حكاية النفط في العراق
إتجهت انظار العالم لاستثمار النفط العراقي منذ اكثر من قرن من الزمان تقريبا ، عندما شعر الاختصاصيون بوفرة هذا المعدن في المناطق العراقية وما جاورها. فقد نقب عنه ( وليم دارسي) سنة 1891 وعثر عليه في ( ميدان نفطم) الواقعة في شمال الاهواز على مسافة خمسين ميلاً منها. وقد منح أمتياز البحث عن المعادن الصلبة والسائلة في الاراضي الايرانية البنك الشاهي الايراني الذي باشر بالتنقيب واعمال الحفر في منطقة ( دليكي) التي تبعد 35 ميلاً من ( بوشير) ولم يتوفق صاحب الامتياز في تنقيبه حيث ظهرت كمية النفط ضئيلة فانصرقت الجهود الى منطقة( تخت سليمان) الواقعة جنوب عبادان على مسافة 45 ميلاً فتألفت شركة (أنكلو برشيان اويل كومباني) التي حصلت على إمتياز البحث في هذه المنطقة وافتتحت اعمالها سنة 1912 م وظلت دائبة في استخراج النفط بكميات غير قليلة.
هاتان الشركتان وحاجة العالم القصوى الى النفط دفعت الخبراء الى المساومة على كنوز العراق النفطية واستثمار منابعها التي تعد من اغنى منابع العالم واحسنها جودة . فقد ثبت أخيراً ان السعرة ( كالوري) والطاقة المخزونتان في النفط العراقي واللتان تظهران عند وقوده اكثر بكثير من اي نفط آخر.
وقد انتبه الى اهمية النفط العراقي ووفرته السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان يدرك ما لهذه المادة من أثر فعال في الحروب والصناعات العصرية فاصدر مرسوماً حصر بموجبه منح إمتياز التفتيش عن عروق وبحيرات النفط.
وقد حاولت الولايات المتحدة الامريكية الحصول على هذا الامتياز فارسلت وفدا تلو الآخر لمساومة السلطان عبد الحميد فلم تجدِ محاولتها فتيلاً . واضطرت حكومة واشنطن عام 1800 لانتداب الاميرال ( شستر) الامريكي لمقابلة السلطان بهذا الشأن فلم يتوفق كذلك رغم ما بذله من الجهود.
وفي عام 1903 منحت شركة( الخطوط الحديدية الاناضولية ) وهي شركة المانية يساهم فيها البنك الاماني المشهور إمتياز (سكة حديد بغداد – برلين) التي من ضمن شروط هذا الامتياز منح حق استثمار جميع المعادن في كافة المناطق الواقعة على جانبي هذا الخط على مسافة 20 كيلومتراً من كل جانب ، وقد دخلت ضمن هذه المناطق المنطقة النفطية الشمالية وغرب دجلة.
وفي سنة 1904 باشرت الشركة الالمانية بدرس الاراضي النفطية في ولايتي الموصل وبغداد وشرعت في مد السكة الحديدية ( بغداد – برلين) لاستغلال المناطق المعدنية برمتها، ولكنها اضطرت في 31 كانون الثاني 1911 الى بيع حق استثمار النفط دون المعادن الاخرى الى شركتي ( انكلو برشيان اويل كمباني) و( رويال شل الانكليزيتين لقاء 24 الف سهم) من اصل( 89 الف سهم) وسميت الشركة الجديدة التي ضمت جميع ملوك النفط من الانكليز والالمان باسم( شركة الاميازات الافريقية الشرقية المحدودة) .
وفي 10 تشرين الاول سنة 1912 بدلت هذه الشركة عنوانها باسم ( شركة النفط التركية المحدودة) وفي 25 حزيران 1914 جددت هذه الشركة امتيازها مع الحكومة العثمانية باستثمار النفط في ولايتي الموصل وبغداد بصورة ملائمة اكثر من السابق بفضل مساعي سفيري انكلترا والمانيا في الاستانة.
وفي إبّان الحرب العالمية الاولى انتقلت السيادة النفطية الى الولايات المتحدة الامريكية حيث إنشغلت باقي الدول بالتطاحن الذي اضطرها الى حصر قواها للحرب.
ولما كان النفط من اهم الوقود المعول عليه في الصناعات الميكانيكية وعلى الاخص في زمن الحرب فقد تنافست الدول تنافساً غريباً ادى الى تغيير كلي لمجرى الحوادث النفطية.
وعندما تم النصر للحلفاء وعقدت الهدنة انسلخت ارض العراق من الاراضي العثمانية حيث صرح ( اللورد كورزنفي) بخطبة مشهورة له قائلاً( لقد بلغنا ميناء الظفر على بحر من النفط) ورغماً عن احتكار الانكليز لمنابع النفط في الهند وايران فقد رضيت بتبادل المنفعة مع فرنسا في منابع نفط رومانيا وغاليسيا والعراق. ونظراً لالحاح امريكا في المساهمة معها في استغلال النفط فقد اضطرت انكلترا لاشتراك امريكا معها في آبار العراق .
وعلى هذا المبدأ بحثت الدول المشتركة في مؤتمر ( سان ريمو) عن النفط فحرمت المانيا منه وحل محلها كل من امريكا وفرنسا فصارت ( شركة النفط التركية المحدودة) بعد أن كانت المانية انكليزية تخص جماعة من ملوك المال من الانكليز والافرنسيين والامريكيان
وشرعت هذه الشركة الموحدة تفاوض الحكومة العراقية بحقها المكتسب من الحكومة العثمانية إنتهت بفوزها بالتأييد فمنحت في 14 آذار/مارس 1925 إمتياز إستثمار النفط في كافة الانحاء العراقية لمدة 75 سنة تحت شروط خاصة نصت عليها المقاولة المعقودة بينها وبين الحكومة العراقية في التاريخ الانف ذكره.
وفي الحال باشرت االشركة بالاعمال التمهيدية للتفتيش عن منابع النفط في اربع وعشرين بقعة مساحة كل واحدة منها ثمانية أميال مربعة في كافة انحاء العراق ما عدا منطقتي البصرة والمنطقة المحايدة الكائنة بين الحدود العراقية وخانقين على أن هذه الشركة لم تتمكن من انهاء مهمتها التفتيشية في الوقت المعين لها في بنود الامتياز . ولهذا فقد اضطرت الى طلب تعديل بعض بنود الاتفاقية في سنة 1931.
والذي كان يفاوض الحكومة العراقية ويساومها بشأن منح الامتياز يومذاك هو ( المستر كيلينغ) احد كبار رجال الانكليز وهو خبير بالعراق وشؤونه الذي اصطحب الجيش الانكليزي في العراق فأسره الاتراك عند حصار كوت الامارة . وقد لاقى صعوبات شتى من الذين ارادوا احباط مساع مع الحكومة العراقية لانجاح مطاليبهم ولاسيما من قبل مندوبي شركتي ( فنتكرس وفرانك هواس) الذي وقع مقاولة استخراج نفط نجد.
وفي كانون الثاني 1933 كان الشروع في التصدر الفعلي للنفط العراقي ، كما تمّ تحديد الرسوم والضرائب اللازم دفعها ذهباً وقد نص احد بنود إتفاقية هذه الشركة على أن تعطي للحكومة مجانا عشرين بالمائة من النفط الخام المستخرج وللحكومة العراقية حق التصرف به كما تشاء او ان تبيعه الى الشركة بسعر يتفق عليه بينهما.
وعند إنتقال الاراضي المحولة من ايران الى العراق بعد تحديد الحدود سنة 1913 بين تركيا وايران عادت المنطقة المحصورة بين خانقين ومندلي المتاخمة للحدود الايرانية المعروفة بالنفطخانة الى العراق ، وقد منح امتياز استغلالها الى شركة نفط خانقين الملحقة بشركة ( انكلو برشيان اويل كومباني) في ايار 1926 ، وهذا الامتياز ملحق باتفاقية 30 آب سنة 1935 . وقد نص على أن تكون الحصة المستحقة للحكومة العراقية على اساس الطن المتري كما نص على أن تنشيء مصفى في خانقين وعلى ان يباع ما ينتجه المصفى من النفط في العراق .
ومما سبق يظهر ان نفط العراق اصبح تحت تصرف ثلاث شركات مهمة هي( شركة النفط العراقية المحدودة) ومنطقة اعمالها كائنة في شرق نهر دجلة و( شركة إنماء النفط البريطانية المحدودة) وعملها قائم في غرب نهر دجلة و( شركة نفط خانقين المحدودة) وعملها ينحصر في النفطخانة الواقعة بين خانقين ومندلي . اما شركة نفط الرافدين المحدودة) فهي شركة تجارية تعمل لتصريف النفط العراقي وتوزيعه داخلاً وخارجاً. ولم تزل شركة مد خط الانابيب الى البحر الابيض المتوسط المحدودة وشركة نقليات نفط العراق المحدودة ( بروش اورينت) تعمل كل منهما في دائرة اختصاصها كفرع لشركة النفط العراقية المحدودة. هذا عدا عن شركة االرافدين المحدودة التي تقوم باتجار وبيع النفط الخاص بالشركة العراقية.
مناطق النفط في العراق
العراق غنيي بنفطه وقد اعتبره الخبراء من البقاع النفطية الرئيسة في العالم وقد دلّ التنقيب على أن جميع منابع النفط في العراق اصلها واحد من حيث ربطها تحت الارض وتتصل بحيرة النفط العراقي بمنابع نفط باكو الروسية. وبعد أن تمّ السير الفني في نواح متفرقة للبحث عن النفط وجدت مناطقه ومنابعه من قبل اعظم الخبراء الجيولوجيين بينهم الانكليزي والفرنسي والهولندي والامريكي والمجري شرعت الشركات النفطية في حفر الآبار بهمة واستمرار . وكان يوم 5 نيسان 1927 يوم الاحتفال بإفتتاح أعمال الحفر في جبال ( بلخانة) شرفها المغفور له جلالة الملك فيصل الاول ووزراء دولته وكبار موظفيها. وقد استمرت اعمال الحفر وإمتدت الى اكثر المناطق النفطية . وقد بذلت الشركة في عملها في الحفر باذلة الملايين من الدنانير لهذا السبب . وقد سبر العمال غور بعض الابار الى ما يزيد على 2000 قدم إستغرق حفر بعضها ستة اشهر ليلاً ونهاراً .
وأهم الاماكن التي حفرت فيها الابار هي منطقة (بابا كركر) الواقعة في الشمال الشرقي من كركوك على مسافة سبعة اميال .
ففي 14 تشرين الاول 1927 ارتفع النفط في بئر باباكركر منفجرا بغزارة مدهشة بمعدل (92000) برميل في اليوم بما يساوي سبعة آلاف طن مرتفعا (80) قدما فوق البرج القائم على فوهة البئر ، وسال النفط حول تلك البئر مكوناً بحيرة خطيرة اغرقت عدداً من العمال والاختصاصيين ولم تتمكن الشركة من سد هذه الفوهة الا في 23 تشرين الاول 1927 اي بعد ثمانية أيام ونصف بلياليها.
وقد حفرت غير هذه البئر آبار أخرى في بولكخانة ( نفط طاغ) في جنوب شرقي ( طوزخرماتو) وفي بالقرب من ضفة شط العظيم اليسرى وفي جنوب غربي كفري . وفي جبل حمرين وفي غربي ( قره تبة) في خشم النار وفي نارجيل وجامبور بالقرب من كركوك و( النفط خانة) قرب مندلي وفي (افتخار) و( خورمور) وسليمان بك و ( اغاصوجاي) وطاووق وخانوكة والخشم الاحمر.
مصافي النفط في العراق
مصفى الوند
يعود هذا المصفى الى شركة نفط خانقين المحدودة، شرعت بإنشائه في اوائل سنة 1926 وهي لم تبلغ بعد منابع النفط ومجاريه الاصلية بيد انها وجدت ان بترول النفطخانة على عمق بسيط ومقاديره تدعو الى نصب آلات التصفية والترشيح لتجهيز ما تحتاج اليه اسواق العراق من البنزين والنفط الابيض والاسود والكيروسين ، ولقد تمّ بناء المصفى في اوائل سنة 1927.
يقع هذا المصفى على ضفة نهر الوند الجنوبية من اراضي المحولة على بعد اربعة اميال من خانقين ويتمكن من تصفية مليون ونصف مليون ( غالون) من الزيت شهرياً . وقد مدت الشركة ثلاثة انابيب من المصفى الى رأس السكة الحديدية لشحن النفط.
k1مصفى
يعود هذا المصفى الى شركة النفط العراقية التي أنشأته في منطقة باباكركر بالقرب من محلات ضخ النفط. اما مصافي هذه الشركة الرئيسة فهي في حيفا.
مصفى الحكومة
نظرا للبند الوارد في اتفاقية شركة( بي أو دي) مع الحكومة العراقية والذي نص على أن تدفع الشركة الى الحكومة العراقية مجانا 20% من النفط الخام المستخرج من منطقتها الواقعة غرب دجلة تتصرف به كما تشاء ، فقد باشرت الحكومة العراقية في اواخر سنة 1935 في مفاوضة الخبراء الاختصاصيين في وضع الخطط اللازمة لبنائه على ان يكون محله بالقرب من القيادة المنطقة التي تستغلها شركة بي او دي ويحتمل ان يتم هذا المشروع في نهاية 1937.
مشروع مد انابيب عبر الصحراء
بعد أن منحت شركة النفط العراقية اامتياز نفط منطقة شرق دجلة إستأذنت الحكومة العراقية على مد انابيب عبر الصحراء لضخ نفط العراق وتفريغه في موانيء البحر الابيض المتوسط . وبعد مفاوضات عينت فيها شروط الاتفاق الجديد اعطى للشركة إمتياز آخر يخولها الحق بمد الانابيب عبر الصحراء من مراكز النفط العراقية حتى حيفا على أن تدفع مقداراً معيناً من المال عن كل طن يضخ في الانابيب بدلاً من الرسوم التي عينتها إتفاقية 14 آذار 1925 كما أن بنود الاتفاق الجديد تنص على أن تكون جميع ممتلكات الشركة بعد إنهاء مدة الامتياز ملكاً للحكومة العراقية.
كيفية إنشاء خط الانابيب
سبقت هيئة مد الانابيب لجنة هندسية طوبغرافية تبعتها عشرات السيارات الضخمة ذات العشرين عجلة اعدت خصيصاً للسير على الرمال حمولة كل واحدة منها (40) طناً ومتوسط سرعتها على الرمال 60 كيلومترا في الساعة.
وقد سارت على اثر هذه السيارات آلات وعدد حفر الخنادق التي تقلع التراب من عمق متر واحد بصورة دقيقة فتقذفه على جهتي الخندق المحفور واذا ما اعترضها حجر قاسٍ انضمرت سكاكينها ومقالبها الى فوق بشكل اوتوماتيكي فتجتاز الآلة الحجر من دون أن يلحقها الضرر.
اما الاماكن الصخرية فتنسف بالبارود بعد أن تجوف بطونها بمثاقب الضغط الهوائي.
وهناك مكائن أخرى لرص الانابيب وتغليفها بشكل محكم ودفنها بصورة فنية تمنع عنها المؤثرات الجوية المختلفة.
وقد نصبت على موازاة الانبوب اعمدة البرق من بغداد الى حيفا.
إن انابيب النفط تجتاز من المنبع الى المصب مسافة تنوف على الالف كيلومتر مهيأة لصب 40 مليون طن متري من النفط سنوياً. وقد استغرق إنشاء هذا الخط مدة تنوف على السنتين . ونظراً لأن السائل كثيف يحتاج الى ضخ لدفعه وايصاله الى الموانيء البحرية ، فقد أنشأت الشركة على طول الانابيب اثني عشر مركزاً للضخ يشتغل فيها 245 محركا يبلغ مجموع قوتها (22500) حصان.
وقد اقيم عند رأس الخط في كركوك عدة خزانات عظيمة تسع بعضها نصف مليون غالون اعدت لتموين مراكز الضخ بالزيت الذي يسيل بقوة المكابس الضاغطة من محطة الى اخرى. والنفط يسير في انبوب واحد من كركوك الى مدينة ( حديثة) ثم يفترق الى انبوبين احدهما يتجه الى طرابلس بلبنان مارا بسوريا والاخر يتجه الى حيفا في فلسطين وقطر كل من هذين الانبوبين (12) انجاً عند المصب و16 انجا عند مركز الدفع. ويبلغ طول خط انابيب طرابلس 535 ميلاً وطول خط انابيب حيفا 625 ميلاً ، والخطان يسيران بصورة متوازنة من كركوك حتى حديثة غرب محطة الضخ الثالثة . وبعد افتراقهما تدفع اربع محطات اخرى نفط الخط الجنوبي الى مصبه في حيفا أن سبعاً من هذه المحطات الا ثنتي عشرة تقع في الاراضي العراقية تسع منها واقعة في الصحراء التي جهزت دوائرها بالتلفون واللاسلكي وجميع اسباب الراحة، ويعد هذا الخط العمراني من مفاخر الاعمال الهندسية في القرن العشرين.
واحتفل بإفتتاح هذا الخط إحتفالاً لاسمياً في 14 كانون الثاني 1935 حيث تفضل صاحب الجلالة الملك غازي الاول بتشغيل آلات الضخ بحفلة فخمة حضرها الوزراء والاعيان والنواب وكبار الموظفين والهيئات الدبلوماسية ونخبة من ى رجال انكلترا وجمهرة من ملوك النفط في العالم.
2142 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع