكل عقلاني صائب مثل البالغين. وبناءاً على التقرير الطبي الذي اجراه القسم الطبي في شرطة التحقيقت الجنائية فإن الشابين لم يكونا قد تعاطا اي من المخدرات او المنشطات او الكحوليات. لذا حصل ما حصل بقضاء الله وقدره وانا اطالب من عدالة المحكمة الاخذ بنظر الاعتبار صغر سنهم وعدم المساس بمستقبلهم الدراسي".
كانت تلك الافتتاحية التي قرأها محامي الدفاع بمجريات المحاكمة. لكن محامي الادعاء لم يتوقف للحظة واحدة في تحميل اللوم على ذويهم وذلك بفسح المجال امام شباب أرعن وتمكينهم من سياقة سيارة تسببت بمقتل الضحيتان. كان والدي المتهمين ينظران بغيظ كبير صوب مثنى وعائلته. فقد لاحظ مثنى ذلك واراد ان يقفز من مكانه ويصرخ بوجوههم ويحاسبهم على سوء تربيتهم لاولادهم. لكن المجال لم يكن ليسمح بذلك، لذا كظم غيظه وبقي ساكتاً طوال فترة المحاكمة.
استمرت جلسات المحكمة لأكثر من اسبوعين حتى صرح القاضي بنهايتها أنه سيتداول القضية مع مستشاريه وسيصدر قرار المحكمة خلال سبعة ايام. وفي نهاية الاسبوع نطق القاضي بالحكم حين قال، "بالنظر لجسامة الحادث الذي تسبب بوفاة الطفلين كريم وحليم اولاد السيد مثنى شاكر عبد اللطيف فقد قررت المحكمة ان تدين المتهمين القاصرين معاذ فايق الكعبي وقصي ياسين اللامي وتجدهما يستحقان العقاب. وللاخذ بنظر الاعتبار حسب التقرير الطب الجنائي لشرطة بغداد، اصابة معاذ فايق الكعبي بكسر من موقعين في يده اليمنى وكسر ثلاثة اضلاع في صدر قصي ياسين اللامي وكذلك كسر في عظم الحوض قررت المحكمة الحكم عليهما بالحبس لمدة سنتين لكل واحد منهما في سجن الأحداث. رفعت الجلسة."
عج الهرج والصراخ بين الجمهور وصار والدي الضحيتين يصرخان سخطاً على القاضي بسبب حكمه المخفف الجائر. لكن الأمر قد حسم ولم يعد هناك مجال للاعتراض. عادت العائلة المنكوبة الى دارها تجرجر الاحزان ورائها شاعرين بجور المحكمة لأنها لم تقتص من قتلة أولادهم كما ينبغي. دخلت الأم الى حجرة نومها وجلست على سريرها تبكي بصوت مرتفع بينما أخذ الاب ابنته تالة الى غرفتها وقبلها ثم دخل هو الى غرفة الاستقبال واتكأ على الاريكة لينام نوماً عميقاً بعد عناء جسدي ونفسي طويل.
<< بعد مرور 6 أشهر <<
ظلت بشرى بحالة صمت وحزن شديدين فتوقفت عن النطق الا ما ندر. كانت دائماً تنظر من شباك غرفتها الى حديقة الدار طوال ساعات اليوم دون أن تنبس ببنت شفة. كان اقتيادها للحمام امراً في غاية الصعوبة وكذلك إجبارها على تناول الطعام مما جعلها تفقد الكثير من وزنها لتصبح كالهيكل العظمي. لم تعد تهتم بزوجها ولا بابنتها تالة حتى يئس الجميع من عودتها للحياة الطبيعية. كان مثنى يزاول دور الاب والام لابنته تالة فيقوم بكل احتياجاتها وواجباته نحوها عندما يكون معها في الدار. وهذا ما دفع تالة لأن تبدأ بالاعتماد على نفسها في غياب اباها فتبادر بصنع الأطعمة البسيطة لنفسها في المطبخ كالشطائر وما إلى ذلك. وفي يوم من أيام الجمعة دق جرس الباب ببيت مثنى ففتحت تالة الباب لتصرخ وتنادي من بعيد، "يا ابي، يا ابي، انظر، لقد جاء العم حامد من الموصل". ركض الاب الى الباب ليجد عم زوجته حامد واقفاً على الباب فرحب به ترحيباً كبيراً وادخله صالة الاستقبال. جلس حامد وصار يتناول قدحاً من الشاي. وبعد ان انتهى الجميع من الترحيب والسؤال عن الاقارب في الموصل. سأل حامد،
حامد : كيف حالكِ يا ابنتي بشرى؟
لكن بشرى لم تتكلم بل بقيت تبحلق للاسفل وكأنها تعد البلاطات على الارض. هنا تطوع مثنى وقال،
مثنى : بشرى لا تتكلم معنا منذ وقوع الحادث. نحن نجد صعوبة كبيرة في دفعها على الاكل والشرب والنوم يا عم حامد.
حامد : وهذا سبب مجيئي الى بغداد. فزوجتي ام عمّار طلبت مني احضار بشرى الى الموصل لانها سترتاح نفسياً هناك ولاننا سنعتني بها بشكل مكثف. ما قولكم بذلك؟
مثنى : انا من ناحيتي ليس لدي اي اعتراض. طالما انها توافق على الذهاب معك.
نظر الى زوجته بشرى وسألها،
مثنى : ما قولك يا عزيزتي؟ هل تودين الذهاب الى الموصل مع العم حامد؟
فاجابت بشرى بصوت خافت وكأنها تبكي،
بشرى : ما الفائدة؟ لن يرجع اي شيء كما كان عليه في السابق.
مثنى : لكننا نحتاج اليك يا بشرى. على الاقل سوف تتحسن نفسيتك كي تستطيعين ان تعتني بعائلتك.
هنا لم تنطق بشيء. فقط ادارت كفيها للاعلى وكأنها تقول كما تشاؤون. لذا قال عمها،
حامد : إذاً على بركة الله. دعونا ننطلق الآن لنمسك الطريق.
مثنى : الا بقيتم لتناول وجبة الغداء اولاً؟
حامد : حسناً سنتغدى اولاً ثم نمسك الطريق بعدها.
بعد تناول وجبة الغداء مباشرةً خرج الجميع الى الخارج فركبت بشرى سيارة عمها حامد. ودعهما مثنى وتالة لتنطلق بهم السيارة متوجهة الى الموصل. فبقيت تالة ووالدها وحيدان بالدار. وبعد مرور اسبوعين على رحيل بشرى الى الموصل اتصلت السيدة نزيهة اخت مثنى وسألته عن أحوال اسرته فاخبرها بان زوجته لا تزال على حالتها ولا ترغب التحدث مع اي احد وهي الآن في الموصل ببيت عمها حامد. اما هو فيقوم بكل احتياجات ابنته تالة عندما يكون في الدار. هنا سألته إن كان يمانع في جلب تالة الى بيتها كي تلعب مع اولاد عمتها وتقضي معهم بضعة اسابيع. وافق فوراً دون تردد لأنه يعرف جيداً أنه مقصرٌ من ناحية ابنته بسبب انشغاله بعمله. وعدته نزيهة أنها ستمر في الغد كي تأخذ تالة وتعود بها الى بيتها. وفي اليوم التالي رحلت تالة الى بيت عمتها لكنها لم تكن تالة التي يعرفها الجميع لانها كانت ترفض التحدث كثيراً مع اولاد عمتها وتفضل الانزواء وحدها بالغرفة. وفي اليوم التالي بعد الافطار دخلت تالة المطبخ لتجد عمتها تقلي البيض فسألتها،
نزيهة : ماذا ستفعلين اليوم يا حبيبتي؟ هل ستلعبين العاب الفيديو مع اولاد عمتك فلاح وصهيب؟
تالة : كلا يا عمتي، اليوم لدي تدريب في النادي.
نزيهة : النادي؟ يا الهي! الازلت تتدربين على الكراتيه، تلك الرياضة العنيفة البشعة؟
تالة : هي ليست عنيفة ولا بشعة. انها تمنحني الثقة بالنفس. انا اتدرب عليها منذ اكثر من 7 سنوات. وبالمناسبة، فهي تسمى (الكيك بوكسينغ) وليست كراتيه.
نزيهة : كلها مثل بعضها البعض بالنسبة لي. دعيني اسألك سؤالاً الآن يا حبيبتي، الا تريدين ان تتزوجي يوماً وتصبح لك عائلة واولاد؟
تالة : ومتى كانت الرياضة تعيق العائلة والاولاد؟ كم من نساء مارسن الرياضة طويلاً ثم اصبحن زوجات وامهات؟ لا تقلقي يا عمتي، انها مجرد رياضة وحسب.
نزيهة : كما تشائين ولكن متى يبدأ الدرس؟
تالة : خلال ساعة من الآن يا عمتي.
نزيهة : حسناً ساخذك بسيارتي الى النادي بعد ان افرغ من وجبة الافطار.
تالة : وهو كذلك.
ركبت تالة السيارة الى جانب عمتها فاخذتها الى نادي (الكيك بوكسينغ) بمنطقة كرادة مريم. وبعد ساعتين عادت واخذتها من هناك وفور ركوبها السيارة بدأت العمة تشم روائح كريهة من ابنة اخيها قالت،
نزيهة : رائحتك مقرفة يا تالة.
تالة : هذا شيء طبيعي يا عمتي فقد كنت اتدرب كثيراً وتعرقت. ساخذ حماماً ساخناً فور وصولي الدار.
نزيهة : لماذا لم تأخذيه بالنادي؟
تالة : لان جميع المتدربين هناك من الذكور ولا استطيع التعري امامهم بالحمامات المفتوحة.
نزيهة : وهل تعانين من تنمرهم عليك لانك الفتاة الوحيدة بالنادي؟
تالة : بالعكس. الجميع يحبني ويحترمني لانني اتفوق عليهم جميعاً. فقد تدرجت بالمراحل حتى وصلت الحزام البني. وخلال ايام قليلة ساخوض الاختبار النهائي في امل الحصول على الحزام الاسود.
نزيهة : انت فتاة قوية ومثابرة. ستحصلين عليه بلا شك.
وفي اليوم التالي خرجت تالة الى حديقة الدار وصارت تمارس تدريباتها الرياضية فوقف اولاد عمتها فلاح وصهيب يتفرجون عليها ولما جلست لترتاح قليلاً قال لها صهيب،
صهيب : ما هذه الرقصة التي كنت تؤديها؟ تقفزين بالهواء وتتدحرجين على الارض وتركلين بالهواء وكأنك قردة.
وقال الثاني،
فلاح : مهما تدربت واصبحت خبيرة بهذا الفن فانك لن تتحملي نزالاً مع رجل لان الذكور اقوى من الاناث.
صهيب : اجل هذا صحيح. انا او اخي فلاح بامكاننا التغلب عليك بسهولة في القتال.
تالة : هل تريد ان تجرب يا ابن عمتي؟
فلاح : لا طبعاً. اولاً لانك ضيفتنا وواجبنا حمايتكِ وثانياً انت ابنة خالي ونحن لا نريدك ان تصابي بأذى.
تالة : لا تخاف عليّ كثيراً فانا استطيع التغلب عليكما مجتمعان سويةً. هيا حاولا مقارعتي.
صهيب : الواحد تلو الآخر ام كلانا معاً؟
تالة : بل كلاكما معاً. هيا تقدما. هل انتما خائفان؟
فلاح : ستندمين يا تالة لأن ضربتي قاسية جداً، لا تنسي انني اتدرب مع صهيب على الملاكمة منذ سنتين.
تالة : انا موافقة حتى وإن كسرتما كل عظمة من جسدي. هيا حاولا.
خلع الولدان قمصانهم وتأهبوا لمنازلتها وهم يضحكون. تقدم فلاح نحو تالة يتأرجع ويُرْقِصُ قدميه كما يفعل الملاكمين المحترفين رافعاً قبضتيه امام وجهه. لكنه عندما اقترب منها ركلته بقدمها الايمن على ساقه في حركة خفيفة جعلته يفقد توازنه ويهوي على الارض. هنا شعر صهيب بان تالة قد اهدرت من كرامة اخيه لذلك هجم عليها بسرعة وقام بتسديد لكمة قوية وسريعة صوب وجهها. الا انها سحبت رأسها الى الوراء بخفة عالية لتذهب لكمته سدىً ثم لطمته لطمة خفيقة بقبضتها على صدغه ليفقد توازنه ويهوي ارضاً. نظرت اليهما وهما جالسان على الارض قالت،
تالة : انكما تضيعان وقتكما معي فانا لم اقسي عليكما. اردت فقط ان اثبت لكما بانكما مخطئان بخصوص رياضة (الكيك بوكسينغ) لانها تعتمد بالدرجة الاولى على الخفة والسرعة ودقة التسديد.
مدت يدها اليهم لتعينهم على الوقوف فوقفا ونظرا الى ابنة خالهم باعجاب كبير. وقتها عرفا انها قوة لا يستهان بها. وبعد مرور خمسة ايام اتصلت تالة بوالدها وطلبت منه إرجاعها الى البيت فسألها إن كان قد ازعجها أحد هناك لكنها رفضت ان تتكلم بذلك الخصوص. فقط اصرت على الرجوع فوراً فوعدها بأنه سيأتي لأخذها عند الانتهاء من عمله. وفي المساء وصل مثنى بيت أخته نزيهة فطلبت منه النزول من السيارة كي يتناول الشاي لكنه رفض ذلك وقال بانه متعب جداً ويريد أن يأخذ تالة ليعيدها إلى البيت. وبالرغم من إلحاح عمتها الشديد على معرفة سبب الرغبة بالعودة المبكرة الا ان تالة آثرت الصمت وأصرت كي تعود الى بيتها. ركبت سيارة اباها الجديدة ورجعا الى البيت. وفي الطريق سألها عدة مرات عن سبب رغبتها بالعودة المفاجئة لكنها التزمت الصمت فقرر أن يتركها وشأنها حتى تهدأ. وفي نفس الليلة جلس مثنى بحديقة داره يشرب قدحاً من الشاي عندما جاءته تالة من الخلف واحتضنته ثم جلست على كرسي أمامه فسألها،
مثنى : ها، كيف تشعرين الآن؟ هل تحسنت حالتك النفسية؟
تالة : اجل يا أبي شكراً.
مثنى : الا أخبرتيني الآن بما ازعجك كثيراً وجعلك ترغبين العودة المبكرة من بيت عمتك؟ الم تكوني سعيدة بصحبة أولاد عمتك؟
تالة : اولاد عمتي كانوا لطفاء جداً معي لكنني رأيتهم.
مثنى : رأيتيهم؟ ماذا تقصدين يا حبيبتي؟
تالة : هؤلاء الأولاد الأشرار الذين قتلوا إخواني كريم وحليم.
مثنى : ولكن اولاد عمتك لم يقتلوا اخوانك كريم وحليم رحمهم الله.
تالة : ماذا دهاك يا ابي؟ انا لا اتحدث عن اولاد عمتي فلاح وصهيب . بل اتحدث عن معاذ وقصي.
مثنى : أين رأيتيهم؟ هل رأيتيهم بالمنام؟
تالة : كلا يا بابا. رأيتهم في الحديقة العامة يلعبون كرة الطائرة.
مثنى : يبدو انك قد اشتبهت بهم، فهؤلاء الاولاد الاشرار في سجن الأحداث حالياً وقد حكموا بسنتين. لم يمضي على حبسهم سوى خمسة أو ستة أشهر. فكيف لك ان تريهم يلعبون؟
تالة : لكنني متأكدة مما اقول. بل انا في غاية اليقين. يجب عليك ان تصدقني يا ابي.
مثنى : حسناً، اوصفيلي هيأتهم، هل كانت يد أحدهم ملفوفة لانها كسرت على اثر الحادث؟
تالة : كلا، يا ابتي كانوا يلعبون كرة الطائرة. كلاهما كان يستعمل كلتا يديه بضرب الكرة.
مثنى : لا ذلك مستحيل. انا على يقين بأنك اشتبهت بهم. فأحدهم قد كسرت يداه والثاني كسرت ثلاثة من أضلاعه وانكسر حوضه على اثر الحادث يا حبيبتي .
تالة : انا اعي ما اقول يا أبي. هل تعتقد انني خرفة؟
مثنى : لا انا لم اقل انك خرفة ولكن ربما تكون قد اختلطت الامور عندك.
تالة : أنا متأكدة 100%.
مثنى : حسناً سننتظر حتى الجمعة وسأذهب معكِ الى السيدية كي اراهما بعيني.
تالة : حسناً، ستصدقني وقتها.
وبعد مرور يومين انتظر مثنى حتى المساء ثم أخذ ابنته وخرج بالسيارة متوجهاً للسيدية. وفور وصولهما موقع بيت اخته نزيهة قالت له ابنته،
تالة : لا تتوقف عند بيت عمتي بل واصل القيادة إلى الأمام يا أبي.
استمر بالقيادة حتى وصلا الى ساحة كبيرة خضراء مغطاة بالاثل وبها مجموعة من الأولاد يلعبون كرة الطائرة تحت أضواء الكاشفات الكهربائية. اوقف سيارته بالشارع ونزل منها فتبعته تالة ليقفا بعيداً ويتابعان المباراة فسألها،
مثنى : ارأيت يا تالة؟ انهما غير موجودان في الساحة.
تالة : اجل، لكنهما ليسا مع باقي زملائهم اليوم. دعنا ننتظر قليلاً عسى أن يأتوا فيما بعد.
مثنى : حسناً، سننتظر.
بقى مثنى وتالة لاكثر من ربع ساعة يراقبان الاولاد وهم يلعبون حتى شعرت تالة بالجوع فقررا العودة إلى البيت. رجعا الى السيارة وقبل ان يدوّر محرك السيارة. رأوا الولدين معاذ وقصي يأتيان من بعيد سيراً على الاقدام فتوقف مثنى وعدل عن تشغيل محرك سيارته ثم نظر الى الولدين بين الشك واليقين حتى اقتربا منهما اكثر فبدأ يدمدم بداخله ويقول "اولاد الكلب اولاد الزانية" فسألته ابنته وقالت،
تالة : كيف تتلفظ بمثل هذه الالفاظ يا أبي؟
مثنى : انا آسف حبيبتي لكنني لم اجد الكلمات المناسبة لمثل هؤلاء الوحوش.
تالة : إذاً انا كنت على حق. انهم هم يا ابي.
مثنى : بسرعة، انظري الى الناحية الثانية ولا تدعيهم يتعرفوا عليك.
ادارا رأسيهما الى اليسار بينما مر الولدان من الجانب الايمن من السيارة فلم يشعرا بوجودهما. وبعد ان ابتعدا تماماً نزل مثنى وابنته من السيارة ورجعا الى الملعب من جديد. فور وصول الولدين الى قلب الساحة، بدأوا يلعبون بحماس كبير مع اصحابهم. وفي لحظة من اللحظات قام معاذ بضرب الكرة براحة يده اليمنى التي كان من المفروض أنها كسرت قبل 6 أشهر. فكان ذلك امراً من الصعب تصديقه. لكن مثنى وابنته بقيا يراقبا اللعبة حتى ارتطمت الكرة بقوة بصدر الثاني (قصي) الذي ادعى وقتها ان ثلاثة من أضلاعه قد كسرت مع عظم الحوض اثر الحادث. هنا قال مثنى،
مثنى : دعينا نقترب منهما اكثر لنلتقط لهم الصور ونفضحهم امام اصحابهم.
تالة : كلا يا أبي هذا العمل لا يجدي نفعاً لان اصحابهم سيقفون الى صفهم كما وقف قاضي المحكمة الى صفهم في السابق وكذلك الذين زوروا التقارير الطبية الكاذبة وصرحوا بانهم مصابون بكسور. يجب علينا ان نفكر بالانتقام لاخواني كريم وحليم بشكل أفضل.
مثنى : ولكن ماذا نستطيع ان نفعل؟ ماذا يدور بخلدك؟
تالة : لنرجع الى الدار ونرتب خطة محكمة حتى ننتقم منهم.
استدارا ليَهُمّا بالعودة الى السيارة لكن بتلك اللحظة لمحهما احد الولدين فاخبر صاحبه الثاني. استدار الثاني صوبهما وبدأ يدمدم ثم صارا يركضان صوبهما. صرخت تالة على والدها وقالت،
تالة : هيا اركض يا ابي لقد اكتشفوا امرنا. دعنا نرجع للسيارة ونذهب من هنا.
ركض الاثنان ودخلا السيارة ثم انطلقا باقصى سرعة ليرجعا الى بيتهما. وفي البيت جلس مثنى بغرفة الاستقبال فدخلت عليه ابنته حاملة كأسين فخاريين من الشاي وقالت،
تالة : كان اليوم مثيراً، اليس كذلك؟
مثنى : هل قلت مثيراً؟ بل كان مرعباً للغاية فأبويهم يترأسان مليشات مارقة، يعيثون بالارض الفساد، يدمرون البلاد والعباد وبامكانهم قتلنا كالكلاب الضالة وقتما يشاؤون دون ان يحاسبهم احد.
تالة : ونحن لسنا جبناء لنبقى ساكتين على ظلمهم يا ابي. يجب علينا ان نرد الصاع بالصاع.
مثنى : وكيف سنفعل ذلك؟ هل لديك خطة معينة؟
تالة : مهمتنا الاولى هي ان نعرف عنوان منزلهم في السيدية.
مثنى : وما ادراك انهم يسكنون في السيدية؟
تالة : هذا امر بديهي وبسيط. فلماذا يلعبون كرة الطائرة بملعب ويكابدون مشقة السير على الاقدام إذا كانوا لا يسكنون بمنطقة السيدية؟
مثنى : والله كلامك مضبوط.
تالة : دعنا نحاول جمع المعلومات. فلدينا يومان لنفعل ذلك.
مثنى : ولماذا يومان؟ انا لا افهمكِ. لماذا لا نبدأ غداً؟
تالة : هل نسيت يا ابي؟ غداً لدي اختبار الحزام الاسود. وعلي ان اتدرب جيداً كي اضبط (الكتاس) فانا لا اريد ارتكاب أي خطأ لاضطر بعدها الانتظار ثلاثة اشهر اخرى حتى اخوض الاختبار الموالي.
مثنى : انا متأكد من انك ستنجحين يا عمري وستنالين الحزام الاسود.
تالة : اجل ولكن الاختبار سيكون الساعة الثانية بعد الظهر وانت لاتزال بمقر عملك.
مثنى : اطمئني يا عمري. ساستأذن من مديري كي احضر لاتابع الاختبار، لانها فرصة لا تعوض.
باليوم التالي وقف مثنى وسط الجمهور يتابع الاستعراض الاولي قبل الاختبار بينما دخلت تالة الى غرفة التبديل لترتدي قفازاتها وخوذتها الواقية استعداداً لتأدية الاختبار. وبعد انتظار دام اكثر من نصف ساعة اعلن المسؤول عن دخول لجنة التحكيم فجلسوا في الصف الامامي. بعدها أعلن عن دخول المتسابقين الى القاعة. وسط تصفيق الجمهور دخل صف من 17 متسابقاً من المقاتلين يمشون تباعاً وكأنهم جنود في الجيش وكانت تالة تسير بآخر الطابور فهي اصغرهم سناً واقصرهم قامة وعندما بلغوا وسط القاعة، جلسوا القرفصاء على الارض. اعلن عريف الحفل عن بدئ المتسابق الاول بخوض الاختبار. تقدم الى وسط القاعة وقدم حركات الـ (كتاس) بصورة مثيرة للاعجاب.
** اللاعب الاول يؤدي حركات الكتاس
صفق له الجمهور كثيراً عند الانتهاء ثم طلب منه رئيس لجنة التحكيم تأدية بعض الحركات والفنون الخاصة. وفي النهاية طُلِبَ منه القتال مع احد الاعضاء ممن يحملون الحزام الاسود. فتقاتل الطالب معه ببسالة ثم امره رئيس لجنة التحكيم بالوقوف جانباً. هنا تقدم المتسابق الثاني ليؤدي نفس الاختبار. وبعد ان توالى 16 متسابقاً في تادية الاختبارات جاء دور تالة. وقفت تالة بوسط القاعة فعم الهدوء بين الحاضرين. بدأت تالة تؤدي نفس الاختبارات التي اداها زملائها الستة عشر من قبلها ولكن كان من الواضح جداً انها افضل منهم جميعاً. وعندما تقاتلت مع احد المتطوعين ذو الحزام الاسود. تغلبت عليه بسهولة كبيرة بخفتها وسرعتها وشدة ضرباتها الدقيقة المؤثرة. ولما فرغت من جميع الاختبارات، اعلن رئيس لجنة التحكيم عن النتائج حين قال، "لقد فاز بالحزام الاسود 16 متسابقاً ما عدى واحد فقط كان ادائه دون المستوى المطلوب ويؤجل حتى الاختبار القادم بعد 3 اشهر". بتلك اللحظة كان مثنى خائفاً جداً من ان تكون ابنته هي التي فشلت بالاختبار لكن رئيس لجنة التحكيم اضاف، "المتسابق الذي فشل بالاختبار هو الطالب وسيم عمر". وبذلك تنفس مثنى الصعداء. بعدها قال رئيس لجنة التحكيم ان المتسابق الذي حاز على لقب افضل المتسابقين هي تالة مثنى شاكر. فصفق لها الحضور بحرارة. بعدها طُلِبَ منها اداء الاستعراض الخاص بالمتفوقين والذي يتضمن بناء هرم من الالواح الخشبية وسط القاعة فتقوم تالة بالقفز في الهواء وكسر اللوحة التي في قمة ذلك الهرم ثم تنزل على الارض مع الابقاء على باقي الالواح بالهرم ثابتة بمكانها.
** تالة تقفز باهواء لتكسر اللوحة في قمة الهرم
ادت تالة الاستعراض بنجاح كبير فقسمت اللوحة العليا الى نصفين. صفق لها الجمهور بحرارة وحماس كبيرين. وقف مدرب الفريق واعلن للجمهور ذلك الاعلان إذ قال، "منذ اكثر من 15 عاماً لم يصل طالب الى الحزام الاسود بمثل براعة الطالبة تالة لذلك منحها النادي لقب (البركان)".
صفق لها الجمهور بحرارة وراحوا يهتفون (بركان-بركان-بركان) ثم اعلن رئيس لجنة التحكيم عن انتهاء الاحتفال بعد ان وزع الاحزمة السوداء على الناجحين الستة عشر. ركضت تالة صوب والدها الواقف بين الجمهور لتحتضنه فراح يقبلها ويخبرها بمدى فخره واعتزازه بما انجزت. وباليوم الموالي بعد عودته من عمله جلس مثنى مع ابنته غرفة الاستقبال حين سألها،
مثنى : كيف سنبدأ خطتنا؟
تالة : اليوم اتصلت هاتفياً بابن عمتي فلاح وأستفسرت منه عن الاولاد الاشرار معاذ وقصي فقال انهما ليسا معه بالاعدادية بل هما مازالا بالمتوسطة بسبب رسوبهما المتكرر. لذلك سأل اخاه الاصغر صهيب عنهما ليخبره بانهما يسكنان بشارع متفرع من شارع قطر الندى. انه نفس الشارع الذي فيه مطعم كوخ شاورمة الشهير. وقال ان هناك حرّاس يقفون امام منزلهم الكبير بوسط الشارع يحرسونهم.
مثنى : لماذا لا نذهب الآن لنستكشف المنزل؟
تالة : كنت ساقترح عليك ذلك لكنك سبقتني.
ركبا السيارة متوجهين الى السيدية وراحا يبحثان عن شارع قطر الندى. وعندما وجدوه نظر مثنى من الشباك وطلب من ابنته ان تفتش عن الفرع الذي اخبرهم عنه فلاح لكنهما لم يجداه بسهولة. هنا اوقف احد المارة وسأله عن مطعم كوخ شاورمة فقال له انه سيبلغه بعد ثلاثة فروع. صارت تالة تعد الفروع حتى وصلا الى الفرع المطلوب فدخلاه وصار مثنى يقود سيارته ببطئ شديد كي يحاول العثور على المنزل. وفجأة صرخت ابنته قائلة،
تالة : لقد وجدته. انظر هناك يا ابي. يوجد ثلاث حراس مسلحون يقفون امام منزل كبير كما وصفه لي ابن عمتي فلاح بالضبط.
مروا بالسيارة من امام المنزل فشاهدوا الحراس يبحلقون بوجوههم بريبة كبيرة وكأنهم يعرفون ما يدور بخاطرهم. هنا قالت تالة،
تالة : الآن ليس لدينا اي شك بالمكان. دعنا نعود الى البيت يا ابي.
ترى ماذا ستفعل تالة واباها؟ هل سيتمكنون من الانتقام؟ هل سيكونان نداً لافراد مجموعتين مسلحتين مجرمتين أم انهما سيصبحان فريسة سهلة بين فكاك الضباع! سنعرف مصيرهم في الجزء الثاني من هذه القصة.
733 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع