خالد القشطيني
يظهر ان الله تعالى قد قدر المعاناة على كل من يسكن في العراق. لألوف السنين عانى العراقيون من فيضانات دجلة و الفرات.
و ما من شيء اثر على نفسية الشعب العراقي كفيضان النهر و شرب العرق. و لكنهم استطاعوا اخيرا السيطرة على مياه الرافدين مع الشكر لجيرانهم الذين سرقوا ماءهم. تخلصوا من هذه المشكلة و إذا بهم يواجهون اليوم مشكلة اكبر بالعواصف الترابية ، الطوز، التي اخذت تخيم على مدنهم بكرم و سخاء ولا يدرون كيف يتخلصون منها فجيرانهم لا يريدون اخذ الطوز منهم.
ما كان يحل موسم الربيع حتى يصبح موضوع الفيضان حديث الساعة. كانت ايام خير و الناس يفكرون بالماء الذي يهددهم و ليس بالقنابل التي تقتلهم كما في هذه الأيام.
داهمهم فيضان رهيب في الثلاثينات بحيث استطاعت مياه دجلة فتح ثغرة في سدة ناظم باشا من ناحية الوزيرية وهددت المياه المتدفقة بإغراق العاصمة العراقية بكل سجونها و مباغيها و قصورها الملكية.
اتصل امين العاصمة فورا بمعاون شرطة السراي و طلب منه اختطاف اي مواطنين يجدهم في الشارع و تسخيرهم جبرا لسد الثغرة. هذا ما كنا نسميه بالسخرة بلهجة يهود بغداد والصخرة بلهجة أهل دربونة العجم الذين لم يتقن سكانها بعد اللغة العربية. اسقط بيد معاون الشرطة. فقد كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل و آوى الناس الى بيوتهم . احتضنوا نساءهم و ناموا. من اين يأتي بالرجال لعملية السخرة؟
ظل يفكر بالأمر حتى اوحى له الباري عز وجل بهذه الفكرة. المكان الوحيد الذي يعج بالناس و النشاط في بغداد في تلك الساعات المتأخرة من الليل كان محلة الكلجية ، المبغى العام في الميدان.
اخذ مجموعة من الشرطة معه و داهم الكلجية لعمل خيرلا إثم فيه. خطفوا كل من وجدوه من رجال اشداء ، الزبائن، و النساء العاملات هناك. سمعت بأن العريف خلف ، انتزع رجلا من فوق المرأة و اخذه بالفانيلة و دون لباس قبل ان يكمل فعلته. راح الرجل يولول و يتذمر: " يا جماعة هذي عدالة؟ ! هذي حكومة!؟... وين وصلنا؟"
جروه و اخذوه مصلخ و القوا به في اللوري. فيضان دجلة لا يعرف الانتظار و لا يبالي بمن كان كواد و من كان شريف. يجرفهم جميعا.
اسرعت اللوريات المحملة بالصرمبارية و قحاب الكلجية الى محل الثغرة التي كسرها التيار. لاحظ الجرخجي ، او الحارس الليلي، في باب المعظم هذه الشاحنات المحملة بالقحاب فلم يتملك نفسه. " الله اكبر! يعني حتى القحاب ياخذوهم من عندنا؟ ما ادري وين نولي وين نروح!" و اخيرا توقفت الشاحنتان عند سدة ناظم باشا و انزلوا ركابها من نساء و رجال. و هناك وجدوا الفؤوس و المساحي و اكياس الجنفاص في انتظارهم. انهمكوا في العمل بجد و نشاط لإنقاذ مدينتهم الحضارية، مدينة المنصور و هارون الرشيد. الرجال يحفرون و يملأون الاكياس بالتراب و النساء يحملن الأكياس على ظهورهن المرهقة لألقائها في الثغرة، وهن يغنين لشد عزيمتهن : " بالك تدوس على الورد و تسوي خلة...خلة "
ما ان دوي الأذان من منائر بغداد لصلاة الفجر حتى كانت هذه المجموعة من السخرة قد انجزوا عملهم و سدوا الثغرة بإحكام و انقذوا العاصمة من المصير المخيف. رفع معاون شرطة السراي سماعة التلفون ليخبر امين العاصمة بأن كل شيء على ما يرام و اعلمه بما بذله صرمبارية بغداد و قحاب الكلجية من مجهود مشكور في حماية بلدهم .
" اشكرهم بالنيابة عني و عن كل الحكومة و قل لهم بارك الله فيكم و كثر من امثالكم."
قال، ثم امره بإعادتهم الى مكانهم في الكلجية مع إعلام كل من كانوا من الرجال ، تقديرا لجهودهم و مكافأة لعملهم ، بأن لهم ان بفعلوا من يشاؤن من النساء في تلك الليلة و كله على حساب الحكومة.
والحليم تكفي الاشاره
774 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع