بقلم/ حامد خيري الحيدر
جبل شاهق أشم.. استمدت صخوره صلابتها من صبر أهل هذه البلاد التي أرتبط تاريخ العالم بميلاد مُدنهم.. شموخه يذّكر من يراه بعلو هامة أبطال الاساطير وإبائهم ..
يقف بصمت شاهد مُتجهم الصورة منذ أبد الدهر، بعد أن راعه كل ما مرّ على هذه الأرض من ويلات وآلام على امتداد عمرها السحيق.. يطل سفحه على أرض موحشة، شاحبة شحوب الموتى من كثرة ما ابتلعته من اجساد البشر.. كستها رمال بصفرة باهتة غدت مع قسوة شمس الصيف كحبّات جمر.... أوقفت جموع الخائفين عند السفح غير شاعرين أو مبالين بأقدامهم الحافية التي الهبتها الرمال الحارقة بعد أن غدوا وجهاً لوجه مع الموت.. كبلوا بقيود غليظة دون تفريق بين نسوة وشيوخ وأطفال.... قلوبهم تخفق بشدة.. أجسادهم مرتعدة ترتجف رغم شدة القيض.... عيونهم شاخصة نحو هؤلاء الغربان السود المدججين بالسلاح، الذين قذفت بهم أعاصير الظلام من حيث لا يدري أحد، لتختطف جميل أمانيهم وأحلام دنياهم الى ذلك القدر المجهول.. انهالت السياط اللاسعة على الجميع لإرهابهم وزرع الخوف في نفوسهم.... عُنوة مُزّقت ثياب النساء وسط غضب وصرخات الرجال، ودموع أطفالهن ... لتبدأ دناءة الأيادي المفجوعة بالامتداد الى المناطق الحساسة في أجسادهن المتهالكة المُعفرة بالتراب.......وسط دوامة الخوف هذه أبصرت عينا الصغير (سوشتار) ذو الأربعة أعوام هذه الأحداث، دون أن يمكنه تفكيره الطفولي البريء من فهم ما يجري حوله، وما حدث لمدينته الكبيرة الزاهية بمدارسها وملاعبها ومعابدها من قبل هؤلاء الأغراب المُتشحين بالسواد...... تسّمَر الجميع في أماكنهم .. تركزت أحداقهم على أحد أولئك الغربان... لفت النظر بضخامة جثته ووجهه المُلثم الذي لم يتبين منه سوى عيونه المتقدة بالشرر كعيون الضباع.. بدا واضحاً أنه قائدهم ....أخذ بالمسير جيئة وذهاب أمام جموع المأسورين .. ثم دخل وسطهم لينتقي من بينهم أحد الرجال المقيدين، ملقياً إياه على الأرض أمام الجميع.. وضع قدمه الثقيلة على ظهر ضحيته اليائسة التي غدت كخراف الأضاحي، لا حول لها ولا قوة، ولم تعد تملك سوى النظر الى السماء عّلها تجود بإحدى معجزات الآلهة تنقذه من هذا المصير المرعب... بهدوء أستل ذلك المتلذذ برؤية الدماء سكين كبيرة ماضية، ليمررها بحرفية المجرمين على الرقبة العارية المرتجفة... تفجرت الدماء مُخلّفة بُركة حمراء كبيرة أغرقت ذلك الجسد المسكين الذي لم يتبق منه سوى بضع رعشات، في محاولة أخيرة يائسة للتشبث بالحياة، لكنها سرعان ما خمدت... تعالت الضحكات القبيحة فرحاً بهذا المشهد المروّع، سعيدة بإزهاق أحدى أرواح البشر...... رفع السفاح رأس ضحيته الى الأعلى زهواً، كأنه يرفع لواء انتصار القتلة، صارخاً بصوت مدوي يشبه عواء الذئاب (منذ الآن كلمة (الكًوتيين)* هي من ستقود مصير العالم... أرادة إلهنا هي التي ستسّير هذه الأرض... نحن أصحابها وأسيادها)..... ثم وجّه خطابه نحو أتباعه الشاخصة عيونهم وآذانهم نحوه (أقطعوا رأس كل من يتعبد في غير معابدنا ويستمع لغير كهنتنا، ولسان كل من يرتل الأغاني.. أكسروا كل يد تعزف الموسيقى أو تحمل قصبة الكتابة... خذوا ما شئتم من نساء هذه البلاد فقد غدون سَبايانا).. تعالت صيحات وهتافات الغربان، كأن زعيمهم يزف بُشرى فوزهم بالحياة الخالدة..... تركزت نظرات (سوشتار) المرتعبة على هذا المنظر المقزز.... هل هؤلاء أناس مثلنا خلقتهم الآلهة كي يعمروا الأرض ويزرعوا بذرة الحياة فيها؟.. كما قال لهم يوماً كاهن المعبد وهو يعلمهم أوليات التعبد مع باق الصغار... أم تراهم العفاريت التي كانت أمه تخوفه باختطافهم اياه أن لم يطع كلامها؟.. بحق الآلهة من هؤلاء؟.. من المحال أن تلد هذ البلاد الخضراء الجميلة التي لم تعرف سوى المحبة مثل هذه المخلوقات الكريهة...... جمدت عيونه الصغيرة باتجاه أحد تلك الغربان .. بدا بالغ القبح بلحيته الكثة وشعره الأشعث وطول أظافره التي تشبه مخالب الطيور القمّامة..... بادله ذلك الوحش النظر هو الآخر... تقاطعت عيون الملائكة مع عيون الشياطين في مسار واحد.. نظرات حالمة، تجابه أخرى حاقدة.. لم تكن مجرد نظرات، كانت صراعاً أبدياً صامتاً بين الحياة والموت.. بين العطاء والسلب.. بين الحضارة بجمال زهوها، والتخلف بقبح رموزه...... صرخ صاحب السكين (أجلبوا لي طفلاً صغيراً)... أنتشر الوحوش بين الجموع باحثين عن ضحية مناسبة... هَمهَمة عالية سادت بين الأمهات.. كل تحاول اخفاء طفلها خلف ثيابها التي لا تكاد تستر جسدها... دون شعور أو أرداة منه قادته تلقائيته وعفوية تصرفه للتخفي خلف أمه المرعوبة... أخذ يسرق النظر لما يحدث امامه من خلال ثقوب ثوب أمه...... بسرعة وكما تختطف البوم أحد العصافير.. يد قوية تلتف حوله وترفعه الى الأعلى... هو نفسه ذلك القبيح الذي بادله النظر... (أتحاول الاختباء أيها الفأر الصغير؟) ثم كورقة شجر قذف به أمام السّفاح الذي تلقاه ضاحكاً.. (هدية جميلة لإلهنا العظيم).. صرخة مدوية أطلقتها أمه.. صاحبها عويل اليم تردد هنا وهناك.. (أطفالنا يُقتلون).. (وجودنا يُقتلع من هذه الأرض).. (أحقاً موجودة أنتِ أيتها الآلهة؟)....... دون مبالات أو أدنى اهتمام للصارخين مسك السفاح رأس (سوشتار) الذي لم يكن يتعدى حجم قبضته.. ثم وضع سكينه المخيفة على رقبته... (ماذا سيحدث.. ما فاعل هذا الغراب الكريه بي؟)... أفكار وخواطر تواردت على فكره بسرعة البرق.... أحس بحرارة نصل السكين التي أخذت تكوي رقبته الغضة الصغيرة... رجفات الخوف تسربت الى قلبه الذي تسارعت ضرباته بشدة.... حاولت غريزته البشرية أبداء شيء من المقاومة.. ما لبثت أن خارت...حاول الصراخ.. لكن صدمة الخوف خنقت صوته... في تلك اللحظة تسمرت عيونه على أمه تطلب عونها.. رآها قد جرّدها الوحوش من ثيابها تماماً... ليأخذوا بتقاذفها الواحد للآخر مطلقين ضحكات العُهر التي لا تليق ألا بأمثالهم.. (سوف تمنحينا جسدك أيتها السَبية).... (أنظري سيكون رأس أبنك تحفة جميلة الى جانب رأس ذلك الرجل)........ عندها فهم (سوشتار) ما سيجري له.. عرف معنى وصورة الموت رغم أعوامه المعدودات.. بسرعة أخذت نظراته تتنقل بين أمه وما يحدث لها من قبل الأوغاد، والجموع المُكبلة الغاضبة.. لتستقر في النهاية على الجبل بقمته الشاهقة، حيث بدت جميع الصور قد ذابت وانمحت بين صخوره الصلبة القاسية.... أغمض عيونه مستسلماً لقدره كأنه يريد أخذ غفوة عند حُجر أمه.. عندها لم يعد يشعر بشيء.
* (الكًوتيون).... قبائل همجية بربرية ..كانت تعيش في منطقة جبال (زاكًروس).. تمكنت من أسقاط الامبراطورية الأكدية عام 2230ق.م، ثم سيطرت على أرض الرافدين لأكثر من مئة عام، عاثت فيها خرابا وفساداً، لتكون فترة سيطرتهم من الفترات المظلمة في التاريخ. أسماهم السومريون (أفاعي الجبال) كرهاً لهم، ولتخلفهم فكرياً وحضارياً عن شعب النهرين.... حتى قضى عليهم أبناء (سومر) عام 2120 ق.م بقيادة الأمير السومري العظيم (أوتو حيكًال)، في أول حرب تحررية عرفها التاريخ.
1685 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع