لطيف عبد سالم
حين يقود التلوث إلى العطش..قضاء المدائن أنموذجا
يمكن الجزم بأنَّ الأمنَ المائي العراقي يواجه تحديات مقلقة في ظل تأثير جملة من العوامل الموضوعية الداخلية والخارجية. وفي الوقت الذي تتعالى فيه تأكيدات أصحاب الشأن والاختصاص على ضرورة شروع إدارة المياه، بالإضافة إلى إدارات الجهات المعنية بوضع استراتيجية من شأنها المساهمة بفاعليةٍ في مواجهة النقص الشديد بالمياه، فإنَّ المياه الوطنية ما تزال في مواجهة مشكلات أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، والتي تتجسد باستمرار المستهلكين في هدرها بفعل عدم تثمينهم لأهميتها، بالإضافة إلى تفاقم تلوثها الذي تسبب في إفساد نوعية المياه العذبة وإنقاص جودتها.
على الرغم من أنَّ المستهلكَ يُعَدّ بوصفه مساهماً - عن قصد أو من دونه - في التفريط بالمتاح من المياه العذبة، إلى جانب تلويثها وربما تلفها بسبب ضعف مستوى ثقافته بأهمية المياه، وما تقتضي مهمة المحافظة عليها من سلوكيات تنظيمية تقوم على أسس علمية رشيدة، إلا أنَّ ضعفَ أو انخفاض الأداء لصانعي السياسات في الإدارات المعنية بمهمة تحسين البيئة وتطوير النظام الصحي، يشكل أكثر المعايير أهمية في فعالية تحديد مستوى الوعي بسلامة الموارد البشرية والطبيعية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تفاقمت مسببات تلويث المياه في مركز بغداد وضواحيها حتى بلغت مستويات حرجة بعد أن أتيح لإدارات الكثير من مؤسسات العاصمة ومصانعها حرية اختراق المحددات البيئية بشكلٍ آمن نتيجة تراخي أداء الأجهزة الحكومية المعنية وضعف متابعتها أو انعدامها، فعمدت تلك الإدارات إلى التعامل مع ثروتنا المائية بما تباين من النشاطات اليومية الجائرة وغير القابلة للتصديق؛ بالنظر لخطورة آثارها على صحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى.
لعلَّ ما يؤكد ما ذهبنا إليه آنفاً هو استمرار القصور في خدمات الصرف الصحي في أغلب أحياء العاصمة، إلى جانب اهتداء إدارة أمانة بغداد ومديرياتها البلدية - من بينها مديرية مجاري بغداد - إلى مشاركة المنشآت الانتاجية والخدمية في التخلص من مخلفاتها، ولاسيما السائلة برميها في نهر دجلة وروافده من دون تعريضها لعمليات معالجة تسبق إلقاءها في المجاري المائية، مع العرض أنَّ إدارةَ أمانة بغداد تدرك قبل غيرها خطورة هذا السبيل المتخلف والبائس، بالنظر لاحتواء مياه المجاري على مختلف أنواع الجراثيم الممرضة التي من شأنها التسبب في تعريض المستهلكين لأمراض عدة عند انتقالها إلى مياه الأنهار والجداول، إذا ما تنبهنا إلى حقيقة أنَّ المياه السطحية تُعَدّ مصدر إمدادات المياه اليتيم في الكثير من مناطق البلاد، ولاسيما الريفية والنائية.
مصداقاً لما تقدم ذكره، من المناسب والمهم أيضاً الإشارة هنا إلى أنَّ الأهاليَ في قضاء المدائن المركز، عاشوا في الأيام القليلة الماضية لما يقرب من شهر كامل في دوامة بحث دائم وجهد مضني؛ لأجل الحصول على مياه صالحة لأغراض الشرب.
يشيرُ واقعَ الحال في العراق إلى عدم فاعلية البنية التحتية لمنظومات الصرف الصحي، الأمر الذي ساهم في تفاقم مشكلاتها الموروثة من عهد النظام السابق. ولعلَّ المذهل في الأمر أنَّ الكثيرَ من المناطق الحضرية الواقعة خارج مركز العاصمة بغداد، ولاسيما في الضواحي ما تزال محرومة من خدمات الصرف الصحي، إلى جانب تعرض الموجود منها إلى جملةٍ من الأعطال المتكررة. ومصداقاً على ما تفدم ذكره هو كثرة حالات طغيان مياه المجاري غير المعالجة ونفوذها إلى منازل وشوارع بعض أحياء العاصمة ومحلاتها، وربما انتقالها إلى أحياء مجاورة بفعل توقف عمل محطات الضخ أو محطات المعالجة. وبحسب الباحثين والمتخصصين، فإنَّ من شأن الواقع المذكور تعريض المواطنين، وبخاصة الأطفال إلى مشكلاتٍ ومخاطر متعددة، فضلاً عن مساهمة سلبية الآثار المترتبة على هذا الوضع المتردي في تراجع مستوى النظام الصحي للبلاد. وفي هذا السياق يُعَدّ وباء الكوليرا الذي تفشى في العراق عام 2007م الأسوأ في الذاكرة الوطنية الحديثة، بالإضافة إلى تأكيد معطياته سوء حالة مياه الشرب والصرف الصحي في جميع أنحاء البلد.
يمكن الجزم بأنَّ قضاءَ المدائن الذي موقعه جنوب شرقي بغداد يُعَدُّ أحد أقضية العاصمة المكتظة بالسكان، إذ ترتبط به أربع نواحٍ تتسم بتزايد كثافتها السكانية بشكل دائم نتيجة مساهمة التداعيات المترتبة على أزمة الإسكان في البلاد، وهي ناحية الجسر، النهروان، الخالصة والوحدة، بالإضافة إلى مجموعة القرى التابعة لتلك الوحدات الإدارية، والتي قد يزيد تعداد سكانها على نفوس مركز القضاء ذاته. وقد عرفت هذه المنطقة بوجود بناء أثري من بقايا العهد الساساني يقع بالقرب من مركز القضاء وهو طاق كسرى أو إيوان كسرى. كذلك تشتهر المدينة أيضاً بأحد أبرز معالمها الحديثة المتمثل بجسر ديالى القديم الذي أقيم منذ نحو قرن من الزمان من أجل ربط بغداد ببعض محافظات البلاد الأخرى.
من جملة الأمور السلبية التي تدركها جميع الجهات المحلية المعنية بأمور الخدمات الاجتماعية والبلدية، وتجري على مرأى ومَسْمع من إداراتها، هو تدفق الملوثات، ولاسيما السائلة إلى نهر دجلة من مصادر متعددة - وبخاصة الطبية والصناعية - مثل مدينة الطب وشركة إنتاج الزيوت النباتية ومحطة توليد كهرباء جنوبي بغداد، فضلاً عن الكثير غيرها. ويضاف إلى ذلك مشكلة التلوث الكبرى المتمثلة بأسلوب التصرف بمياه المجاري القادمة من محطات الصرف الصحي المقامة في العديد من مناطق الرصافة، والتي يجري تجميعها في مشروع مجاري "الرستمية" قصد معالجتها وإزالة ما علق بها من ملوثات، إذ يجري التخلص منها منذ سنوات بإلقائها في نهر ديالى من دون ضمان اكتمال مراحل المعالجة أو قد يتم رميها بشكلٍ مباشر في النهر، ما يؤكد تعرض مياهه إلى التلوث، والتأثير سلباً في حياة السكان اليومية.
بالإمكان تلمس معالم مشكلة نقص المياه المأمونة الاستخدام في بلادنا بالتمعن في طلب المستهلكين المتزايد على المياه الصالحة للشرب في ظل فقر المنتج منها، فضلاً عن معاناة مناطق عدة من عدم توفر إمدادات كافية من المياه النقية. وفي الوقت الذي تشدد فيه الأدبيات الخاصة بمنظمة اليونيسف على ضرورة إقامه مرافق الصرف الصحي المناسبة؛ لأنَّها تُعَدّ أمراً أساسياً من أجل حياة وكرامة وتطور أيّ بلد، فإنَّ المتوجبَ إدراكه هنا هو تعرض منظومتي مياه الشرب والصرف الصحي في بلادنا للعديد من المشكلات بسبب محدودية طاقاتهما التصميمية والمتاحة، إلى جانب تقادم أغلب مواردهما الفنية والتقنية، وافتقار بعض وحداتهما إلى التحديث وعدم اكتمال بعضها الآخر. ويضاف إلى ذلك كثرة وتباين المصادر التي تسببت في المساهمة بتلويث مواردنا المائية، والتي في المقدمة منها المخلفات الـسائلة الناجمة عن عمل المشافي والمـصانع والمعامل، ولاسيما الصناعات التحويلية.
لأنَّ مجرى نهر ديالى ينتهي مساره جنوبي بغداد، بوصفه خامس روافد نهر دجلة، فمن المؤكد أنَّ الملوثاتَ الملقاة في نهر ديالى ينتقل قسمٌ منها إلى نهر دجلة، فيما يستقر القسم الآخر في أسفل مجراه. ومن هنا تبدأ معاناة مَنْ يقطن مِن الناس في هذه المناطق، فحين يكون جريان النهر طبيعياً، يكون بوسع كوادر محطات تصفية المياه وتنقيتها تدبُّر الأمر؛ بالنظر لركود الملوثات أسفل النهر بفضل انخفاض مناسيب المياه، إلا أنَّ المشكلةَ تبدأ بالظهور عندما تزداد كميات المياه في النهر ويرتفع معدل سرعة انسيابها عند حدوث أمطار غزيرة أو مرور سيول جارفة أو في الأحوال التي تزداد فيها إطلاقات المياه بمجرى النهر.
لا ريب أنَّ حصولَ أيّ زيادة مؤثرة في فعالية العاملين المذكورين آنفاً، من شأنه التسبب في إزاحة كميات من المواد الملوثة المترسبة في قاع مجرى النهر، والتي سرعان ما تحملها المياه إلى نهر دجلة الذي لم يكن في الأيام الماضية كما تغزل به الشعراء، إذ طغى اللون الأسود على سطحه في قسمه المار بالقرب من منطقة المدائن بسبب تداخل مياهه مع مخلفات منظومات الصرف الصحي القادمة من نهر ديالى، والذي أفضى إلى توقف محطات إنتاج مياه الشرب التي تزود السكان في قضاء المدائن بمياه الشرب عن العمل، ما يعني أنَّ تلوثَ مياه أنهارنا الوطنية أفضى إلى تعطيش قضاء بكامله!.
على مدى خمسة وعشرين يوماً بلياليها، عاش الأهالي بمختلف مناطق قضاء المدائن أزمة حقيقية وهم يواجهون مستقبلاً قاتماً بسبب تعرضهم للعطش المتأتي من توقف شبكة الإسالة عن ضخ المياه النقية، وانتفاء الحاجة لصنابير المياه في المنازل. ولعلَّ ما زاد من فاعلية الأزمة المذكورة هو تواضع الإجراءات الحكومية نتيجة ضعف إمكانيات الإدارات المعنية بهذا الأمر، إذ تجسد الجهد الحكومي في الركون إلى إرسال السيارات الحوضية المحملة بالمياه - بالتعاون والتنسيق مع الإدارة المحلية ومجلسها البلدي - قصد توزيعها على السكان، بالإضافة إلى مساهمة منظمة الهلال الأحمر. ولأنَّ هذه الآلية ليس بوسعها تغطية حاجة الأهالي إلى المياه، فقد برزت مواقف إيجابية تعبر عن أهمية التكافل والتعاون الاجتماعي كبعض الخيرين من أصحاب المزارع الذين جهدوا في استثمار آبارهم بمهمة سحب المياه ونقلها وتوزيعها على المستهلكين - مجاناً - حتى في ساعات متأخرة من الليل، قبالة البعض من أصحاب السيارات و"الستوتات" الذين عمدوا إلى استغلال محنة أبناء جلدتهم وتحويلها إلى وسيلة للاسترزاق!.
1083 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع