المراسلات :
Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 433
التاريخ : 2025
تمرد بحارة كرونشتات
مقدمة
ما أن توصلت القيادة البلشفية / الشيوعية إلى تثبيت سلطة الاتحاد السوفيتي ككيان سياسي دولي، وذلك لم يتم إلا بعد تضحيات جسيمة، وتحديات ومخاطر كانت تحدق بالدولة الوليدة من كل حدب وصوب، مخاطر داخلية تتمثل بسوء الأوضاع الاقتصادية، واستلام السلطة السوفيتية للوضع وهو على مشارف دولة منهارة على كافة الأصعدة، ولم تكن البلاد تمتلك أية احتياطيات، يضاف لذلك نشاط لا يهدأ لقوى النظام القيصري في تأليب القوى والحركات الداخلية والخارجية ضد النظام السوفيتي، وجيوش المنشقين المعادين للسلطة السوفيتية، ومؤامرات القوى الغربية. والدفاع عن الثورة الاشتراكية وكان نحو 14 جيشاً قد تحشد، تحت قيادة متعاونين / خونة أدلاء أطلق عليهم (الجيش الأبيض) دخلوا من جهات عديدة لإسقاط الدولة الحديثة. ولكن هذه المساعي فشلت في النصف الأول من عام 1921، ولكنها لم تنته بعد بشكل تام، إذ كان لهذه القوى عناصر متعاونة معها في الداخل وتغتنم كل سانحة لإثارة المتاعب بوجه السلطة السوفيتية.
ومن البديهي أن تخلف هذه الأحداث الجسام، من حروب عالمية خارجية، وثورات (فبراير ــ أكتوبر / 1917) وحرب أهلية داخلية، وحروب تدخل من الخارج، أن تخلف آثارها البليغة، وقبل كل شيء الآثار الكارثية لصلح بريست ليتوفسك، التي وقعتها الدولة السوفيتية، والتي كان لابد منها للخروج من طاحونة الحرب العالمية الأولى، وبموجب هذه الاتفاقية، كل ذلك كان قد تم التنازل عنه في الاتفاقية النهائية التي وقعت بتاريخ 3 / مارس / 1918 ومن ذلك :
ــ خسرت روسيا 32% من الأراضي الصالحة للزراعة.
ــ و85% من محصول البنجر اللازم لإنتاج السكر.
ــ و89% من حقول الفحم.
و54% من طاقاتها الصناعية.
وفي الواقع فإن هذه المعطيات السلبية قد قادت إلى تدهور في الموقف الاقتصادي، بسبب ظروف الحرب وما تلاها، أما الحصار الاقتصادي بين عامي 18 – 1920، فقد أدى إلى مصرع أكثر من 7.5 مليون روسي بسبب المجاعات وانتشار الأمراض والأوبئة، عدا عن ضحايا الحرب. كانت جريدة “برافدا” الموسكوية قد ذكرت أن 25 مليون روسي كانوا يعانون الجوع عام 1921 وحده. وعبر أحد الخبراء الاقتصاديين السوفيت “أن مثل هذا التدهور الحاد في قوى الإنتاج، في مجتمع كبير يشمل مائة مليون مواطن، هو أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية”.
أحالت هذه الظروف السيئة روسيا إلى بلد متخلف العالم تجتاحه المجاعة واضطرابات اجتماعية، بعدما أنهت الدولة السوفيتية الجبهة الشرقية للحرب العالمية الأولى من خلال معاهدة السلام التي تفاوضت بشأنها ووقعتها مع ألمانيا في بريست – ليتوفسك، تمكنت من خلالها إنهاء الحرب، ولكن باتفاقية خسرت فيها البلاد الكثير من الموارد، كما قادت إلى الكثير من التداعيات الاجتماعية وخلافات بين كتل سياسية بما فيها الحزب الشيوعي الحاكم، واقتصادياً انحدر متوسط الدخل القومي في روسيا بعد الحرب الأهلية، ليصل إلى ثُلث قيمته في 1913 (وهي قيمة متواضعة أصلاً) علماً بأن الدخل القومي في روسيا 1913 كان أقل بـ 20% منه في بريطانيا 1688. أما الإنتاج الصناعي فقد هبط إلى 1/5 ما كان عليه قبل الحرب. كما هبطت معدلات إنتاج الفحم وصل إلى عشر معدلات ما قبل الحرب، والحديد إلى 1 / 40. أما نظام السكك الحديدية فكان قد دمر تقريباً.
(الصورة: موقع كرونشتات الاستراتيجي في مدخل الخليج المؤدي للعاصمة بتروغراد)
تمرد بحارة كرونشتات مارس / 1921:
كرونشتات (Kronstsdt) هي مدينة / قاعدة عسكرية تابعة لمدينة سانت بطرسبيرغ (لينينغراد سابقاً) وتتمركز فيها قوات تمثل النخبة في الجيش الأحمر السوفيتي، وتقع في الخليج الفنلندي في المجال المؤدي لمدينة سانت بطرسبيرغ (العاصمة القيصرية)، ومن هنا تمثلت أهميتها الاستراتيجية. تبلغ المساحة الإجمالية للجزيرة 19.35 كم مربع، كانت قد تأسست بتاريخ 7/ أيار / 1704، والحصن الذي شيد في الجزيرة قاد لأن تصبح الجزيرة قاعدة بحرية عسكرية بأمر من القيصر بطرس الأكبر.
وكانت هذه القاعدة البحرية (كرونشتاد)، إحدى معاقل الثورة الاشتراكية، فالبحارة الروس، مثلوا القوة الضاربة لثورة أكتوبر الاشتراكية، وهم في غالبيتهم العظمى ينحدرون من الأسر الفلاحية، الذين وقع على كاهلهم ظلم مضاعف يتمثل بالإقطاع الروسي الجائر من جهة، ومن جهة أخرى كانوا وقود الحرب التي شنتها روسيا بالتحالف مع بريطانيا وفرنسا، لذلك كان اندفاعهم في تأييد الثورة اشتراكية بديهياً التي ستنقذهم من الإقطاع ومن أتون الحرب.
ولكن الثورة الاشتراكية لم يكن بوسعها أن تتجاوز كل الكوارث التي ورثتها، أو تلك التي خلفتها الحروب (العالمية الأولى ــ والحرب الأهلية ـ وحروب المتدخلين)، بسرعة وسط ظروف صعبة داخلية وخارجية، بما في ذلك ظهور تيارات انشقاقية داخل الحزب الشيوعي، وانتهازية، وفي كل ذلك لم تكن تأثيرات القوى الأجنبية التي كانت تدعم أي حركة انشقاقية، أو مربكة للوضع الذي كان يعاني من مشاكل جمة.
في هذه الظروف الحرجة جداً، سرت بين البحارة الذين كانوا حتى الأمس القريب ركيزة الثورة الأساسية، أنباء تدفعهم إلى الهياج، أن أسرهم في القرى تعاني المجاعة حتى الموت، وإنهم قاموا بالثورة ليوفروا الخبز للشعب، وإذا بالأمر يزداد سوءاً على سوء. ولم يكن من السهل إقناع البحارة بالصعوبات الموضوعية، ومفردات الموقف المعقد، وكان هناك من يصب النار على الزيت ليزيده التهاباً.
(الصورة: رسم للقاعدة تظهر الحصون المتفرقة في البحر المحيطة بالقاعدة)
وفي عام 1921 كانت قد أنقضت أربعة أعوام على الحرب الأهلية، والشعب تواق لأن يعيش في ظروف بعيدة عن الحروب والأزمات، سرت موجة احتجاجات، تخلى فيها أعضاء الحزب الشيوعي عن الديمقراطية داخل الحزب، شارك فيها حتى بحارة البارجة التاريخي "أورورا" ووقفوا لجانب المحتجين. ومثل هذه المشاعر وأشد منها كانت تسري بين بحارة قاعدة كرونشتاد الفخورين بأنفسهم وبدورهم التاريخي. وبعد أن سمعوا أنباء التظاهرات والاحتجاجات، في 28 / شباط / 1921 عاد مندوبي البحارة من العاصمة من العاصمة بتروغراد إلى القاعدة، وكانت لديهم الأنباء عن التظاهرات والإضرابات، ودعوا إلى اجتماع موسع، وفي المساء قدم البحارة مطالبهم " انتخابات وصحافة حرة، وحق التعبير والاجتماع، للعمال والفلاحين ".
الحكومة السوفيتية اعتبرت أن عمل البحارة في كرونشتاد يهدد الدولة ونظامها، واعتبرت بأنها معادية للاشتراكية، وأنها تضع الثورة ومكاسبها في موقع الخطر. وقد أعلن لينين وتروتسكي عصيان بحارة كرونشتاد، أن موقف البحارة اليوم لا يشبه ذاك الموقف الذي اتخذوه عام 1917 وأن البحارة قبل أربع سنين لم يعودوا هناك، وبحارة تلك الأيام كانوا من العمال والفلاحين، وبحارة اليوم هم تابعون للبورجوازية والكولاك (الإقطاع الروسي).
الضرورة المأساوية
في 7 / آذار / 1921 بدأ الهجوم على قاعدة كرونشتات بأمر من تروتسكي وزير الدفاع تروتسكي القائد العام للجيش الأحمر، وهو الذي كان قد وجه إنذاراً " نحن نكره أن نرفع السلاح بوجوهكم ... ما لم تلقوا السلاح حالاً وأن تمتثلوا لإرادة وأوامر القيادة ". كان قمع البلاشفة لانتفاضة كرونشتاد في 1921، كما وصفه تروتسكي “ضرورة مأساوية”.
وفي 17 / آذار، بدأت المدفعية الحكومية بقصف القاعدة، والمواقع التي يعتقد بأنها مهمة، وفي اليوم التالي بدأ هجوم نحو 50,000 جندي من الجيش الأحمر عبر بحيرة لادوغا، واستمرت المعركة 20 ساعة، بعدها أستسلم البحارة لمهاجميهم. وقد تمكن 8000 من البحارة الهرب إلى فلندة عبر مياه الخليج المتجمدة، فيما قتل نحو 2,500 من البحارة، ومن وقع بأيدي القوات لاقوا مصيرهم رمياً بالرصاص. ولكن بالمقابل خسرت السلطة الكثير من أنصارها ومن أفراد القوات المسلحة الحكومية. وتقدر مصادر أعداد القتلى والجرحى والمفقودين بـما لا يقل عن 10 آلاف شخص.
وهكذا انتهت أحلام من فكر بالثورة الثالثة. وبحارة كرونشتات لم يكونوا في واقع الحال يطالبون أكثر مما كان البولشفيك(الشيوعيين) أنفسهم يطالبون خلال ثورة أكتوبر / 1917، ويتفق المؤرخون أن السلطة السوفياتية كانت تريد الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن، فالآن الشعارات في مجال الحكم، والصعوبات الموضوعية كبيرة، ولكن قمع الحركة ظل يعتبر في كثير من الأوساط علامة كبيرة في مسيرة ثورة أكتوبر، ولا تشابهها حادثة أخرى..
وفي رؤية موضوعية، فإن أحداث كرونشتات قد جرت في ظروف غير مواتية، فيها الدولة الوليدة تعاني من شتى أنواع المصاعب والمتاعب، وضعف البلاد لم يكن من نتائج الثورة، بل هو أرث متوارث لأسباب داخلية وخارجية عديدة. ولكن تمرد " أنتفاظة " كرونشتات تبقى موضوعة مهمة في تاريخ الثورة الاشتراكية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
1. كرونشتاد والثورة الروسية.
ترجمة أشرف عمر
الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية
المقال منشور باللغة الإنجليزية في 1 يناير 2003 على موقع الاشتراكيين الأمميين بكندا .
2. Der Aufstand der Kronstädter Matrosen - das Ende der Revolution?
الموسوعة الألمانية.
835 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع