طالب باشا النقيب أشرس من نافس فيصل على عرش العراق
مِيُونيخ (مينشن) عاصمة ولاية بافاريا الحرة، يوم الجمعة 16 آب 1929 حيث تجري الاستعدادات في مستشفى (ريختس) القريب من نهر (أسار) الذي تقع عليه المدينة العريقة، لاستلام جثمان الباشا البصري طالب النقيب الزعيم العراقي الشهير، أشرس من نافس فيصل بن الشريف حسين على عرش المملكة العراقية. الا ان ارادة الانكليز غلبت المنافسة الديمقراطية وابعدت السيد طالب منفياً الى جزيرة سيلان وبذلك ألغى الانكليز تجربة في الديمقراطية بين متنافسين كان يمكن ان تكون تذكارا عراقيا جميلاً واستعاضوا عن ذلك باستفتاء على واحد فقط هو الأمير فيصل. فمن هو هذا الباشا وما حكايته: هو طالب باشا ابن السيد رجب بن السيد محمد سعيد بن طالب الرفاعي بن درويش الحسيني، وكانت أسرته تتولى نقابة أشراف البصرة.
ولد السيد طالب في البصرة في 28 شباط/فبراير 1871، ونشأ في كنف والده وأعمامه وأقرباءه المتنفذين ودرس القرآن واللغة العربية على يد معلمين خصوصيين شأن أبناء الأشراف في زمانه، ثم تعلم اللغات التركية والفارسية والإنكليزية وشيئاً من اللغة الهندية، نبه شأنه وهو لا يزال شاباً لجرأته الفائقة وولعه بالمجازفة والمغامرة.
تنتسب اسرته إلى السيد أحمد بن علي بن يحيى الرفاعي الكبير صاحب الطريقة الصوفية الرفاعية، المتصل نسبه بالإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. في عام 1896م اصبح والده السيد رجب نقيب الأشراف في البصرة خلفاً لوالده، مارس نقيب الاشراف دوراً مهماً في مدينة البصرة خلال العهد العثماني، حيث كان نقيب الاشراف يقوم بمهام القاضي في محاكمة من ينتسبون الى ذرية الرسول فقط (الأشراف أو السادة)، وبعد منتصف القرن التاسع عشر اصبح لنقباء البصرة دوراً مهماً في الحياة السياسية للمدينة وفي علاقتها مع الدولة العثمانية، كما ساهم نقيب البصرة في حل المشاكل القائمة بين الدولة العثمانية وحكام امارات الخليج العربي والقبائل العربية الثائرة على السلطان العثماني، وكما هو معروف فإن نقابة الاشراف تستند الى قاعدة روحية صوفية تتمثل في كون نقيب الاشراف في البصرة وكذلك في أي مكان آخر رئيساً للطريقة الرفاعية، فصار للرفاعية السيادة على الطرق الصوفية الاخرى في البصرة. ارتبطت عائلة طالب النقيب بالأسرة الحاكمة في الكويت (آل صباح) بمصاهرات عدة، ما جعلت العلاقة بين الأسرتين قوية ووثيقة. ومن امثلة ذلك نسيمة بنت السيد طالب النقيب هي والدة الشيخ ناصر المحمد الصباح رئيس الحكومة الكويتي الأسبق. وبعض من أحفاد النقيب يعيشون في الكويت حتى اليوم، وتسنم أحدهم (هاشم النقيب) منصب وكيل وزارة في الكويت.
عندما بلغ طالب الثلاثين من عمره، صار موضع ثقة الحكومة العثمانیة لاسیما أثناء تعرضها لبعض الأزمات عندما اشتبكت في حربها مع البلغار عام ١٩٠٠ واحتاجت إلى تبرعات تشد أزر جیشھا، فاختير ناظراً للجنة الإعانة الحربیة في البصرة. وحینما تأزمت علاقة ھذه الحكومة مع (عبد العزیز بن سعود مؤسس المملكة العربية السعودية) بسبب خلافات الحدود وتحركات أبن سعود في منطقة حائل، توجهت الأنظار إليه لیكون وسیطاً بین الطرفين فتم انتخابه رئیساً للوفد الذي شكل لھذا الغرض، وكان مبارك الصباح أمیر الكويت آنذاك یأمل أن يقوم بهذا الدور، وأثناء تمرد سعدون باشا أحد زعماء المنتفك على الحكومة العثمانیة الذي أزعجها بغاراته على البصرة وما جاورها، سارع طالب النقیب بالتوسط لدى السلطان عبد الحميد الثاني (السلطان السادس والعشرون من سلاطين آل عثمان تولى السلطان في 31 آب أغسطس عام 1876م وخلع بانقلاب في 27 نيسان /ابريل عام 1909)، فأصدر في عام 1904 أمراً بالعفو عن الباشا المتمرد فعاد إلى المنتفك (الناصرية) بعد أن قضى في كنف الشیخ مبارك الصباح في الكويت مدة من الزمن كدخيل، الأمر الذي دفع الحكومة العثمانیة - ولأسباب أخرى كذلك - أن تنعم على السید طالب بالعديد من الرتب التي كانت تمنح للأشراف وكبار القادة وكان آخرها (رتبة مير میران) (وتعني بالعربية أمير الأمراء وتأتي تحت رتبة الوزير وتعد أعلى رتبة إدارية في الدولة العثمانية بعد رتبة الوزير أحدثت عام 1846)، وكان طالب قد رحل إلى الأستانة سنة 1899م فنال الحظوة فیھا، وعین سنة 1901 متصرفاً للواء الإحساء في نجد، وأنعم عليه بالوسام العثماني من الدرجة الأولى (بالاي)، وعدد من الرتب رفيعة الشأن. "لقد كان السید طالب من أدھى الرجال وأشدھم بأساً وكان لا یتورع عن الإقدام على أخطر المجازفات في سبيل تحقیق غایاته وكان یبطش بخصومة ویسرف في كرمه فلا عجب أن یتعلق به رجاله الأشداء ویفتدونه بأرواحهم، ولهذا برزت شھرة طالب النقیب في المنطقة ووصل صیته العديد من المحافل السیاسیة مما جعل ألقاب التشريف والعظمة تلتصق به في كل مكان، إذ وصف بـ"عميد العراق" و"بطله" "وراعي النهضة العربية" وزعيم الحركة القومية" ومن أبرز شخصيات بلاد العرب في زمن الدولة العثمانیة وأكثرهم نفوذاً في وسط العراق وجنوبه لاسیما البصرة مسقط رأسه ولهذا السبب بالذات كان شیوخ المحمرة والبحرین والكویت یجدون في شخصيته خیر من یتولى أملاكھم ونخیلھم ومصالحھم والحفاظ عليها من تعسف الإدارة العثمانیة بالرعایة والحمایة، فتوطدت علاقته بھم وتوثقت صلاته معھم فالزیارات متبادلة والرسائل متوالیة والھدایا لا تنقطع. طالب النقيب كما وصفه الدكتور علي الوردي: "شخصية ذكية وقوية ومخيفة مرهوب الجانب مهيب الطلعة طويلٌ عريضٌ ذو شاربين مفتولين إلى الأعلى ونظراتٌ حادة ترعب من ينظر إليه كما كان أنيقاً سواء بملابسه العربية أو الأوربية وكما يقول العراقيون (وكح). كانت تتمثل فيه الشخصية القيادية البدوية فهو نهّاب ووهّاب فقد كان يفرض الإتاوات على الأغنياء ويوزعها على الفقراء. ثريٌ يملك القصور والبساتين مشاكسٌ بل كان يتسم بالعناد والمكابرة والتحدي البدوي فنفرً منه الانكليز."
كان لديه كثير من الصفات التي غذت فيه روح البطولة وخلقت عنده قوة العزيمة والإقدام وھو لما يزل فتىً يافعا. بالإضافة إلى تأثير ابن خالته (أبو الھدى الصيادي) الذي كان يتولى منصب شيخ الإسلام وشيخ الطريقة الرفاعية في إسطنبول.. وكان له علاقة جيدة وتأثير كبير على السلطان عبد الحميد الثاني.. فقد استطاع أبو الهدى الصيادي أن يسهل للسيد طالب النقيب تبوء المراكز المرموقة، سواء في البصرة أو في ولايات الدولة العثمانية، وساعد في ترسیخ نزعة الطموح لدیه إذ استطاع الأخير بما يملك من نفوذ وعلاقات واسعة في الآستانة (إسطنبول) عاصمة الدولة العثمانية آنذاك أن یسھل للسید طالب النقیب السبيل لتبوء المراكز العالية وتقلد المناصب الراقية فيما بعد.
يقول الأستاذ خيري العمري: "ربما كان النقیب العراقي الوحيد من البصرة الذي ظفر بتلك الرتبة فزاد نفوذه في دوائر الحكومة وأسرع الناس إلى استرضائه بل خشي حتى الولاة الذین تعاقبوا على البصرة بأسه وانصاعوا إلى طلباته ونفوذه وتوجیھاته فمن النادر أن يقف أحد منھم لمعارضته أو يرد طلباً له"، ولا شك أن الوظائف التي شغلها في الآستانة وانتخابه نائباً عن البصرة لعدة دورات برلمانية وتأسيسه فرعاً لحزب "الحرية والائتلاف" في البصرة والمعروف سابقًا باسم الاتحاد الليبرالي أو الائتلاف الليبرالي، وكان هذا الحزب قد تأسس في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1911 في إسطنبول من قبل الأتراك الشباب المعارضين لجمعية الاتحاد والترقي، وكان حزبًا سياسيًا عثمانيًا ليبراليًا نشط بين عامي 1911 و1913، خلال الحقبة الدستورية الثانية. وبصفته الاتحاد الليبرالي / الائتلاف، فقد كان ثاني أكبر حزب في البرلمان العثماني عام 1911، ونجح في تنظيم فروع له في معظم محافظات الدولة العثمانية. دعا البرنامج السياسي للحزب إلى العثمانية واللامركزية الحكومية وحقوق الأقليات العرقية. وكان لتأسيس النقيب "جمعية البصرة الإصلاحية" ودعمه المتواصل- ماديا ومعنويا لـ "النادي الوطني" في بغداد وبذله المال بسخاء وإنفاقه على من التفوا حوله من الأنصار وحمایته لكل من یلوذ به من مناهضي الحكم العثماني آنذاك، ھذه العوامل جمیعھا وما قبلها قد عززت مكانته قبيل الحرب العالمية الأولى إلى درجة جعلت مراسلاته ومنشورات حزبه تغطي القطر العراقي بأسره، ناھیك عن المحافظات التي كان مرشحوها الفائزون في الانتخابات النیابیة ھم من أعضاء جمعیة النقیب نفسه أو من خلصائه المقربين. لقد ارتبط النقیب من خلال نشاطه القومي في أروقة الجمعيات والنوادي العربية مع زعماء العرب المعاصرين والشخصيات الوطنية البارزة في زمانه بعلاقات ومراسلات غير قليلة كالتي حدثت بینه والفريق عزيز علي المصري العسكري والسياسي المصري، وهو رائد من رواد الحركة القومية العربية وحركات التحرر الوطنية المصرية. وبين شريف مكة الحسين بن علي، وابن سعود وأمیر المحمرة الشيخ خزعل بن جابر الكعبي وغیرھم، وما برقيته إلى المؤتمر العربي الأول الذي اقامه مجموعة من المفكرين والسياسيين والقوميين العرب في الفترة من 18 إلى 23 حزيران 1913 في قاعة الجمعية الجغرافية في باريس، إلاّ وجھاً من وجوه نشاطه القومي المتواصل الذي دفعه إلى أن یقترح على السلطان عبد الحميد الثاني ضم بلاد الإحساء التي كان متصرفاً فیھا وقسم كبیر من أواسط الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية العثمانية بشرط أن تكون خاضعة لسلطته الشخصية، وقد أظهر جرأة فائقة وسلوكاً لا يخلو من الإعجاب في معارضة الاتحادیین الذین سيطروا على الحكم العثماني بعد الانقلاب الدستوري في سنة 1908م. ولعل نجاحه في القضاء على (فرید بك)، قائد الدرك العثماني الذي قدم إلى البصرة للقضاء علیه بالذات وسنأتي على ذكره لاحقاً ، من أبرز دلائل شخصيته السیاسیة الطموحة التي استطاعت أن تشارك أمراء وشيوخ أقطار الجزيرة العربية والخليج العربي مؤتمراتهم وجلساتهم ولا سیما في عامي1913 و1914م. وأخيراً إن قمة النجاح الذي أحرزه السید طالب في ھذه المدة نجدها في قرار الحكومة العثمانية القاضي بتعينه والیاً على البصرة وذلك بعد أن خابت جميع التدابير الأخرى للحد من نشاطه المعارض منذ عام 1912م.
البصرة ــ أبو الخصيب ـ قرية السبيليات الصوره ملتقطه في قصر السيد طالب النقيب مع أولاده أحمد وعلي وشمس الدين السيد طالب النقيب هو أول وزير داخليه في التاريخ الحديث لدولة العراق و الصوره مؤرخه 1919.
إذا كانت ھذه بعض جوانب شخصية طالب باشا فإن الجوانب الأخرى من ھذه الشخصية وجدت في قابليته الشخصية والمنماة بالتعلم وبالإقامة في اسطنبول والسياحة في أوربا المقدرة الفاعلة في میدان النشاط السياسي، فقد كان النقیب شخصية قویة تزینھا رقة الشمائل والوقار بالرغم من تعرضه للانتقاد العاصف أحياناً فقد جمع حوله عصبة من الأتباع والملازمين كانت تلتف حوله خشیة من بطشه أو حباً به. وكان سخاؤه وتصدقه على الفقراء مضرباً للأمثال رغم أنه لم يكن ثریاً ولذلك فإن ما كان يحتاجه من المال لتمشیة مصالحه وإعاشة حاشيته كثیراً ما كان يأخذه بطرقه الخاصة من أثرياء العرب القاطنین في جنوب العراق.
تعتبر سنة 1899 بداية البروز السياسي للسيد طالب النقيب على الساحة السياسية في إسطنبول عندما أرسله والده السيد رجب النقيب لحل الخلاف الواقع بين الشيخ مبارك في الكويت ووالي البصرة حمدي باشا، وقد نجح طالب النقيب في مهمته وثم عزل حمدي باشا من الولاية وعين مكانه محسن باشا (1899 ـ 1901) كما نجح في حل الخلاف الواقع بين الدولة العثمانية والشيخ خزعل شيخ المحمرة حول املاك الاخير في البصرة.
عاش السيد طالب النقيب بين مرحلتين مهمّتين في تاريخ العراق السياسي (الحقبة العثمانية وحقبة الاحتلال البريطاني) وبرغم التفاوت الظاهر في خواص تلك المرحلتين إلا أن الحقبة العثمانية تميّزت بظاهرة خاصة، فالموروثات والإيمان بالقدرية ظلت أكثر ثباتاً عند الشعب العراقي كما أن هيمنة الخلافة الإسلامية العثمانية وسطوتها قد ساعدت على فرش مساحة واسعة في الفكر العربي بحكم خلّوها من الصراع العرقي ودعواها لحماية العقيدة الإسلامية التي جعلت الجماهير مؤمنة بتلك السيادة الروحية و محصّنة ضد الثورة والتمرّد ولا تطمح بغير بعض الإصلاحات الطفيفة. إلا أنّ تلك المشاعر سرعان ما دبّ فيها التحوّل إثر الانقلاب العثماني عام 1908 م وقيام زعماء جمعية الاتحاد والترقي بفرض حملتهم الطورانية ودعواهم للتتريك بتأثير من الشعارات الماسونية تمهيداً لاحتواء الشعب العربي وضمّه إلى الجامعة العثمانية. وقد دفعت المحاولات الجديدة الكثير من السياسيين العرب إلى تبنّي الدعوة القومية وكشف أبعاد المخاطر التي كان يخطّط لها رجال جمعية الاتحاد والترقّي وكان من الطبيعي أن يحدث التصادم بين العقائد الثورية الجديدة والمحُافِظَة التي رأت في الحركات القومية خطراً على الإسلام عندما قاد الشيخ محمد رشيد رضا ومصطفى كامل وأحمد عرابي هذه الاتجاهات مما خلق تبايناً ظاهراً وعدم توازن بين الدين والقومية.
في 19 تموز 1916 كتب القنصل البريطاني في المحمرة هنري دوبس والذي صار فيما بعد مندوبا سامياً في العراق في عام 1923، خلفاً للسير بيرسي كوكس، كتب تقريراً يعكس وجهة نظر الإنكليز حول السيد النقيب، نجتزأ من ترجمته التي تبدو أن صياغتها بالعربية ركيكة التالي:
((في القسطنطينية تمكن طالب من اقامة علاقات صداقة مع السيد عبد الحيدر والامير عزالدين والذي من بعد قد تم اغتياله. وعندما جماعة الاتحاد والترقي قد أُسست في بداية 1909 فان سيد طالب عاد الى البصرة وحاول ان يتم الاعتراف به بوصفه رئيسا للحزب الجديد في البصرة. ولكنهم قد خشوا منه ومن اجل التخلص منه وابعاده عن البصرة فقد تم ارساله بوصفه نائبا الى القسطنطينية. فيها أصبح صديقا الى صادق بيك وكليهما أنشئا فكرة الحر المتحد او حركة الاحرار المعتدلين (moderate liberal movment) والتي عمليا اصبحت اسما سياسيا لحزب الشباب العربي وعاد طالب على إثر ذلك الى البصرة لأجل معارضة حزب الاتحاد والترقي فيها وحصل على موافقة وصداقة الوزير الاعظم الراحل كامل باشا في عمله هذا. اهم معاونيه وشركائه في البصرة كانوا عارف بيك ماردينلي (حاليا في القسطنطينية) واحمد الصانع باشا، وعبد اللطيف المنديل، والشيخ ابراهيم صاحب الزبير. بينما اهم خصومه كانوا سعدون باشا صاحب المنتفج والذي كان يدعو لصالح الخضوع الى جماعة الاتحاد والترقي. من طرف سيد طالب دمره وذلك مطلع عام 1911 من خلال ايقاعه بالشرك وتسليمه للوالي من ان كانت المنتفج قد تمردت ضده. سيد طالب لهذا حصل على عدوله وهو عجمي ابن سعدون. وعندما كمال باشا أصبح الوزير الاعظم (Kimail Pasha – Grand Vazir) في عام 1912 فقد نصح سيد طالب بان يتصل مع الانكليز. ومن اجل اعتماد هذه السياسة فقد زار سيد طالب القاهرة مطلع 1912 واقام علاقة صداقة مع الخديوي واللورد كتشنر (Lord Kitchner)، وعند عودته من مصر ذهب الى سملا ومعه رسالة لأجل تسهيل لقائه مع القنصل البريطاني في البصرة السيد Crow وايضا ليلتقي مع اللورد Hardinge.))
النقيب والحقبة العثمانية
في عام 1901 عين طالب النقيب متصرفاً للواء الإحساء في نجد. ومنح العديد من الرتب من الرتب التي كانت تمنح للأشراف وكبار القادة وكان آخرها (رتبة میران)، وأنعمً عليه بالوسام العثماني من الدرجة الأولى كما أسلفنا... ولقد استقال من المتصرفية بعد سنتين ثم عاد إلى الآستانة فعُيِّن عضواً بالقسم المدني من ديوان شورى الدولة العثمانية، واستقر في منصبهِ حتى إعلان العمل في الدستور عام 1908 حيث انتخب عضواً في مجلس المبعوثان العثماني وأُعيد انتخابه في الأعوام 1912 و1914م. وقام بتأسيس وترأس فرع لـ “الحزب الحر المعتدل”، وهو اول حزب معارض يؤسس في العراق في عهد الدستور، وافتتح فرع الحزب في 6 آب 1911 بمهرجان كبير حضره الألوف من اهل البصرة بينهم الوالي وكبار الموظفين، وقناصل الدول الاجنبية، نظراً لمكانة السيد طالب السياسية والاجتماعية، وصار اعيان البصرة المنتمون الى حزب “الاتحاد والترقي”، وهو ـ حزب الحكومة - يستقيلون منه وينضمون الى الحزب الجديد. وكان معه من المؤسسين: سليمان فيضي وسيد إسماعيل عبد الله السامرائي وعبد الكريم السامرائي وعبد الوهاب وعبد العزيز وعبد المحسن الطباطبائي وعقد المؤسسون ومئات الرجال في البصرة اجتماعا انتهى بتشكيل الحزب وانتخاب هيئته الإدارية التي تكونت منهُ رئيسا والحاج محمود باشا عبد الواحد رئيسا ثانيا والشيخ عبد الله باش أعيان نائبا للرئيس وسليمان فيضي أمينا عاما والسيد عبد الوهاب الطباطبائي سكرتيرا والحاج محمود المعتوق النعمة أمينا للصندوق وأحمد الصائغ وعبد اللطيف المنديل والحاج طه السلمان والحاج محمود أحمد النعمة أعضاء. وبعد ذلك تأسس حزب “الحرية والائتلاف” التركي، واخذ يسعى الى اجتذاب العرب وابناء القوميات غير التركية الاخرى في الدولة العثمانية ليدعم بهم موقفه تجاه خصومه الاتحاديين، وكان من جملة اساليبه لاجتذابهم الدعوة الى “اللامركزية”، اي منح الولايات العثمانية شيئاً من الاستقلال الاداري، او نوعاً من “الحكم الذاتي” (ولم يكن هذا الاصطلاح معروفاً في ذلك الوقت). ولذلك خرج معظم النواب العرب في مجلس المبعوثان من حزب “الاتحاد والترقي” وانضموا الى حزب “الحرية والائتلاف” ايضاً. وبذا تحول فرع الحزب “الحر المعتدل” في نهاية عام 1911 الى حزب “الحرية والائتلاف” في البصرة. وقام بتأسيس "جمعية البصرة الإصلاحية" في 28 شباط 1913. تضمن النظام الأساسي للجمعية ثمان وعشرين مادة، من أبرز أهداف الجمعية الاصلاحية هي تحقيق الادارة اللامركزية بالولايات العربية، والعمل على جعل اللغة العربية اللغة الرسمية في البلاد العربية. قامت الجمعية الاصلاحية بنشاط واسع في مناطق العراق المختلفة وعلى الأخص مناطق الفرات الأوسط وجنوب العراق، حيث كانت الجمعية على اتصال مستمر بزعماء العشائر العراقية والشخصيات المتنفذة، للحصول على تأييدها للجمعية. واتخذت الجمعية موقفا معاديا للاتحاديين على نطاق واسع وأصبحت الجمعية مركزا للحركة القومية المناهضة للحكومة العثمانية، ويمكن إرجاع ذلك إلى بعد مقر الجمعية في البصرة عن العاصمة العثمانية، إضافة إلى النفوذ الكبير الذي يتمتع به السيد طالب النقيب في مناطق العراق الجنوبية، لذلك أصبحت البصرة الملاذ الآمن لكلِّ المعارضين للاتحاديين من المثقفين والصحفيين والأدباء. وأصدرت الجمعية الاصلاحية جريدة الدستور في 22 كانون الثاني 1912، ولكن سرعان ما قامت الحكومة العثمانية بإغلاقها بسبب مقالاتها العدائية ضد سياسة الاتحادين في تسيير دفّة الحكم، وأُعتبر ذلك بإن الجمعية قد خرقت أحكام قانون الجمعيات العثماني الصادر عام 1909 في المادتين الثالثة والثانية عشرة، لكن طالب النقيب قام بتحدي السلطات العثمانية وأصدر جريدة ثانية باسم (صدى الدستور) عام 1913، دون الحصول على الموافقات الرسمية. والتي صدر آخر عدد منها يوم الجمعة 13-12-1914 الذي احتوى بيان القائد العام للقوات البريطانية في العراق الجنرال (آرثر ارنولد باريت)، ويمثل هذا العدد من الصحيفة الوثيقة الوحيدة عن الأحداث التي دارت في البصرة خلال اليوم الذي بقيت فيه المدينة بدون سلطة أمنية حاكمة بعد انسحاب العثمانيين، وبذلك يكون أن نشاط الجمعية والصحيفة أستمر إلى بدايات الحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث انتهى دور جمعية البصرة الاصلاحية بدخول القوات البريطانية ولاية البصرة في 22 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1914.
بعد فوز النقيب بستة مقاعد في مجلس (المبعوثان)، طالب بحقوق العرب في الحكم والمساهمة في الوظائف العامة وإقامة نظام لا مركزي في إدارة شؤونهم ومتابعة قضاياهم، ومجلس المبعوثان هو البرلمان العثماني أو المجلس النيابي، أسسه السلطان عبد الحميد في 23 كانون الثاني / يناير عام 1867. واجريت انتخابات عامة لأول مرة في التاريخ العثماني، وأسفرت عن تمثيل المسلمين في مجلس المبعوثان بـ 71 مقعدًا، والمسيحيين بـ 44 مقعدًا، و4 مقاعد لليهود. كان السيد طالب النقيب (مبعوث البصرة) في المجلس مؤمناً في بدء حياته السياسية بقبول السيادة العثمانية والخلافة الإسلامية لاعتقاده بأن السلطان عبد الحميد كان أميل لمنح الولايات العربية اللامركزية الإدارية والحرية وبعض الإصلاحات في عصر كان التطلع الاستعماري (الكولونيا لي) الذي تزعمته بريطانيا يرى في الدولة العثمانية مصدر رعب لأوروبا (المسيحية) ...! هذا التفاوت قد جعل السيد طالب النقيب يحسّ بالخطر القريب خلال وجوده في مجلس ( المبعوثان ) العثماني فتزعم عدد من النواب العرب ليكونوا الجانب المعارض لكشف ما كان يخطّط له رجال جمعية الاتحاد و الترقّي ذات التوجهات القومية، فدعا الشريف حسين عام 1911 لقيادة الثورة العربية ضدّهم، ثمّ جاء تأييده للمؤتمر العربي المنعقد في باريس عام 1913 مفاجأة قاسية للانقلابيين و المحافظين ثم تبعها بدعوة جريئة لقيام اتحاد ( كونفدرالي ) بين ولاية البصرة التي كانت تضمّ الجانب الجنوبي من العراق و شرق الجزيرة العربية و الإمارات الجنوبية في الخليج و بين إمارتي الكويت و عربستان و التي كان يمكن أن تؤسس أكبر قوة اقتصادية و بشرية لو قيّض لها أن تقوم لغيّرت وجه التاريخ العربي. كانت جمعية "الاتحاد والترقي" منظمة تركية ثورية تأسست باسم "جمعية الاتحاد العثماني" في 2 يونيو/حزيران 1889، ثم غيرت اسمها عام 1915، وسعت إلى تغيير نظام الحكم بدعوى إقامة "دولة ديمقراطية حديثة". استطاعت الجمعية عزل السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909 والوصول إلى الحكم، وتبنت الفكر القومي وسارت وفق المذهب العلماني في سن التشريعات والقوانين. وشكلت حكومة الحزب الواحد، وقمعت المعارضة منذ العام 1913 حتى حلت نفسها بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى عام 1918.
علت شهرت طالب النقيب في البصرة وكثرت مغامراته وعرفت له زعامة شعبية فرضها فرضاً على السلطات الحكومية، ومختلف طبقات الناس على حد سواء، كما التف حوله بعض الشباب المثقف ورجال الصحافة أمثال سليمان فيضي وعبد الرزاق النعمة وعيسى روحي، فرشحهم للنيابة وضمن فوزهم على الرغم من معارضة الاتحاديين المسيطرين على الحكم. وكان يحصل على المال بطرق شتى وينفق عن سعة، وينادي بالإصلاح واللامركزية ويناوئ السلطة بلا خوف ولا وجل، وقد أصبحت داره ملجأ لفريق من الشباب المنتمين للجمعيات السرية والفارين من بطش الحكومة، وفي مقدمتهم الضابط الشاب نوري السعيد، والدكتور عبد الله الدملوجي. ودعمه المتواصل- ماديا ومعنويا لـ "النادي الوطني" في بغداد وبذله المال بسخاء وإنفاقه على من التفوا حوله من الأنصار وحمایته لكل من یلوذ به من مناهضي الحكم العثماني آنذاك، ھذه العوامل جمیعھا وما قبلها قد عززت مكانته قبيل الحرب العالمية الأولى إلى درجة جعلت مراسلاته ومنشورات حزبه تغطي القطر العراقي بأسره، ناھیك عن المحافظات التي كان مرشحوها الفائزون في الانتخابات النیابیة ھم من أعضاء جمعیة النقیب نفسه أو من خلصائه المقربين. ويذكر سليمان فيضي أحد رجال النقيب في مذكراته المعنونة "في غمرة النضال": ((كان النقيب شخصية قوية تزينها رقة الشمائل والوقار، على الرغم من تعرضه للانتقاد العاصف أحيانا، فقد جمع حوله عصبة من الأتباع والملازمين كانت تلتف حوله خشية من بطشه، أو حبا به، وكان سخاؤه وتصدقه على الفقراء مضربا للأمثال، بيد أنه لم يكن ثريا ولذلك فإن ما كان يحتاجه من المال لتمشيه مصالحه وإعاشة حاشيته كثيرا ما كان يجبي عنوة أو يبتز من الأثرياء القاطنين في جنوب العراق)).
استمر النقيب بتحدي حكومة الاتحاديين ومشاكسة السلطات المحلية في ولاية البصرة بضع سنوات، فتقرر تكليف العميد فريد بك، وهو آمر موقع البصرة ومن أقطاب الاتحاديين، ومعه متصرف لواء المنتفق (الناصرية) بديع نوري بك الحصري لوضع حد لنشاطه، لكنه علم بما خطط له فبادر إلى إرسال أعوانه ليكمنوا لهما على جسر العشار المؤدي إلى البلدة، وأثناء مغادرتهم مركب بخاري عند عودتهما من سفرة نهرية إلى الفاو أطلقوا النار عليهما في 20 حزيران/يونيو 1913 فأردوهما قتيلين، وفرّ الجناة ولم يعثر لهم على أثر وقد نجى عاطف بيك قائد جندرمة (قوة عسكرية نظامية مكلفة للقيام بمهام متعددة إدارية، قضائية، عسكرية) بغداد الذي كان يرافقهم، وكان منفذي عملية الاغتيال اثنان من أهالي النجف. جاملته الحكومة بعد ذلك وتقربت إليه، فأعلن السيد طالب في شباط/فبراير 1914 بياناً صرح فيه بتفاهمه معها وتوحيده المساعي لإعلاء شأن الدولة، لكن علاقته بالاتحاديين بقيت متوترة.
اخيرا وفي شهر مايس 1914 كان طالب وكما يبدو قد وصل الى ذروة قوته. عند ذلك وزير الداخلية العثماني محمد طلعت باشا، أبرق له عارضا عليه ان يختار ما بين منصب سفير او والي او عضو في مجلس المبعوثان، وفي تموز ابلغ طلعت باشا السفير البريطاني بان السيد طالب سيكون والياً على البصرة.
في هذا الاثناء جاويد باشا (جواد) والي بغداد للفترة من 1914-1915م، وكما يبدو كانت لديه تعليمات سرية لأجل اعتقال طالب النقيب، وتم تكليف وكيله العميد صبحي بيك لينفذ ذلك ولكن الأخير أخفق بالتنفيذ، لذلك باشر بنفسه بالنزول الى البصرة في شهر تشرين الأول/ اكتوبر 1914 بهدف اعتقاله ومعه قوة عسكرية كبيرة وقد وصل بعيد اندلاع الحرب مع بريطانيا العظمى. كان طالب لديه معلومات عن اهداف الوالي جاويد ولهذا انسحب الى الكويت بهدف المفاوضة من اجل ان يقنع ابن سعود بالوقوف على الضد من الانكليز. لكن في 28 من الشهر المذكور أعلنت تركيا انضمامها إلى المانيا في محاربة الحلفاء وكان لا يزال في الكويت. قبل احتلال الانكليز البصرة في 22 تشرين الثاني عام 1914. كانت بريطانيا ترقب الفرصة الذهبية للانقضاض على مخلّفات الدولة العثمانية فقد وجدت في شخصية السيد طالب النقيب ما يحقّق لها طموحاتها من قوّة ومكانة اجتماعية وسياسية، وعلى أثر ذلك دعا القنصل البريطاني في البصرة السيد طالب لموافاته في المحمرة لدى أميرها الشيخ خزعل الموالي لبريطانيا، وطلب منه أن يتعاون مع الإنكليز وعهد إلى الشيخ خزعل أمير المحمرة مهمة اقناعه للقيام بثورة مسلحة في البصرة ضد الإمبراطورية العثمانية، وتعهد بريطانيا له بالمال والسلاح و الامتيازات الشخصية وتنصيبه حاكماً على البصرة والناصرية، ومنح المنطقة حكماً ذاتياً. وكان هذا أبرز طموحات طالب النقيب حينذاك، أن يستقل بمشيخة أو إمارة في جنوب العراق كحال صديقيه المقربين مبارك الصباح أمير الكويت، وخزعل بن جابر الكعبي أمير المحمرة. ولكن السيد طالب النقيب أدرك أبعاد ذلك المخطط فرفض التدخل العسكري وطالب بالمال والسلاح كقروض تسدّد بعد نجاح الثورة، مؤكداً بأنّ الثورة المسلحة لا يمكن تحقيقها إلا بالاعتماد على القبائل العربية. ويصف سليمان فيضي أحد المقربين للنقيب تفاصيل ما جرى بقوله: " ذهب السید طالب ليلاً بزورق بخاري إلى قصر الفيلية وتوجه من هناك برفقة الشیخ خزعل إلى دار الحاج رئيس التجار التي اتخذها القنصل مقراً له حيث استمع إلى المقترحات البريطانية التي تتلخص في أن يقدم السید طالب للحلفاء جميع المساعدات الفعلية لاحتلال البصرة مقابل تعهد الإنجليز بتنفيذ الوعود التالية بعد إنجاز الاحتلال:
1- تنصيب السید طالب حاكماً عاماً على ولاية البصرة ولوائي الناصرية والعمارة.
2- جعل اللغة العربية لغة رسمية في الدوائر الحكومية والمدارس.
3- تعيين موظفين عراقيين في جميع مناصب القضاء وفي الدوائر الرسمية.
4- جعل إدارة الأوقاف الأهلية تحت إشراف الحكومة.
5- إعفاء أملاك السید طالب وأملاك أسرته من الرسوم الأميرية.
6- تعنى حكومة بريطانيا بأمر المصارف والشؤون الاقتصادية والزراعية عناية خاصة لغرض تقدم البلاد ورقيها".
ويضيف سليمان قائلا "وقد ألمح القنصل البريطاني للسید طالب عقب عرض شروط حكومته الآنفة الذكر إلى الفوائد التي جناها (راجات) الهند الذین آزروا بريطانيا والى النكبات التي حلت بالذين رفضوا التعاون مع الإنجليز، فاستمهل السید طالب القنصل بضعة أيام للتفكير في المقترحات الآنفة الذكر قبل البت فیھا".
ويسرد فيضي تفاصيل ما جرى قائلاً "وقد أطلعني عند عودته على تلك المفاوضات
وبالرغم تلميح القنصل عن راجات الهند الذي كان ينطوي في الحقيقة على تهديد صريح". وبعد تمحيص ومداولة عاد النقیب إلى المحمرة سراً بعد يومين وقدّم إلى الحكومة البريطانية المقترحات الآتية:
(1) إن البلاد العربية ترغب في التخلص من الاستعمار التركي لتعيش مستقلة، لا لتبتلي باستعمار جديد، ومن هنا يتعهد السید طالب بإعلان الثورة ضد الترك مستعينا بالضباط والجنود العرب وبالعشائر العراقية بدون تدخل الجيش البريطاني.
(2) على الإنجليز أن يمدوه بالسلاح والذخائر والمال والطائرات والطيارين والفننين فقط.
(3) أن تبقى البواخر والقطعات البحرية الإنجليزية في الخليج العربي خارج مياه شط العرب وأن لا تدخل الأراضي العراقية إلاّ عند اقتضاء الضرورة.
(4) في حالة اشتراك جيوش ألمانيا ضد العرب فيحق حينئذ لبريطانيا إنزال جيوشها في البلاد.
(5) إذا تم إخراج الترك من البلاد تؤسس دولة مستقلة دستورية تحت حماية الإنجليز ملكية أو جمهورية حسب رغبة الشعب.
(6) يمنح الإنجليز امتيازات اقتصادية في العراق ويكون المستشارون الفنيون من الإنجليز دون سواهم.
(7) إن النفقات التي يتكبدها الإنجليز في مساندة الثورة تعد قرضاً على البلاد يسدد على شكل أقساط من الميزانية وتنتهي الحماية بتسديده وتبقى الامتيازات الاقتصادية وحدها نافذة.
(8) أن تصبح ھذه الشروط أساساً لمعاهدة دولية يوقع عليها مندوب رسمي عن الحكومة البريطانية.
واختتم سليمان فيضي مذكراته عن ھذا اللقاء بالقول "قابلت الحكومة البريطانية ھذه المقترحات بالرفض وأصرت على مقترحاتها الأولى". فأرسل السید طالب رأيه النهائي في رسالة ضمنها الجملة الآتية: " إني لا أوافق على ذلك بتاتاً وإني سأعاضد الترك مهما كلف الأمر". ومما تقدم نجد أن الإنجليز وجدوا في السید طالب مع ارتباطاته السابقة معھم رجلاً عسير القيادة صعب المراس واسع الأطماع، ولكن مع ھذا لم يقطعوا أمل الانتفاع منه فأوفدوا إليه في ٥ تشرين الثاني 1914م معتمد الشیخ خزعل أمیر المحمرة - الحاج مصطفى النوري- فقدم له تعديلا على المقترحات الإنجليزية يقضي بأن " يلتزم السید طالب جانب الحياد أثناء الحرب مقابل وعد الإنجليز بجعله حاكماً مدى الحياة على العراق من الفاو إلى آخر نقطة يصل إليها الاحتلال ". رفض السید طالب ھذا التعديل كذلك وسلم الجواب التالي إلى الرسول ليوصله إلى القنصل البريطاني: "إني أرفض كل اقتراح من ھذا القبيل وقد عزمت على السفر إلى نجد فابحثوا عمن يعينكم على استعمار بلاده واعلموا أن الذي لا يرضى بحكم الأتراك إخوانه في الدين حري به أن يأبى حكم الإنجليز". ولاريب بأن ھذه المقترحات والردود المضادة عليها وما جرت من تعديلات تدلل على عظم منزلة السید طالب وعلو مكانته وموقعه بالنسبة لبعض زعماء العرب الذین عاصروه ولا سیما أن ھذه المفاوضات كانت جزءاً من المفاوضات التي أجرتها بريطانيا مع زعماء العرب كشريف مكة وأمیر نجد لتسهيل أمر إمداد الجيش الإنجليزي بمساعدات عربية وتأمين مؤخراته، ومن جهة ثانية ترينا ھذه المفاوضات كيف جسد السید طالب النقیب في ھذه المرحلة والى حد ما جزءاً أساسياً من مطالب الشعب العراقي في النظام السياسي المنتظر للعراق. لھذا صار خارج خندق الإنكليز الذین أرادوا أن يجعلوه تابعا لهم على شاكلة معاصريه من شیوخ العرب ولكن خاب ظنهم في ھذه المرحلة. وتزداد اهمية السید طالب ويبان موقفة الصعب إذا ما علمنا بأنه كان مطالب وقتذاك بالذهاب إلى اسطنبول، بناء على إصرار أنور باشا وزير الحربیة العثماني، مما يعني أن مستقبله كان محفوفاً بالمخاطر نظراً لسوء علاقته مع إدارة الاتحادیین في البصرة كما أسلفنا. لقد كان النقیب في طريقه إلى نجد عن طريق الكويت هرباً من بطش الاتحادیین حينما رفض آخر المقترحات الإنجليزية، أي أن وقوعه في شراك الإنجليز كان متوقعا لأن هؤلاء كانوا قادرين على توجيه الأمور في القطرين السعودي والكويتي آنذاك كما يشاؤون. ومن هنا أصاب سليمان فيضي كبد الحقيقة حينما وصف السید طالب في ھذه المرحلة بأنه "كان عدو الإنجليز والترك معاً.
يقول سليمان فيضي ان الانكليز تعهدوا ان يجعلوه حاكما على المنطقة التي يحتلونها مقابل التزامه بالحياد، فأجابهم ان الذي يرفض حكم الاتراك اخوانه في الدين فهو يرفض حكم الانكليز فابحثوا عمن يعينكم على استعمار بلاده. ومن الطبيعي ان كلاما مثل هذا، ان صح، لا يروق للإنكليز. وبهذا الرفض أحبط السيد طالب النقيب المحاولتين العثمانية والبريطانية للحد من نشاطه، عندما أقدم على اغتيال - فريد بك - المتطرف مطبّقاً أسلوب العنف الثوري والانتقال من النظرية إلى التطبيق، وقد أدّت تلك العملية إلى ردود فعل عكسية في الوسط السياسي العراقي حيث انقسمت القوى السياسية بين مؤيد ومعارض، وفات على السيد طالب النقيب أن يستقرئ أبعاد تلك العملية الثورية لانشغاله بالجانب الدعائي الذي تبنّته القوى الفوقية المؤيدة له بينما استغلّ المعارضون أصداء تلك العملية باتهامه بالعمل الجنائي من أجل رغبته في الزعامة السياسية ومطامحه الشخصية وإبعاد كل معنى ثوري لها وقد ظهر ذلك واضحاً حتى في كتابات بعض الساسة الذين ربطتهم به علاقات شخصية مثل السيد سليمان فيضي الذي ساغ له أن يروي عملية الاغتيال و يفرغها من بُعدها السياسي بصورة مسرحية وأن يجعل من نفسه شاهداً على التاريخ واعتبارها دفاعاً عن النفس. إنّ فشل السيد طالب النقيب في استثمار ذلك العمل الثوري وتبنيّه كخطوة للتأثير على البنية العربية جاء بسبب ضعف القدرة الثورية في تنظيماته السياسية وعدم استشرافها للمستقبل وهو ما هيّأ للقوى المضادة بعد دخول الإنكليز واحتلال العراق أن تجعل منه وسيلة اتهام أضيفت إلى وسائلها المضادة لاتهامه بالعنف.
النقيب وحقبة الاحتلال البريطاني:
دخلت القوات البريطانية إلى البصرة في 22 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1914 ابان الحرب العالمية الأولى، صار مصير طالب بيد خصوم الأمس أي الإنجليز، فلم يتوانوا عن اعتقاله في بداية كانون الثاني 1915م ونفيه إلى بومباي، ثم نقل إلى بنكالور ومنها إلى جزيرة سيلان، لمعارضته للاحتلال الإنكليزي وبعد سنتين سمحوا له بالعودة من هناك الى مصر سنة 1917 ثم العودة إلى البصرة في فبراير/شباط 1920، حيث قضى في منفاه أكثر من خمس سنوات، فتزامنت عودته مع اندلاع ثورة العشرين في العراق في 20 حزيران 1920، وكان غير محبذ لقيامها، إذ كان من دعاة تحقيق الغايات السياسية بالطرق السلمية لاسيما إذا كان الصراع غير متكافئ بين الطرفيين. أما موقفه من الحركة المسلحة فانه لم يجد فيها إلا طفحاً ثورياً غايته امتصاص النقمة الثورية عند الجماهير في العراق وتحقيق ما لم تحققه ثورة الشريف حسين بإيجاد بناء هرمي للسلطة يلبي حاجيات الحركة الإقطاعية المتنفذة التي هيأت الفلاحين لأجراء التمرد على القانون لصالحها دون مساس بأي إجراء ثوري لتحريرهم من العبودية، واستغلال الهوس الديني والطائفي لإحباط ما كان يفكر فيه القوميون من حكم دستوري. وعهد إليه برئاسة اللجنة المكلفة بوضع قانون الانتخاب في بغداد في أغسطس/آب 1920، وكان من أعضاء اللجنة النواب العراقيين في مجلس المبعوثان العثماني السابق وفريق من الوجهاء وأصحاب الرأي. وفي 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1920 شكلت أول حكومة وطنية برئاسة عبد الرحمن النقيب، من رئيس وثماني وزارات كانت في مقدمتها وزارة الداخلية، وصار طالب أول وزير للداخلية في تأريخ العراق في أول حكومة عراقية انتقالية برئاسة عبد الرحمن النقيب من 11 تشرين الثاني 1920 لغاية 23 آب 1921. كان منصب وزارة الداخلية حساساً بالنسبة للإدارة البريطانية لذلك وقع الاختيار على طالب النقيب لمزاياهُ المتعددة فهو بنظر فريق من البريطانيين شخصية قوية وهو أبرز من يستطيع أشغال المنصب وان وزارة الداخلية تُعد مؤسسةً فاعلةً تسدي خدمات جليلة للدولة العراقية وهي حديثة التكوين. وعهد فــي بداية الأمر الــى سانت جون فيلبي (S.J.Philipy)(1) منصب مستشار للوزارة، والذي قام بدوره بإعداد مذكرة حدّد بهـــا علاقة الوزير بالمستشار وعُرفت بـ(لائحة تعليمات الهيئة الإدارية العراقية)، التي وافق عليها برسي كوكس المندوب السامي البريطاني، وظلت نافذة المفعول طوال مدة الانتداب حتى حصول العراق على الاستقلال السياسي في 3 تشرين الأول 1932. واحتوت اللائحة على تعليمات منها تكوين الهيئات الوزارية ومنها وزارة الداخلية، كما حددت اللائحة وظائف المستشار وعلاقته بالوزير – وهي علاقة استشارية وليست إجرائية وعلى الوزير الاستئناس برأي مستشاره، الذي غالباً ما يكون رأيه نافذاً ــ وفي الألوية يكون هناك مُشاور بريطاني الى جانب المتصرف للتشاور وأداء المساعدة للمتصرف (المحافظ) لأداء المهمات الإدارية في اللواء (المحافظة).
سرعان ما ظهرت الخلافات بين طالب النقيب وزير الداخلية وبيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني، حول مجموعة من المطالب التي تقدم بها طالب إلى الحكومة، لذا قدّم النقيب استقالته ثم سحبها، بعد حصوله على وعد من المندوب السامي البريطاني بتنفيذها، ومما يشار إليه هنا أن النقيب قدّم مطالب عدّة الى مجلس الوزراء منها: عودة السياسيين المنفيين من الخارج ومنح الحـرية للوزراء بالعمل، وتعيين عدد من الموظفين بناءً على مقترح من وزير الداخلية وحُددت الأقسام التابعة لوزارة الداخلية كأقسام رئيسة وهي: الإدارة العامة، والشرطة، والضرائب والواردات، والزراعة، والسجون، والبلديات، والمطبوعات. نشرت جريدة الاستقلال حديثا لطالب النقيب يقول فيه ان الناس ضد هذه الوزارة، وهو يعتقد ان الحكومة إذا لم يعاضدها شعبها فلا يمكن ان تنجح، وانه قدم مطاليب مشروعة ومعتدلة، إلا انه حصل بعض التردد في قبولها ومنها عودة جميع المنفيين ومنح حرية أكثر للوزراء لممارسة اعمالهم بعيدا عن المستشارين الانكليز. تقول المس بيل (Gertrude Bell) ان السيد طالب حدثها عن الحاجة الضرورية لسد افواه رواد المقاهي من الموظفين القدامى والضباط وقال انهم الآن في فقر مدقع ولابد من اسكاتهم بتعيينهم في وظائف حكومية. يبدو لنا هنا ذكاء السيد طالب وادراكه لمخاطر البطالة. على كل حال سحب السيد طالب استقالته بعد ان اقنعته المس بيل وجون فيلبي مستشار وزارة الداخلية وتعهد المندوب السامي بتنفيذها.
كانت خطوة تأسيس وزارة الداخلية بوصفها ضرورة ملحة من ضرورات تشكيل الحكم الوطني في العراق كسبب رئيس، فضلاً عن كونها مؤسسة أمنية ضرورية تستطيع الحكومة بوساطتها إدارة الشؤون الداخلية والحفاظ على الهدوء وإشاعة الاستقرار السياسي في البلاد وتحقيق الوحدة الوطنية المتماسكة. وحاولت وزارة عبد الرحمن النقيب الأولى إصلاح أوضاع العراق الداخلية المتردية، فقامت باستحداث وظائف خدمية وإدارية فضلاً عن طلبها بإرجاع المبعدين السياسيين في هنجام (جزيرة تقع على مسافة كيلومترين مقابل السواحل الجنوبية لجزيرة قشم في مضيق هرمز) إلى وطنهم بعد إعطائهم عهوداً مكتوبة تتضمن عدم العبث أو تعكير صفو المناخ السياسي الجديد في العراق، قبل ان يلتئم المجلس التأسيسي الذي سيسن الدستور (القانون الاساسي) للبلاد. ومما يدلل على أهمية وزارة الداخلية ووزيرها هو موافقة برسي كوكس بجعل راتب وزير الداخلية خمسة آلاف روبية (عملة هندية استخدمت في العراق لغاية عام 1932) في الشهر وبقية الوزراء يتقاضون ثلاثـة آلاف روبية بل ان مجلس الوزراء زاد ذلك المبلغ الى ستة آلاف روبيـة بتاريخ 27 شباط1921، ويروي خيري امين العمري ان معظم الوزراء لم يكونوا موافقين على زيادة راتب وزير الداخلية بداية الأمر، إلا ان إصرار النقيب وثباته في موقفه اضطر الوزراء الى التراجع عن اتفاقهم وقبلوا في النهاية على راتب وزير الداخلية الذي اقترحه طالب النقيب.
بعد ان شعر طالب النقيب ان الانكليز لا يريدونه حتى انهم لم يختاروه عضواً في الوفد الذاهب الى القاهرة لتحديد مصير العراق، بينما اشترك فيه ساسون حسقيل وجعفر العسكري والمس بيل، التي قالت عنه في إحدى المرات: (نجاحه سيكون شيئاً قاتلاً بالنسبة لنا)، وكلهم ميالون لترشيح فيصل بن الحسين للعرش. وقد ذهب الوفد للمشاركة في المؤتمر الذي عُقد في المدة الواقعة بين 12-23 مارس 1921، في فندق سميراميس بالقاهرة، لبحث شؤون الشرق الأوسط، برئاسة وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل، وبحضور أربعين موظفًا إداريًّا وسياسيًّا وعسكريًّا من البريطانيين الذين كانوا يشغلون مناصب هامة في مختلف أرجاء الوطن العربي آنذاك. تحدد خلال المؤتمر المستقبل السياسي لعديد من دول الشرق الأوسط كالعراق وشرق الأردن وفلسطين، ويعتبر من أهم المؤتمرات التي بحث فيها مصير العرب بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال بريطانيا للمنطقة في الحرب العالمية الأولى. وحضره وفد عراقي يضم: برسي كوكس المندوب السامي البريطاني، والجنرال إلمر هالدن قائد القوات البريطانية في العراق، وجعفر العسكري وزير الدفاع، وساسون حسقيل وزير المالية، وسليتر مستشار وزارة المالية العراقية، وهربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني الأول في فلسطين، والعقيد توماس ادوارد لورانس الضابط البريطاني المعروف، العميد جيلبرت كلايتون ضابط استخبارات الجيش البريطاني في القاهرة، وقد ناقش المؤتمر العديد من الأمور التي تخص العراق، ومنها شخصية من يتولى حكم العراق، ووفقاً لما قاله برسي كوكس؛ فقد رأى أن ترشيح أحد أبناء الشريف حسين من شأنه أن يحوز رضا أغلبية الشعب العراقي إن لم يكن أجمعه، ومن هنا وقع الاختيار على فيصل ليكون ملكاً على العراق.
اندفع طالب النقيب - وزير الداخلية - في ممارسة نشاط واسع استهدف معارضة ترشيح الأمير (فيصل) ملكاً على العراق ،ومضى رجاله وأعوانه يطوفون علـى الناس في البصرة وبغداد بمضابط تدعو الى المطالبة بتعيينه ملكاً على العراق، وكان شعاره (العراق للعراقيين)، وقام بنفسه بجولة واسعة في اذار 1921 زار خلالها مدن الكوت والعمارة والناصرية والديوانية والنجف والبصرة للنهوض بدعاية سياسية تجمع له الأنصار منتهزاً فرصة غياب برسي كوكس والمس بيل لمشاركتهم في مؤتمـــر القاهرة، واحيطت جولته تلك بمظاهر التبجيل ورافقه فيها العديــد من اعوانه وانصاره منهـــم معاون مديـــر شرطــة العاصمــة (احمــد الـراوي)، وكان يصحبه العديد من رؤساء العشائر وعمداء العوائل العراقية المتنفذة. وكان انصاره يقيمون له في كل بلدة استقبالا حافلا وولائم كبيرة وكان هو يخطب في الناس محببا نفسه إليهم، ويبشر بالمبادئ التي توافق معتقداتهم. ففي النجف خطب قائلا: ((ادعو الله بحرمة اجدادي الطاهرين ولاسيما جدي الاعظم امير المؤمنين (عليه السلام) اعاهدكم على تحقيق آمالكم امام حضرته المقدسة)). وفــــي الكــــوت قــال مخاطبــاً الحاضرين: ((إنَّ جُل مقاصد حكومتنا إسعاد العباد ورقي البلاد وإنها ساهرة على مستقبل الأمة آخذة العدة للذود عن حياضها تؤازرها في الشؤون حكومة بريطانيا العظمى وعما قريب تنشر قوانين الانتخابات وسيلتئم المؤتمر العراقي العام وكل فرد منكم حرُ في رأيه ...)). وفي طريق عودته الى بغداد عرج على الحلة وزار سجن المعتقلين السياسيين وطمأنهم بقرب الإفراج عنهم.
في نيسان 1921 وصل بغداد مندوب جريدة (الديلي تلغراف اللندنية) برسيفال لاندن (P.Landin) فاغتنم طالب الفرصة وقرر ان يقيم لمندوب الجريدة وليمة عشاء كبرى في بيته، ودعا اليها القناصل ورؤساء عشائر ربيعة واسد محمد الامير وسالم الخيون وعددا من الوجهاء. خطب السيد طالب وكان فحوى ما قال ان شائعات تعيين فيصل ملكا اخذت تملأ الاندية، وهو يريد ان يوضح للحكومة البريطانية ان اهالي العراق لا يريدون فيصل، ولا يتساهلون في فرضه ملكا عليهم، وان الحكومة البريطانية قد وعدت بأن العراقيين سينتخبون الحكومة والملك الذي يريدون. ان اهل العراق مصممون على ان تفي الحكومة البريطانية بوعدها وإذا لم تفعل فإن العشائر لديها أكثر من ثلاثين ألف بندقية ومسلح رهن الاشارة. كما ان السيد عبد الرحمن النقيب سوف لا يتردد من أن يبعث شاكياً الى الهند وإستانبول وباريس. اعتبر المندوب السامي البريطاني برسي كوكس والمس بيل كلمة السيد طالب بمثابة تهديد بإعلان الثورة، وأنه يشكل خطورة على فرص نجاح فيصل في العراق فقررا اتخاذ التدابير اللازمة لاعتقاله وأخارجه من البلاد. وضع الانكليز خطة الاعتقال وجرت الرياح بما تشتهي سفنهم، فقد كان السيد طالب مدعوا في عصر 15 نيسان 1921 لتناول الشاي عند زوجة كوكس في بيتها، وهو نفس بناية السفارة البريطانية في محلة الكريمات على شاطئ دجلة في جانب الكرخ. لم تكن زوجة كوكس تعلم بخطة الاعتقال، فدعت للحفلة المس بيل لتقوم بالترجمة. اما كوكس فلم يحضر وادعى انه سيشاهد سباق الخيل. وصل السيد طالب في الساعة الرابعة والنصف وشرب الشاي مع زوجة كوكس والمس بيل. بعد فترة قصيرة نهض السيد طالب شاكرا ومودعا. وعندما خرج من البيت نحو سيارته في الشارع اعتقله الجنود الانكليز واقتادوه الى شاطئ النهر خلف البيت، حيث كان في انتظاره زورق بخاري تحرك به الى الكوت. وفي الكوت اركبوه باخرة سارت به الى الفاو التي وصلها في مساء 16 نيسان 1921، ومن هناك اصعدوه بارجة حربية حملته منفيا الى جزيرة سيلان فأودع فيها رهن الاعتقال.
وقد جاء في البيان الذي أصدره برسي كوكس بأن أسباب الإبعاد تعود لكون طالب النقيب قد صرح بتصريحات خطيرة تهدد سلامة القوات البريطانية في العراق وتحرض على رفع السلاح ضدها من شخص يشغل منصباً مهماً وخطيراً في الحكومة العراقية وهو بذلك يكون (مقصراً)– على حد تعبير البيان – نحو سكان هذه البلاد والحكومة البريطانية.
انتهت رغبة السيد طالب بتولي العرش بالفشل لان الانكليز كانوا يفكرون بالأمير فيصل ووضعوا الخطط لتنصيبه، لأنه كان هادئا طيِّعا عكس المشاكس المشاغب السيد طالب. لم يرجع النقيب من جزيرة سيلان للعراق إلا في الأول من أيار/ العام 1925.. بعد أن قضى 4 سنوات في المنفى.. عاد الى البصرة مقيما في قصره في منطقة السبيليات في أبي الخصيب في البصرة مشرفاً على أملاكه ومصالحه التجارية.. حتى مرضه حيث سافر إلى ألمانيا بمدينة (ميونخ) للعلاج.. فأجريت له عملية جراحية وتوفي أثرها في 16 حزيران / يونيو/ عام 1929.. ونقل جثمانه إلى مدينة البصرة حيث دفن في مقبرة الحسن البصري في مدينة الزبير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-هاري سانت جون بريدجر فيلبي ، ويعرف أيضاً باسم «جون فيلبي» أو «الشيخ عبد الله»، هو مستعرب، مستكشف، كاتب، وضابط استخبارات بمكتب المستعمرات البريطاني. لعب دوراً محورياً في إزاحة العثمانيين عن المشرق العربي خاصة عن شبه الجزيرة العربية والعراق والشام. هو أول أوربي يقطع صحراء الربع الخالي من شرقها إلى غربها.
المصادر:
1- مذكرات سليمان فيضي في غمرة النضال ــ سليمان فيضي.
2- شخصيات عراقية ـــ خيري العمري
3- طالب النقيب دوره في تاريخ العراق الحديث ــ رسالة ماجستير ــ جامعة عين شمس ــ حسين هادي الشلاه.
4- تاريخ العراق السياسي ــ عبد الرزاق الحسني.
5- اعلام السياسة في العراق الحديث ـــ مير بصري.
584 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع