بقلم المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
العراق دولة المنظمة العلنية / الجزء الخامس
أملي كبير في أن أكون قد وفقت في استطاعتي تغيير البعض من الاعتقاد والقناعة لدى القارئ العزيز في مسؤولية الرئيس العراقي (صدام حسين) فيما وصل إليه العراق من وضع مزري ومستقبل مجهول من خلال قراءته لهذا الحد من الكتاب وأن أوصله إلى القناعة الكاملة بعد إكماله قراءة بقية الكتاب ومن أجل ذلك رأينا من الصواب أن نتطلع سوية على ما ذكره السكرتيرالصحفي للرئيس العراقي (عبد الجبار محسن) في اللقاء التلفزيوني الذي أجراه معه الدكتور (حميد عبد الله) في برنامجه (شهادات خاصة) تناول فيه قراءة وتحليل شخصية الرئيس العراقي (صدام حسين) ندرجه ادناه حرفياً علماً بان المذكور شغل منصب مدير التوجيه السياسي في وزارة الدفاع إبان الحرب العراقية الإيرانية وسكرتيراً صحفياً للرئيس العراقي للفترة من عام 1991 ولغاية عام 2003 وهو من أوائل البعثيين حيث انتمى لهذا الحزب في عام 1952 وذلك من أجل الاستفادة من حديثه لاسيما وأنه كان من المقربين منه ولفترة طويلة ومعايشته للأحداث وعملاً بالقول المأثور (أهل مكة ادرى بشعابها) وقبل التطرق إلى الأخطاء القاتلة الأخرى والتي أودت به في النهاية إلى الهاوية...
عبد الجبار محسن
((صدام حسين كأي شخصية تاريخية لا بد أن يكون خلاف حولها وما فهمته عن الرجل ربما أكون مخطئاً فيه ويخالفني الكثيرون ولكن هذه القناعة التي تولدت عندي وما فهمته عن الرجل هذه هي القناعة التي تولدت عندي.
صدام حسين لم يكن منتمياً لأي حزب... كان منتميا لنفسه وكان شديد التعصب ونرجسياً إلى أبعد حدود النرجسية, كان ذكياً ويستعمل ذكاءه لصالحه, ذكي بشكل مفرط وكانت مشكلته أنه يبالغ في قدراته الذاتية وأنه مصاب بأخطر ما يمكن أن يصاب به أي زعيم سياسي وهي أن يتصور الأماني حقائق أن يتصور تمنياته في شعبه يؤيدوه صغاراً وكباراً من كافة القوميات والطوائف والأديان... إلخ. وأنهم رهن إشارته... هذا التصور أو هذا التمني افترض فيه الحقيقة التمني بأن يكون قادراً على تحقيق الغلبة والنصر ضد أي قوة مهما عظمت بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية اعتماداً على ما في الجوانب الاعتبارية, هذا أيضاً وضع الأماني مكان الحقائق.
كثير من السياسيين أصابهم مثل هذا الداء ولكنهم جميعاً فشلوا لأن الحياة لكي تخوضها استجابة لمعضلة لكي تتغلب على مشكلة تحتاج إلى قدرة حقيقية وليس قدرة مفترضة والقدرة الحقيقية لا تأتي بالتمني إنما تأتي بالبناء والاعتماد على الذات بهذا الشكل أيضاً لا يأتي بالنتيجة.
ثم هناك مسألة إن هذا الإفراط في الاعتماد على النفس وفي الثقة بالنفس يجر إلى الغرور ولا شيء كالغرور يؤدي بحياة الإنسان ولا سيما السياسي منهم, كان يحب من يريد أن يحبوه من الناس ويغدق عليهم وكان يكره أيضا بالاختيار.
كنت أراه لا يطيق الرجال الحقيقيين الرجال الذين لديهم الموهبة والفكر المنظم الغزير السليم أو لديهم الشجاعة أو لديهم الطموح هؤلاء دائماً يضع عليهم علامة ضرب, يخشى منهم أولا وأكثر ما يخشاه منهم لا يطيقهم جبراً ولذلك كان أعز وصف من ما وصف به عنده هو (صدام حسين صياد رجال) كلش يطربه هذا الوصف تراه مهللاً قالها له أحد المواطنين فتمسك به الرئيس واعتبره أحسن ما يمكن أن يوصف به.
هاي الأمور قادته إلى استنتاج مفاده وهو الاستنتاج الخاطئ بالتأكيد أن الشعب العراقي والفرد العراقي يحرك بواحدة من اثنين الإغراء والإرهاب (الترغيب والترهيب)...
الترغيب تعطيه لكي تكسبه أي ترشيه بعبارة أدق... والترهيب لا يتردد في أن يجتث (حسب التعبير السائد هذه الأيام) كل من يختلف معه... هو إعلامي من الدرجة الأولى يبكي ويضحك ويخلق حوله جو دراماتيكي رجل لم يكن مبدأياً بأي حال من الأحوال لأن المبادئ التي قام عليها حزب البعث والتي يفترض هو الباني لها قد تجاهلها تماماً, لم يكن وحدوياً إلا بمقدار ما تعني له الوحدة شعبية له في عموم الوطن العربي, ولم يكن اشتراكياً بحال حيث كان يمقت الاشتراكية ولم يكن طبعاً ديمقراطياً كان يؤمن بقيادته للأمة العربية وفارس العروبة بأن تكون له شعبية تتجاوز ما حققه أفضل رجل في عصرنا وهو (جمال عبد الناصر) وكان (جمال عبد الناصر) وهو في قبره يمثل تحدياً له ولذلك كان يغدق على الأعيان والشخصيات العربية والأحزاب العربية ما يحاول أن يصور للأخرين أن إنقاذ فلسطين هي حصته وحده.
أما أنه كان يؤمن بأن تتوحد الأمة العربية بطريقة دعنا نسميها ديمقراطية أو الخيار الحر أو الوعي الجماهيري لم يكن يؤمن به.))
صدام حسين وجاك شيراك فرنسا 1975
إن ما أورده (عبد الجبار محسن) في هذا اللقاء من معلومات عن شخصية الرئيس العراقي (صدام حسين) بحكم عمله معه لفترة طويلة تتطلب من القارئ العزيز الإمعان في معانيها وبناء تصور جديد عن هذه الشخصية كما هو الحال معي حيث شجعني ذلك على إضافة ما تكون عندي من انطباعات إضافية عنه فبالرغم من قضائه مدة تقارب خمسة وثلاثون عاماً على رأس السلطة في العراق كنائب لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة وبعد ذلك رئيساً, إلا أنه لم يستطع من تطوير ملكاته الثقافية السياسية ولم يتعلم شيئاً من فن إدارة الدولة والدبلوماسية في العصر الحديث وبقي محتفظاً بأصوله وجذوره العشائرية عندما كان يتعامل ويمارس صلاحياته المطلقة على شعبه وبنفس العقلية والتصور عندما كان يتعامل مع روؤساء الدول, وبهذه المناسبة رأينا أن ننقل جزءاً من تقرير حول زيارة الرئيس العراقي إلى فرنسا في أيلول من عام 1975, دعوة قدمها (جاك شيراك) لـ (صدام حسين) لزيارة فرنسا الذي كان ظاهرياً الرجل الثاني في النظام إلا أنه في الحقيقة الحاكم المطلق للعراق وبوصول (صدام حسين) إلى فرنسا شعر المسؤولون الفرنسيون المكلفون باستقباله وخدمته بإحراج كبير لأنه لا يحترم أي تقاليد أو اعراف دبلوماسية أو بروتوكولية, فقد جلب معه جيشاً من الحراس الشخصيين المدججين بالأسلحة يجولون وسط ممرات وباحات وغرف الفندق يفتشون كل شيء وكذلك رافقه فريق من الخدم والحشم والطباخين ونزل في فندق (ماريني) مقابل قصر الإليزيه وحمل معه عدة سمك المسكوف ونصبها وسط حديقة الفندق الفخم ولم يجرأ أحد على منعه أو حتى تذكيره بأن ذلك لا يدخل في العرف الدبلوماسي والبروتوكولي السائد, وكان (صدام حسين) يعتقد بأنه يقوم بمفاجأة سارة لـ (جاك شيراك) بجلبه طائرة خاصة من بغداد تحمل طناً ونصف الطن من السمك وأعد وليمة في الفندق في التاسع من أيلول سنة 1975, استغرق إعداد وشوي السمك بهذه الكمية الكبيرة إلى ساعات طويلة متأخرة من الليل.
صدام حسين وجاك شيراك يحتفلان أيلول 1975
وبعد فترة من العلاقات الساخنة بين الرجلين والانتقادات التي كانت توجه إلى (جاك شيراك) بسبب ذلك ذكر في مذكراته (علمت بجنون القمع الذي يمارسه مع شعبه قطعت علاقتي به).
في حين أن الرئيس العراقي كان يأمل منه دعماً مطلقاً في حرب الخليج الثانية دون أن يدرك بأن القضايا والعلاقات الدولية لا تخضع للمزاجية الشخصية للزعماء كما هو الحال في العراق وجعل كل شيء يخضع لمزاج الرئيس وقدراته وهو ليس سمة جميع الزعماء الآخرين.
لقد قام المذكور بطبع سلوك الدولة بالطابع العشائري ولم يكن للقانون أي قيمة تذكر عنده ومن أشهر تصريحاته في هذا المجال ((شنو القانون مو إحنا واضعيه وإحنا نكَدر نلغيه أو نعدله))
كان بدوياً وحكم العراق بهذه العقلية حتى لحظة موته ومزاجياً يتقلب مزاجه سريعاً من الرضا إلى السخط والارتياح إلى الضيق وكان يفعل أي شيء من أجل البقاء في منصبه وركز على المحافظة على أمنه الشخصي واستعمل كل ذكائه لهذا الغرض ونحن عندما نوصف شخصية هذا الرجل بالعشائرية وبالبداوة فإننا لا نقصد الإساءة إلى هذه الشريحة المهمة من الشعب العراقي وما تحمله من قيم أخلاقية مشتركة أصيلة وسليمة في الصدق والوفاء والاحترام وكان الكثير من هذه القيم ممثلاً في طبيعة الرئيس العراقي (صدام حسين).
ومن الأمثلة على مزاجية الرئيس (صدام حسين) وحتى في أخطر الأمور وخلطه بين الممارسات التي كان يؤديها باعتباره الرجل الأول في الدولة وأصوله العشائرية, عندما قام بجولة تفقد في احدى المناطق القريبة من العاصمة بغداد وهناك جلس على الأرض يقابله رجل طاعن في السن وبسيط والجماهير وأفراد الحمايات حولهما وهم يهتفون ويصفقون, حيث وجه للرجل سؤالاً : ((يحجون يكَولون لازم اطلعونه الجاسوس بازوفت... شتكَول أنت... ويكَولون إذا ما اطلعونه... هيجي نسوي ....وهيجي نسوي))
الرجل: ((هو أكو واحد يكَدر يجربلك))
فما كان من الرئيس العراقي إلا أن دخل في نوبة ضحك من ضحكاته المعهودة ويأمر بإعدام (فرزاد بازوفت) ويستهزأ من بريطانيا عندما يقول: ((ماكو عدنا دولة كبرى))
الجاسوس فرزاد بازوفت
والأغرب من هذا الحديث ما قاله وزير الإعلام (لطيف نصيف جاسم): ((أرادوا بازوفت حياً فارسلنا لهم جثته))
وهكذا فإن تراكمات الأخطاء والتصرفات السيئة والخارجة عن العرف الدبلوماسي الضارة بمصالح العراق السياسية والاقتصادية والاعتبارية, بشكل عام أوصلت ذلك النظام إلى حتفه الذي لم يكن ينتظره بالاعتماد على قوى وأحزاب المعارضة العراقية جميعاً, ويستنتج ذلك من كلام الرئيس العراقي عند محاكمته ومخاطبته للقاضي (رؤوف): ((والله لو ما الأمريكان لا أنت ولا أبوك يكَدر يجيبني لهذا المكان))
نعود ونذكر القراء الأعزاء بأن انشغال واهتمام الرئيس العراقي بالحروب والقضايا الأمنية وأمنه الشخصي على الخصوص وسبل بقائه على رأس السلطة وقتل وسجن وابعاد مناوئيه حتى بالشبهة كل هذه الأمور جعلت استيعابه للوضع السياسي المعقد في العالم والمنطقة يتعدى مستوى عقليته وفهمه للتطورات الدولية وميزان القوى وإدارة الصراع.
وما دمنا نتحدث عن الصفات الشخصية للرئيس العراقي السابق (صدام حسين) رأينا أن نختمه بما نشرته وكالة رويترز حول شخصيته استكمالاً للفائدة:
((ستبقى الكثير من التساؤلات تدور حول شخصية الرجل وهيبته التي يعتبرها الكثيرون ساحرة أخاذة وقدرته على إدارة الحكم في بلد معقد اجتماعياً وسياسياً وكيف استطاع ضبط إيقاع الحياة فيه على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد منذ كان نائباً للرئيس ثم رئيساً تصفق له الجماهير وتهتف باسمه طوعاً أو كرهاً إلى مطارد يتخطفه الناس وتعلن المكافئات المليونية للقبض عليه ثم شجاعاً ثابت القلب على حبل المشنقة وقد أحاط به جلادوه... ولن يحسم الجدل في هذا الموضوع قريباً ما دام العراقيون قادرين على استدعائه في الملمات والمصائب روحاً وشخصية وطريقة حكم حتى إشعار أخر)).
للراغبين الأطلاع على الجزء الرابع:
https://algardenia.com/maqalat/41741-2019-09-30-04-09-29.html
3155 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع