بقلم المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
العراق دولة المنظمة العلنية-الجزء الرابع
هنا وبعد أن انتهينا من الحديث عن الحروب التي تورط بها الشعب العراقي بقرار شخصي من الرئيس العراقي (صدام حسين) بعد استلامه للسلطة المطلقة في عام 1979 وإزاحته للرئيس العراقي السابق (احمد حسن البكر) والذي اعتبره المسؤول عن كل المآسي والخراب الذي حل بالعراق على عكس الذين كانوا ولازالوا يعتقدون بأنه كان حملاً وديعاً, فهو مسؤول عن كل الجرائم التي وقعت منذ استلام هذه القيادة للسلطة في العراق وحتى بعد استقالته وتسليمه لمنصبه وسلطاته, فهو إن لم يكن مشتركاً في ارتكابها فقد كان على علم بوقوعها (الساكت عن الحق شيطان أخرس) بالإضافة إلى كونه الممهد والمساند الرئيسي لـ (صدام حسين) بعد انقلاب 17-30 تموز 1968 لاستلام المواقع الأمامية في السلطة والحزب وأولها نائباً لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة مع السلطات المطلقة في كافة المواقع الأساسية الأخرى للدولة العراقية بالرغم من وجود الكثير من رجالات هذا الحزب وقياداته من الذين يفوقون المذكور كفاءة وإقتداراً ونشاطاً سياسياً والاتيان بالمذكور من قبل الرئيس السابق (أحمد حسن البكر) وإبرازه بهذا الشكل لم يكن اعتباطياً وإنما كان الهدف منه جعله حامياً لظهره من أية محاولة انقلابية وإزاحته عن السلطة ومن المؤكد عدم استمرار المذكور طيلة هذه المدة الطويلة في الحكم لولا وجود (صدام حسين) والذي رأى في نفسه الاقتدار الكامل في حكم العراق في عام 1979 وأن يقول للمذكور ((عمنا الجبير كافي عاد بعد ما احتاجك ولو ما آني جان يا دوب تبقالك سنة لو سنتين))
أحمد حسن البكر وصدام حسين
لقد كان (أحمد حسن البكر) رجلاً مولعاً بالسلطة حتى ولو كانت سلطة غير حقيقية وظاهرية حيث كانت تتردد حكايات عنه في خضوعه لنائبه (صدام حسين) والتابعين له ومن هذه الحكايات اتصال المذكور بمدير الأمن العام (ناظم كزار) ليستفسر منه عن وضع أحد الأشخاص الموقوفين عنده لتوسط أشخاص لديه بقصد إطلاق سراحه, فما كان من (ناظم كزار) إلا أن يبدي له أسفه لكون الشخص المقصود قد تم إعدامه قبل يوم وبعد انتهاء المكالمة الهاتفية بينهما أصدر أمراً إلى تابعيه لتنفيذ الإعدام به فوراً...
وحدث أخر تطرق إليه (طاهر توفيق العاني) السكرتير الشخصي للرئيس العراقي (أحمد حسن البكر) والذي يذكر بأن الأخير فوجئ بإعدام صديقه العميد(محمد فرج جاسم) بتاريخ 24/1/1970 بتهمة إشتراكه في مؤامرة (عبد الغني الراوي) حيث سأل (طه الجزراوي) عن مصيره بعد اعتقاله فأجابه (الجزراوي) أنه أعدم فصفق (البكر) بيديه متحسراً ملوماً نفسه!
واستطرد (العاني) في حديثه مع الكاتب والصحفي (شامل عبد القادر) والذي نشر في صحيفة المشرق بأنه عندما كان في مطاركروبر العسكري حيث اعتقلنا تحدث (الجزراوي) عن مؤامرة 1970 وملابسات اعدام (محمد فرج) قائلاً: ((لم نكن قد اعدمنا الفرج بعد فقال لي صدام حسين قد يرسل عليك البكر ويسألك عن مصيره فقل له إننا اعدمناه وبالفعل أرسل علي البكر وسألني فقلت له لقد أعدمناه, كنا نعرف قوة علاقته بـ (محمد جاسم فرج) وبعد يوم واحد من لقائي بالبكر قمنا باعدام محمد! ))
وفي برنامج شاهد على العصر الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية يستفسر مقدم البرنامج (أحمد منصور) من ضيفه (حامد الجبوري) وزير شؤون رئاسة الجمهورية وسكرتير رئيس الجمهورية (أحمد حسن البكر) عن التصفيات التي قام بها (صدام حسين) بدون علم (البكر) وموافقته, فيرد (حامد الجبوري) قائلاً: ((نعم لقد قام صدام حسين بعمليات تصفيات بدون علم البكر مثلاً كان الشيخ عبد العزيز البدري دائماً يزور البكر على الأقل بالأسبوع مرة واحدة وكنت أراه وهو أحد شيوخ الدين السنة المحترمين في بغداد, الشيخ عبد العزيز البدري كانت عنده علاقة جداً قديمة مع البكر ويلتقي معه في مكتبه في القصر الجمهوري وقي يوم من الأيام صباحاً في بداية الدوام ذهبت عند الرئيس البكر كالعادة ندردش ونشرب الشاي ونتدارس القضايا المستعجلة والتوجيهات, شاهدته مغموماً ويدخن بكثرة, سألته: (( شنو الموضوع سيادة الرئيس))
فأجاب: يوم أمس طلب مقابلتي مجموعة من المشايخ المحترمين في بغداد.... وفاجئوني بخبر إعدام الشيخ عبد العزيز البدري))
الشيخ عبد العزيز البدري
ويضيف (حامد الجبوري) بأنه وبناء على طلب البكر واجه صدام حسين وأبلغه بأن الرئيس فوجئ بهذا العمل وهو غير مرتاح جداً وأنت تعرف جيداً علاقته الحميمة مع الرئيس البكر وكان دائماً يزوره في القصر ولم يجاوبني صدام مطلقاً ولم يبد أي شكل من أشكال الندم أو الخطأ وكان ذلك في عام 1969.
وحكاية أخرى من هذا الطراز ففي الأعوام 1973- 1974 أراد (أحمد حسن البكر) التمسك بالشيوعيين القياديين وهم (عامر عبد الله, عزيز شريف, مكرم الطالباني, عزيز محمد) أما (صدام حسين) فقد أراد أن يقدم القيادة المركزية وعزيز الحاج وكان هؤلاء القادة يترددون على البكر في بيته ويتعاطف معهم وتعمق الخلاف بين (البكر) و(صدام) بعد إصرار الأخير على إعدام العسكريين الشيوعيين بتهمة وجود تنظيم حزبي شيوعي في الجيش... رفض (البكر) التوقيع على قرارات الإعدام ,,, وفي صباح اليوم التالي اتصل به قائد شيوعي فأجابه (البكر) بأنهم لم يعدموا لأنه لم يوقع على إعدامهم.
قال له القائد الشيوعي: ((سيادة الرئيس لقد أعدموا في ليلة أمس )) وهنا ينطبق عليه المثل العراقي القائل (نايم ورجليه بالشمس)
كانت صدمة قوية لـ (البكر) لأنه كان قد أعطى وعداً للقادة الشيوعيين بعدم اعدامهم ثم تبين بأن (صدام حسين) قد أعدمهم دون الرجوع إليه.
بطبيعة الحال نختم الحديث عن هذا الرجل ونتسائل:-
يا ترى كم هي القضايا على شاكلة ما ذكرنا من أحداث ولم تظهر للعيان أو يكشف عنها النقاب وظلت طي الكتمان.
إذا كان الرجل يشغل قمة القيادة في الدولة العراقية (رئيس الجمهورية بالإضافة لأمين سر القطر لحزب البعث ورئيس مجلس قيادة الثورة) فكان الأجدر به أن يختار الإنزواء في داره وأن ينصرف إلى صلاته وصومه والذي كان حريصاً على أدائهما بكل دقة وانتظام ولم يكن ذلك إلا اسقاط فرض لا غير.
حبذا لو كان حياً ويجيبنا ... كم إنسان أعدم بدون وجه حق بتوقيع هذا البكر؟ والذي لم يستطع انقاذ أصدقائه المقربين... فكيف الحال بالمواطن البسيط والذي وقع تحت رحمة المحاكم العديدة الاستثنائية (محكمة الثورة, المحاكم الخاصة في مديرية الأمن العامة والاستخبارات العسكرية العامة وجهاز المخابرات).
لقد كان وجوده في هذا الموقع المهم وبكامل الصلاحيات الدستورية والقانونية وهو بهذا الحال من الخنوع وقبول المهانة من نائبه الذي جاء به ليحميه ويذله في نفس الوقت.
عبد الخالق السامرائي
لقد بدأ (صدام حسين) سلطاته الفعلية في منصبه الجديد بمجزرة قاعة الخلد حيث قام بتصفية العديد من رفاقه ومنهم من له علاقة متميزة وطويلة معه ونقصد به (عدنان الحمداني), كما قام بانهاء حياة القيادي في الحزب (عبد الخالق السامرائي) على ضوء اقتراح ابن عمه (علي حسن المجيد) وضمه إلى المجموعة التي اعدمت بعد أن قضى ستة سنوات في السجن الانفرادي في دائرة المخابرات وقد استحسن (صدام حسين) مقترح ابن عمه في أن يعدم مع المذكورين إن لم يكن ذلك سيناريو متفق عليه بينهما, حيث كانت رغبة التخلص من (عبد الخالق السامرائي) في عقل وقلب ومشاعر وتصرفات وسلوك (صدام حسين) إلا أن الشيء الذي يثير القرف والاشمئزاز ويعطي انطباعاً في تخلف هذه القيادة وهمجيتها وبعدها عن تعاليم الدين الإسلامي السمحاء والبعد الإنساني والحضاري وشيم الرجولة الحقة عندما أمر بالحكم عليه بالإعدام في عام 1973 في مؤامرة (ناظم كزار) ومن ثم خفف الحكم إلى المؤبد وهنا يسحبه من السجن الإنفرادي ويمسك شاربه نيابة عن القيادة ويقرر إعدامه.
ويأتي من يقول بأن القانون كان مصاناً دون تجاوز من أي كان في ظل ذلك النظام ورئيسه (صدام حسين) والذي ورط الشعب العراقي المغلوب على أمره بالحروب دون أن يكون له رأي في قرارات إشعالها والخوض في غمارها كما هو الحال في الدول الديمقراطية الحقة, وليس كما كان عندنا من حكومة ومجلس وطني وجدت فقط من أجل إعطاء الصفة الشكلية القانونية للدولة وقراراتها وهنا أجد من الضروري أن استشهد بقول شاعرنا الرصافي عندما قال في هجاء النظام الملكي ومؤسساته:-
أنا بالحكومة والسياسة اعرف أئلام في تفنيدها وأعنف
علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف
اجتماع قاعة الخلد 1979 وعلي حسن المجيد واقفا يطالب صدام حسين بإعدام عبد الخالق السامرائي
يا ترى لو كان شاعرنا الرصافي لازال حياً وعاصر النظامين نظام ما قبل ونظام ما بعد 2003 فكيف كانت ستكون قصيدته في وصفهما بالتأكيد لم يكن ليصل ويعايش زمن النظام الثاني حيث كانت ستجري تصفيته في زمن النظام الأول إن كان تجرأ ونظم قصيدة في هجائها بمستوى قصيدته أو أقل في هجاء الحكومة الملكية...
القرارات والقوانين المهمة كانت تصدر من مجلس قيادة الثورة شكلاً ورئيسها (صدام حسين) حصراً وحسب أهوائه ومزاجه الشخصي والوصف الذي كان صديقي المرحوم (وليد خليل العايش) وهو من الكوادر المتقدمة في حزب البعث يصف به الرئيس العراقي بـ (أبو جدحة) حينما كان يأمر بإطلاق سراح شخص محكوم عليه بالإعدام أو بإعدام شخص لم يرتكب جريمة أو ارتكب جريمة ولكنها لا تستحق هذه العقوبة, وحسب الحالة النفسية التي هو فيها وبهذه المناسبة وفي موضوع ذو صلة انقل لكم ما كتبته (رغد صدام حسين) في يومياتها نصاً تأكيداً على هذا السلوك من الرئيس العراقي (صدام حسين) في مناسبات كثيرة : في عهد صدام حسين 1985 أيام الحرب مع إيران دخلت امرأة شمرية إلى مجلس الشيخ (محسن العجيل) وهي في حالة انهيار هستيري وتنتخي به فنهض من مكانه وقال: (( أبشري وصلتي وصلتي...))
قالت: ((ابني الوحيد محكوم عليه بالإعدام بسبب عدم التحاقه بوحدته في الجبهة وغداً موعد تنفيذ الإعدام في سجن أبو غريب))
فقال لها: ((لا أظن أن بوسعي فعل شيء لضيق الوقت وكان الوقت ظهراً ))
فأخرجت كيساً من جيبها وألقته أمامه.
قال: ((ما هذا؟))
قالت: ((افتحه وستجد الجواب))
ففتح الكيس فوجد فيه جديلتها مع قليل من الرماد... فاهتز الشيخ (محسن) وتغير لون وجهه وخرج مسرعاً وتوجه إلى بغداد فوصل بعد صلاة العشاء، فاتصل بالمرحوم (عدنان خير الله) وزير الدفاع وما هي إلا ساعة وإذا بوقوف موكب من سيارات المرسيدس أمام منزل الشيخ (محسن) وإذا به وزير الدفاع (عدنان خير الله طلفاح) يحضر, استقبله الشيخ (محسن) ودخلا إلى المجلس وبعد دقائق خرج الاثنان مسرعين وركبا سيارة السيد (عدنان) وانطلقا باتجاه سجن أبو غريب ودخلا إلى غرفة مدير السجن وطلبا منه احضار الشاب الشمري وبعد أن أحضره ووقف أمامهم قال له السيد (عدنان خير الله) روح اركب السيارة فارتعب مدير السجن...
وقال: (( سيدي وأنا بعد راح أركب معاكم لأن راح انعدم مكانه))
الشيخ محسن العجيل الياور الجربا عدنان خير الله طلفاح
فضحك السيد عدنان والشيخ محسن وعادوا لبيت الشيخ وبعد وصولهم اتصل السيد (عدنان) بالسيد رئيس الجمهورية (صدام حسين) وأخبره قصة الشمرية مع الشيخ (محسن) وما فعلوه هو والشيخ مع الشاب.
فقال له القائد (صدام حسين): وين مدير السجن ؟
قال: بجانبي.
قال: انطيني ياه
فقال السيد عدنان لمدير السجن ومد له السماعة: الرئيس يريدك... فارتجف الرجل من الخوف
قال مدير السجن: نعم سيدي
فقال له الرئيس: كم عدد المحكومين بالإعدام وبنفس حالة الشمري.
أجابه مدير السجن: سيدي (400)
قال له الرئيس: قل لعدنان ومحسن إذا هم ثنينهم طلعوا واحد أنا أطلع الـ (400) كلهم... وأنا أخو هدلة))
والسؤال الذي يطرح نفسه بهذه المناسبة, إذا كانت الشمرية قد استطاعت الوصول إلى أخو هدلة... فما هو مصير الذي لا يستطيع الوصول إليه؟ وبالتأكيد قلة من استطاع ذلك والغالبية راحوا في خبر كان؟
للراغبين الأطلاع على الجزء الثالث:
https://algardenia.com/maqalat/41674-2019-09-21-05-55-02.html
1221 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع