أ.د. ضياء نافع
ولد فلاديمر فلاديميروفتش نابوكوف في عائلة ارستقراطية غنية بروسيا عام 1899, وهاجر منها مع عائلته عام 1919 ( بعد ثورة اكتوبر 1917 ) ولم يعد لها ابدا , وتوفي عام 1977 في سويسرا وتم دفنه هناك .
عاش نابوكوف في المانيا اولا مع اكثر الادباء والمثقفين الروس بعد 1917 , وهناك ظهرت اولى رواياته بالروسية , ثم هاجرمن المانيا الى فرنسا هروبا من النازيين الالمان , وقبيل سقوط باريس بايدي هؤلاء الالمان هاجرالى امريكا, واصبح مواطنا امريكيا في اواسط الاربعينات ( قال نابوكوف عن نفسه - انا كاتب امريكي ولدت في روسيا وتعلمت في انكلترا , حيث درست الادب الفرنسي ...) , وعندما برز امام الادباء اللاجئين الروس في اوربا بعد ثورة اكتوبر 1917 السؤال المصيري الكبير وهو – هل يستمرون بالكتابة بالروسية للقراء الروس المهاجرين معهم ليس الا , ام ينتقلون الى الكتابة بلغات الدول التي يعيشون فيها , وبالتالي , ينشرون نتاجاتهم بين مواطنيها ؟ , وقد اختار نابوكوف الكتابة بالانكليزية دون اي تردد , وهو الذي قال عن نفسه – ( رأسي يتحدث بالانكليزية وقلبي بالروسية واذني بالفرنسية ) , اذ انه خريج
جامعة كامبريدج الانكليزية الشهيرة , حيث درس وتخصص في الادب الروسي و الادب الفرنسي وعلم الحيوان ( الاسماك والحشرات ) , وكانت هوايته لعبة الشطرنج , وقد برز ونشر بشكل متألق ومبدع في كل هذه المجالات المتنوعة واثبت بما لا يقبل الشك انه رجل متعدد المواهب. ولهذا , فعندما يريدون تعريف نابوكوف الان يقولون عنه انه – شاعر وروائي واختصاصي في علوم الحيوان وخبير في لعبة الشطرنج ومترجم وكاتب مسرحي وكاتب سير ذاتية وكاتب سيناريو واستاذ جامعي وناقد ادبي وصحافي وكاتب خيال علمي , وكل تلك الجوانب متفق عليها بين جميع الذين يهتمون بدراسة سيرته الذاتية واعماله الادبية والعلمية في العالم كله , الا ان هناك موضوع كبير بشأن نابوكوف يثير الخلافات حوله و يثير النقاشات الحادة بشأنه, وهو – هل يعتبر نابوكوف كاتبا روسيٌا ام امريكيا ؟ اذ يؤكٌد الروس انه كاتب روسيٌ ويدخل اسمه ضمن تاريخ الادب الروسي والكتب المنهجية في روسيا , بينما يؤكٌد الامريكان انه كاتب امريكي لدرجة انه توجد في امريكا جائزة ادبية كبيرة باسمه تمنحها جمعية تحمل اسمه , وذلك باعتباره رمزا للادباء الاجانب الذين احتضنتهم امريكا واصبحوا فيما بعد ادباء كبار يكتبون بالانكليزية.
نابوكوف روسي القومية بالطبع , ولد في روسيا وترعرع لمدة عشرين سنة في احضانها , و هو روسي الثقافة بكل ما تعني هذه الكلمات من معنى , و هو ابن الامبراطورية الروسية , التي مزقتها احداث القرن العشرين الهائلة من ثورة 1905 والحرب العالمية الاولى 1914 وثورة اكتوبر 1917, ومن ثٌم الحرب الاهلية داخل روسيا نفسها والجوع والقحط بعد ذلك...الخ.. , هذه الاحداث التي أدٌت الى هجرة الملاين من الروس الى اصقاع العالم كافة ( والذين وصلوا حتى الى بغداد في عشرينيات القرن الماضي) . لكن نابوكوف اصبح امريكيا منذ اواسط الاربعينات وأخذ يكتب بالانكليزية , واشتهر عالميا باعتباره كاتبا امريكيا , بل ان اشهر رواية نشرها وهي ( لوليتا ) ظهرت بالانكليزية في باريس , وعلى الرغم من عدم الاعتراف بها في امريكا في البداية , الا انها تحولت فيا بعد الى اوسع نتاجاته واشهرها عالميا (وحتى مادة لدراسة علم النفس !) , وتم ترجمتها الى العديد من لغات العالم , بما فيها الى لغتنا العربية , واصبحت معروفة لدرجة ان الشاعرالسوري نزار قباني كتب قصيدة عنها بعنوان – لوليتا , دون اي اشارة الى اسم كاتبها , وهناك رواية بعنوان ( اصابع لوليتا) بقلم الجزائري واسيني الاعرج , وترجمت العراقية ريم قيس كبة ( لوليتا في طهران / سيرة في كتاب) بقلم الايرانية آذر نفيسي , بل ان الكثير من القراء في العالم يعرفون الان اسم لوليتا اكثر من معرفتهم باسم مؤلفها , الذي تم ترشيحه مرتين لجائزة نوبل للآداب وكاد ان يفوز بها , ومن الجدير بالذكر هنا الاشارة الى ان الكاتب الروسي العالمي الشهير سولجينيتسن هو الذي رشحه لنيل تلك الجائزة . ومع ذلك , اود القول الى اني كنت حاضرا مرة في نقاش بين مجموعة من القراء الروس حول نابوكوف بشكل عام , وحول هذه الرواية بالذات , حيث هاجموها بشدة واعتبروها رمزا للانحطاط والتفاهة و حتى الشذوذ الجنسي غير اللائق بالانسان , ولهذا السبب – كما قالوا – اشتهرت هذه الرواية ليس الا من وجهة نظرهم , الا انهم جميعا تحدثوا عن نابوكوف باعتباره استاذا جامعيا ناجحا ومتميزا جدا لمادة تاريخ الادب الروسي في الجامعات الامريكية , وأشادوا جميعا بذكائه وعمق معرفته وروحه الابتكارية في هذا المجال , وتحدثوا باعجاب عن مؤلفاته المنشورة في كتب منهجية جمعت تلك المحاضرات , وقد أعجبتني جدا ( وسائل الايضاح !) التي قدمها نابوكوف عندما ألقى محاضرته حول الادب الروسي مرة و بالشكل المبتكر الجميل و كما يأتي -
عندما دخل نابوكوف الى قاعة المحاضرات في احدى الجامعات الامريكية لالقاء محاضرته حول تاريخ الادب الروسي , أمر باطفاء كل الانوار واسدال كل الستائر في تلك القاعة , وعندما تم تنفيذ ذلك و حل الظلام الدامس في القاعة , أمر بفتح مصباح واحد فقط وقال – هذا بوشكين , ثم امر بفتح مصباح آخر وقال – وهذا غوغول , ثم امر بفتح كل المصابيح الاخرى وفتح كل الستائر باجمعها وقال – وهذا تولستوي , وقد اندهش الطلبة جميعا طبعا من (وسائل الايضاح هذه ! ) , والتي استطاع نابوكوف ان يوضح للطلبة – بهذه الطريقة البسيطة والمتميزة والجميلة والمدهشة فعلا - قيمة هؤلاء الادباء الروس الكبار واهميتهم في تاريخ الادب الروسي و دورهم الكبير في مسيرته . ولا زالت كلمات أحد اساتذتي الروس الكبار ترن في اذني و قلبي وعقلي عندما قال لي مرة , ان نابوكوف هو رمز لتعاسة الادباء الروس في القرن العشرين ومأساتهم , لانه اضطر ان يتجرع الغربة , و ان يكون مواطنا لدولة اجنبية , وان يكتب بلغة اجنبية , لان الاحداث التراجيدية الهائلة في بلده روسيا دفعته الى هذا المصير , وقد تذكرت طبعا مصائر الكثير من الادباء والفنانين و المفكرين العراقيين العظام والكبار , والادباء والفنانين والمفكرين العرب العظام و الكبار ايضا , وما حل بهم نتيجة قسوة الاحداث ومرارتها في بلداننا , هذه الاحداث التراجيدية العاصفة التي مرٌت ولا تزال تمرٌ في عراقنا الحبيب وعالمنا العربي المعاصر ...
1171 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع