"لمحة مستفيضة عن بغداد وقيمتها التراثية والإنسانية، كيف كانت وكيف هي الان"
إن الكتابة عن المدن تكون في بعض من الأحيان عن غاية، فالمدن هي التي تأخذ الكاتب للكتابة خاصة عندما تكون قد تغيرت أو تكون كالحلم الضائع بمعنى أن تكون المدينة في السابق أفضل، محطات كثيرة لمكان لا زال فيه دفء الوجدان، لتتداعى الصور والكلمات الى الاذهان وكيف لا انها بغداد، وهي عاصمة العراق، وكانت عاصمة العالم، ،
شهدت بغداد الكثير من العصور والأزمان فهي شاهد على حضارات الإنسان القديمة والمعاصرة، وكانت بغداد أيضاً حاضرة في زمن الأمة الإسلامية منذ الخليفة أبا جعفر المنصور، وما تزال تحتفظ باسمه، تعددت أسماؤها، فسميت مدينة السلام وهو الاسم الرسمي الذي ظهر في وثائق الدواوين العباسية وعلى النقود والأوزان، كما أطلقت على المدينة أسماء أخرى مثل (دار السلام) و (مدينة المنصور) و (مدينة الخلفاء) و (المدينة المدورة) و (عاصمة الرشيد) و (الزوراء)، مبدعون قدموا إليها من شتى بقاع العالم ومن مختلف مجالات الإبداع، لقدرتها على أن توفر لهم جوا مناسبا لتفجير المخيلة أيام الخلافة العباسية، إنها مدينة السحر والجمال الممزوجين بالعراقة والتفرد، تلك المدينة الصاخبة التي تزخر بآثارها وجمال بيوتها وحدائقها وقصورها ومساجدها ومآذنها وكنائسها واديرتها، وتعلم على ارضها العديد من العظماء عبر تأريخها الإنساني، والحديث عن بغداد أو الكتابة عنها، ذو شجون، نعم أعترف أن لهذه المدينة حصة من الشوق في مخيلتي، ففيها عشق لا ينتهي، فهي منبع لكل جميل، فبغداد التي كنت شاهدا عليها والتي تحمل بين صفحاتها ذكريات الولادة والطفولة والشباب وبعض الاحداث الذي سجلها التأريخ في ملفات السنين ولحين مغادرتها عام 2006،
ترى وتشم رائحة من سكنوها في العصور الماضية، ولا تزال بصماتهم ظاهرة للعيان في شكل البيوت المباني والحارات والازقة، فهي روح المدينة وتمشي وسط أهل وأحبة، يغمرونك بودهم واحترامهم لك، مدينة استهوت، على مدى تاريخها المعاصر، الكتاب، كما سحرت الفنانين، فأرخوا لمعايشتهم لها، هاموا بها، فأعطوها من رحيق إبداعاتهم الشعرية والغنائية والفنية، بقدر ما أعطتهم من سحرها ودفئها، ولهم في بغداد حنين واشواق، ولهم فيها ذكريات وآهات، قولوا كيف انسى وكلنا في هواها عشاق.
تصلنا بين فترة وأخرى صور قديمة تعرض حال بعض من مناطق بغداد قبل أن تطالها يد الزمن والخراب الممنهج، شوارع نظيفة وأنيقة ويبدو عليها الثراء والازدهار، تبين عن عظمة بغداد الماضي وشناعة الحاضر، بعض هذه الصور يعود إلى الخمسينات، وبعضها يعود إلى أبعد أو أقرب قليلاً، وجدت نفسي أشتاق إلى الإمساك بالقلم وكتابة على ورقة من أوراق دفاتر الذكريات عما يجول بداخلي عن بغداد وارثها الإنساني.
تزخر بغداد بثروة هائلة من التراث العمراني الذي يمثل ذاكرتها الحضارية، وكانت الأحياء والمحلات التقليدية القديمة والحداثة العمرانية بفضاءاته الواسعة في بغداد تمثل الموروث التراثي لنمط الهوية العمرانية لمظاهر الحياة منذ أيام الدولة العباسية، وهي انعكاس لنموها الطبيعي، بما في ذلك عمارتها المتميزة المتناسقة مع الوان محافظة، كما ان ضواحيها السكنية كانت هي الأخرى ملتزمة بالتصميم المعماري الملتزم بقواعد التخطيط والبناء، بعد عام 2003 بدأت بغداد تفقد هويتها وخصوصيتها، بغداد بدلا من أن تصدر جمالها الي مدن العراق كلها تنقل نظامها ودقة مرورها وجمال مناطقها وشوارعها وازقتها وبيوتاتها، استوردت كل القبح والعشوائيات من الريف والمدن، أي انها تعرضت لتدمير مجتمعي للمدينة وطغيان للمد الريفي والتوسع الحضري غير المدروس، الأمر الذي جعل المشهد مرتبكاً للغاية، فتعرضت التركيبة السكانية فيها و النوع المجتمعي لتغيير كبير و انحسار حتى اللهجة البغدادية تأثرت بذلك، كما تعرضت معظم منازل بغداد لتشويه عمراني بسبب غياب الدولة والقانون،
الأرصفة تم التجاوز عليها، وانتشرت العشوائيات والوحدات السكنية المجزأة من خلال أنماط طارئة بحيث تحولت كثير من الحدائق المنزلية الى مساكن غير نظامية، وكثرت أبواب المنازل، لا تراعي اية شروط عامة للسكن الصحي، والبعض ممن يملكون دوراُ تراثية قاموا بهدمها، بغية انشاء عمارات اسمنتية وشققا على الطراز الغربي، وبذلك دمروا طابعها المعماري الفريد ذو الهوية البغدادية، وقام آخرون بالاستيلاء على فضاءات كان مقصوداً ابقاؤها فارغة من البناء لإراحة العين من الاصطدام بالجدران فقط ولأسباب جمالية وبيئية فهي في الغالب حدائق عامة، كما خسرت العاصمة بغداد معالمها العمرانية القديمة، مع تقلص أعداد الأبنية التراثية التاريخية التي كانت تنتشر على شاطئ نهر دجلة من جهتي الرصافة والكرخ، ولم يبقَ منها سوى العشرات نتيجة توسع ظاهرة التمدن العشوائي والمراكز التجارية التي شيّدت حولها، كل ذلك اثر ذلك بشكل كبير على النمط الاجتماعي و حتى السلوكي للسكان، ناهيك لما حصل من تشويه المدينة وجمالها المعماري، كتب الصديق الباحث والكاتب صباح ناهي في مقالته المعنونة" بغداد القديمة تصارع الإبادة والجديدة تتوق الحياة والتي نشرت في اندبندت عربية:
تحولت بغداد الى احدى أسوأ المدن للعيش ومعماريوها يقولون انها غدت أسمنتية يطلى وجهها كل يوم بالوان لا تليق بعراقتها، وبدأت هويتها التأريخية العظيمة التي كانت مركز العالم الإسلامي لنحو 500 سنة تتعرض للتغيير والتدمير، ذاكرة تتآكل لبلد يتحلل وينتحر.
على امتداد نحو اربعة كيلومترات يمتد شارع الرشيد بين الاحياء القديمة من منطقة الباب الشرقي الى منطقة الميدان كأقدم شارع فيها بعمر ناهز القرن وثمانية اعوام منذ مده العثمانيون كطريق لتسهيل حركة الجنود آنذاك، وسمي الشارع بداية بشارع (خليل باشا جادة سي) نسبة الى الوالي العثماني على بغداد آنذاك خليل باشا، ثم أطلق عليه اسم الشارع الجديد، وبعد ذلك وفي الحكم الوطني عام 1938 أصبح اسمه شارع الرشيد تيمناً بالخليفة العباسي هارون الرشيد، شارع الرشيد ودرابينه الضيقة وشناشيل بيوتاته المتهالكة ومنها قصور شخصيات في المجتمع البغدادي من مختلف الاعراق والاديان، ومنهم الوجيه الموصلي الحاج اسماعيل خالد الذي ترك قصره المنيف في الثلاثينيات بعد انتشار محال اللهو وبيع الخمور، ومنهم رؤوف الجادرجي الذي تحول بيته الى مقر لحزب الاخاء الوطني لاحقاً، وفي الشارع ثمة بيوت شامخة بطرازها الفيكتوري، منها بيت عبدالحميد عريم وبيت الخضيري الارمني سركسيان، وبيت اليهودي مناحيم دانيال الذي سكنه الملك فيصل الاول اثر غرق البلاط الملكي (1926م) وقصر القنصل البريطاني، وقصور عبدالقادر وياسين الخضيري وقصر الباجة جي وغيرها، انه ايقونة بغداد واحد رموزها، التي تعالت واجهاته الشناشيل؛
وتغنّجت الشرفات الخشبية؛ والشرفات الحديدية، حيث النقوش، والأقواس، والزخارف؛ تعكس دقة الفن المعماري وجمال تشكلاته، بناياته التي تقف على ألف ومائتان وأربع (دنكات)، تحكي كل قطعة فيه وكل دنكة منه ذكرى وموقف وتأريخ، كما ذكرها الزميل الدبلوماسي سعد عمر التكريتي في مقالته المعنونة: "شارع الرشيد..سيد الشوارع" والتي نشرت في مجلة الكاردينيا، فالزائر لبغداد لن يرى حقيقة تاريخها ما لم يتجول في شارع الرشيد الذي حفل بعمو الياس وشربت حجي زبالة وحانة شريف وحداد وبار عنتر ولوكانو واكسبريس ومطعم تاجريان وابن سمينة وحاج خيرو والحوذي الشهير شيخان ذو الطرائف المعروفة ونكاته التي لم تكن تعفي احداً من سياطها اللاذعة، وشفتالو البرلمان وخليلو القزم وعباس بيزه من الشخصيات البغدادية الطريفة والشقاوات، والذي احتضنت مسارحه أم كلثوم والريحاني وناظم الغزالي وملاهييه مثل روكسي..
الذي شهد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي زيارات لفرقة بديعة مصابني أشهر الفنانات الاستعراضيات في حينه، الشارع الذي حوى الكثير من الشواهد السياسية والعمرانية والثقافية والفنية، يروي عن نفسه من إرث وأناس مروا عليه،
هذا الشارع الذي تصطف على جانبيه ابنية تراثية قديمة وكنائس وجوامع شيد بعضها في عشرينيات القرن الماضي كجامع (الحيدر خانه) وجامع (سيد سلطان علي) وجامع (حسين باشا) وجامع (مرجان) الذي شيد قبل 700سنة، فضلاً عن العديد من دور السينما القديمة التي هجرت في الوقت الراهن كسينما النجاح وسينما الوطني وسينما الزوراء وسينما الخيام، إن تذكرت شيئا آخر في بغداد لا تزال تحمله حقيبة ذكرياتي،
فهي تلك الساعات التي كنت اقضيها، مع الأصدقاء في مقاهي شارع الرشيد، فالمقاهي في شارع الرشيد كثيرة وتتوزع في المربعة والسراي والميدان ومنها مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي ومقهى الشابندر، وكذلك مقهى البرلمان
والمقهى البرازيلي اللذان انتهى وجودهما، وتحولا إلى محال تجارية في نهاية السبعينات من القرن الماضي، تلك المقاهي، التي اجتمع على ارائكها الأدباء والمفكرين ورجال الدين والسياسة والشعراء وقراء المقام والمغنيين، والتي هي الأخرى شهدت سجالات سياسية ومبارزات شعرية وغنائية طيلة فترة تواجدها، ذلك الشارع الذي كان مسرحا لكل التظاهرات السياسية في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات ..،
فضلاً عن اسواقه التراثية القديمة كسوق الصفافير وسوق الشورجة وسوق البزازين وسوق الهرج وسوق الميدان، ومتاجره التي كانت تعرض أفخم الملابس والمقتنيات، وعلى امتداد الكيلومترات الأربعة، لطول الشارع يرتبط بصوب الكرخ بأربعة جسور هي جسر والشهداء و الاحرار والسنك والجمهورية.
ذلك الشارع وقيمته التأريخية التي تعبر عن اصالة بغداد، والذي كان يلقب بـ «مدينة في شارع«، ذاكرة بغداد وقلبها النابض بدا حزينا متأسيا يبكي ماضيه التليد، بات مهملا، وخرباً، أصبح اليوم هيكلاً متصدعاً بالكامل، حيث إن أزقته الضيقة شهدت اهمالا يبالغ بالقيمة التاريخية لذلك الشارع، كيف أضاع الاهمال والغباء وعدم الوعي أعمالا تاريخية حضارية فنية شديدة الخصوصية والرقي والروعة، كانت في يوم من الأيام آيات للفن والتاريخ والثقافة والحضارة، اصبح مكباً للنفايات في مناطق كثيرة منه، وتحديداً تلك التي تشهد حركة تجارية ومنها منطقة السوق العربي والشورجة وساحة الرصافي والميدان، والذي تحول الى ممر للباعة المتجولين وعربات الخشب، وتغيرت بعض ملامحه التراثية، الكثير منها تلاشت واندثرت او باتت بناياتها آيلة للسقوط من جرّاء الإهمال، منها ما حدث في عام 2023 هوى سقف مسرح الهلال الأثري الواقع في منطقة الميدان وبالتحديد في منطقة خان المدلل وهو سوق متخصص ببيع المقتنيات والتحف القديمة والتراثية والنادرة،
والمسرح أنشأ في عام 1918 واكتسب شهرته بسبب غناء المطربة المصرية أم كلثوم فيه عام 1932،
كما غنى فيه ناظم الغزالي وسليمة مراد وعدد من المطربين والملحنين والعازفون صالح وداود الكويتي، إلى جانب عدد من الأبنية التراثية القائمة إلى غاية الآن، بعضها مهجور وبعضها الآخر تحوَّل إلى مخازن للبضائع، وسبق أن أزيل الكثير منها وشُيدت بدلاً منها أبنية سكنيّة وتجاريّة، ان ما يحصل في شارع الرشيد من ترميمات من قبل اصحاب المحال لتوسعة محالهم وبناء مخازن في الطبقات العلوية، والخانات القديمة في شارع النهر دون الالتفات الى خصوصية هذه المباني كونها من التراث البغدادي، سببها فساد البعض من موظفي المؤسسات المعنية على حماية هذه المناطق، وسهولة التحايل على القانون وهدم العديد من المباني التراثية تحت ذريعة الترميم،
كما ان جامع مرجان والذي بني قبل 700 سنة من مساجد العراق الأثرية القديمة قرب الشورجة، هو الاخر مهدد بالزوال بسبب المياه الآسنة والإهمال، اما الجامع من الداخل فقد صار بؤرة للمياه الاسنة ومكبا للنفايات والازبال، الواقع الماساوي والمزري لجامع مرجان يتطلب تدخلا من الجهات ذات الشان في الاوقاف وامانة بغداد والجهات الامنية والمرورية لتنظيم حاله ولابد من ايقاف الامتداد الفوضوي العشوائي للبسطيات والمسقفات غير النظامية، كما ان المقاهي والخانات والحمامات والتكايا ودور السينما والمسارح التي حولت الى ورش ومحال ومعامل ومراكز تجارية وصناعية في ظاهرة مخيفة تجاوزت ارث بغداد وجانباً حياً من تاريخها،
معالم اختفت منذ عقود عن الشارع مثل كعك السيد، وسينما القاهرة الصيفي وسينما الحمراء، ومداخل شارع النهر ومكتبة مكنزي وبائع القهوة قبطانبان، ومحلات الأرمن لبيع الباسطرما القيصرية والعادية والكيك واللبن الرائب، وهكذا حتى الباب الشرقي وسينما الخيام، كما ان شارع الرشيد تعرض أيضا بوقاحة حين دعا بعض من المتنفذين في الحكم و من هو حاقد على بغداد وتأريخها بتغيير اسمه، لكن من تصدى الى تلك الحملة هم ثوار تشرين العروبيين والوطنيين لبلدهم العراق شارع الرشيد تعرض منذ سنة 2003 إلى نكبة موجعة على أيدي شعوبيي نظام التخريب والدمار، بدافع الحقد على بغداد وتاريخها، وقد استمعنا إلى من يدعو من رموز هذا النظام وبوقاحة إلى تغيير اسم شارع الرشيد، فهو لم يهمل فقط، بل تعرض إلى حملة تخريب منظمة، لكن إرادة العراقيين وعروبتهم وصدق وطنيتهم التي ظهرت بكل عنفوانها في انتفاضة تشرين، فأين هوية بغداد التي يجب الحفاظ عليها؟ وأين الجهات الحكومية التي يجب أن تستثمرها؟".
حي البتاوين في الجانب الشرقي من العاصمة بغداد الذي يبتعد عشرات الامتار من نصب الحرية وحديقة الامة و جسر الجمهورية، ذلك الحي الذي كان من ارقى أحياء بغداد وأكثرها ازدهاراُ ثقافيا وتجارياً، شوارعه الانيقة وبيوته وشناشيله وقببه البغدادية، ذات الحدائق الجميلة المتميزة بتناسقها وتشابه طريقة بنائها، المغطاة بالزخارف الموشومة بالنقوش والمبنية بالطابوق البغدادي، كانت ذات يوم عنوانا للرقي والفخامة المتميز، ومضرباً للأمثال فيما يتعلق بالتعايش الديني، كانت تسكنها طوائف متعددة من اهمها الطائفة المسيحية وكذلك الطائفة اليهودية التي كانت تسكن قرب معبدهم المعروف بكنيس مئير طويق، إضافة إلى المسلمين، هاجر اليهود بعد عام 1950، تأثرت البتاوين بالحرب والارهاب والطائفية والقتل على الهوية والتطرف بعد 2003 فغادر الكثير من سكانها من المسيحيين والمسلمين الى خارج البلاد، البتاوين المهجورة من اهاليها يسكنها مدمني المخدرات والقتلة وارباب السوابق والمتسولين والأجانب بدون الاقامات، وجرى تحويل منازلها الى فنادق واوكار لبيع الممنوعات، ومباغي دعارة شعبية ، كما سادها الخراب والفوضى وتتكدس فيها النفايات، وتعج بالقتلة وارباب السوابق، كما تواجدت فيها عصابات الاتجار بالبشر والأعضاء البشرية، حتى كأن كل الأمور السيئة التصقت بها، اليس من واجب امانة بغداد من إزالة القمامة وتنظيف الشوارع، وترميم بيوتاتها التراثية، ووزارة الداخلية بحفظ الامن ومكافحة الجريمة والمخدرات واوكارها.
ان بيوت الشناشيل التي كانت مناطقها في الاعظمية والكاظمية والكرادة والشواكة والجعيفر وأبو سيفين والفضل وباب الشيخ توصف بالجميلة، هذه البيوت تعتبر قطعًا فنية نادرة لما لها من جمالية في طرازها وهندستها المعمارية، أصبحت اليوم مهملة ومهدمة او تم استبدالها بمنازل تجارية او مخازن او ورش..
الا تستحق بغداد التاريخية أن تكون مزارا عالميا سياحياً ودينياً، بما فيها من مساجد الكاظمية وأبو حنيفة النعمان وشيخ عبد القادر الكيلاني ومراقد الفقهاء واضرحة العلماء، وبما فيها المقبرة الملكية.
كثرت في الآونة الأخيرة دعوات بإزالة تمثال ابي جعفر المنصور وإلغاء تسمية هارون الرشيد من معالم بغداد، هذه الدعوات تكررت لإثارة النعرات الطائفية على مدار السنين الماضية، فقد تم نسف تمثال أبي جعفر المنصور بعبوة ناسفة بالفعل لغرض إزالته، في شهر أكتوبر من عام 2005 وبعد إعادة نصبه انتشرت دعوات مماثلة عام 2021 ، بالتأكيد ان هناك جهات سياسية دينية تستحضر أزمات تأريخية لإثارة تلك النعرات الطائفية وشحنها ساعية الى تدمير حضارته وتراثه، الا يعلمون بان بغداد في عهده وعهد هارون الرشيد كانت مركزاً للفكر العالمي وحاضرة رائدة للعلم والثقافة، تمثال الخليفة أبي جعفر المنصور في بغداد، الذي نحته خالد الرحال احد ابرز رواد الحركة الثقافية، واحدا من أبرز معالم العاصمة التي بناها، بينما لم يستطع الآخرون تقديم شيء لها سوى الدمار وهدم شواخصها، فالأنظمة المحترمة تحافظ على هويات مدنها ورموزها، اليوم تمثال أبو جعفر المنصور وغدا المستنصرية، وبعدها في وقت اخر تغيير اسم بغداد.
كما هو معلوم ان الطبقة الوسطى العراقية أسهمت كغيرها في نمو الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي والتنمية منذ تأسيس الدولة الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، وان هذه الطبقة تعرضت لتراجع مستوى معيشي خلال فترة العقوبات على العراق، بعد غزوه الكويت، وهو ما جعلها تتقلص ما أدى إلى انتقال جزء منهم إلى الطبقة الفقيرة..، وجاءت السياسات التي استخدمها الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 لتدمير المؤسسات العراقية الإنتاجية، وكذلك ظواهر عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، على المستوى الحكومي والأمني في العراق، والاعتماد فقط على الريع النفطي، فان الطبقة الوسطى بدأت بالضمور وفي طريقها للانحلال، فإما ثراء فاحش وإما فقر مدقع، وهو ما يضع البلاد في مأزق مجتمعي يفصل فيه جدار المال الناس عن بعضهم البعض مما يؤثر على النسيج الاجتماعي وترابطه مما اثرت سلباُ في قيم المجتمع، بدلا من تقوم ان تقوم بدور ريادي في ارتقاء الدولة نحو الحرية والاستقلال الناجز والتقدم الاجتماعي.
بغداد التي كان الجميع يتغزل في احيائها القديمة ونهر دجلة الخلاب، أصبحت من يراها في الصور أو الليل فقط أو من شباك طائرة، حتي يستطيع ان يتطلع الي جمالها، وطالما سرح خيالنا وتطلعنا مع الكثير من أصدقائنا في الغربة الي ان نشهد ان تغييرا جوهريا مستقبليا ينقذ بغداد مما آلت اليه من شيخوخة وضعف، وكل من نلتقي به يتساءل متي تنقذ بغداد، ولا بد هنا ان اقتبس بعض من ابيات شاعر الوطن شاعر العراق والعرب والإنسانية عبد الرزاق عبد الواحد في غربته وهو ينشد حزيناً باكياً دَمعٌ لِبَغداد .. دَمعٌ بالمَلايين ِ:
مَن لي بِبَغداد أبكيها وتَبكيني ؟.. مَن لي ببغداد ؟..روحي بَعدَها يَبِسَتْ
وَصَوَّحَتْ بَعدَها أبْهى سَناديني.. عُدْ بي إلَيها.. فَقيرٌ بَعدَها وَجَعي
فَقيرَة ٌأحرُفي .. خُرْسٌ دَواويني.. قد عَرَّشَ الصَّمتُ في بابي وَنافِذ َتي
وَعَشَّشَ الحُزنُ حتى في رَوازيني.. والشِّعرُ بغداد ، والأوجاعُ أجمَعُها
فانظُرْ بأيِّ سِهام ِالمَوتِ تَرميني ؟!.. عُدْ بي لِبغداد أبكيها وتَبكيني
دَمعٌ لِبَغداد .. دَمعٌ بالمَلايين ِ.. عُدْ بي إلى الكَرخ..أهلي كلُّهُم ذ ُبحُوا
فيها..سَأزحَفُ مَقطوع َالشَّرايين ِ.. حتى أمُرَّ على الجسرَين..أركضُ في
حتى أمُرَّ على الجسرَين..أركضُ في.. صَوبِ الرَّصافَةِ ما بَينَ الدَّرابين ِ
أصيحُ : أهلي...وأهلي كلُّهُم جُثَثٌ.. مُبَعثَرٌ لَحمُها بينَ السَّكاكين ِ
خُذني إليهِم .. إلى أدمى مَقابرِهِم.. لِلأعظَميَّةِ.. يا مَوتَ الرَّياحين ِ
وَقِفْ على سورِها،واصرَخْ بألفِ فَم ٍ.. يا رَبَّة َالسُّور.. يا أ ُمَّ المَساجين ِ
كَم فيكِ مِن قَمَرٍ غالُوا أهِلَّتَهُ ؟.. كَم نَجمَةٍ فيكِ تَبكي الآنَ في الطِّين ِ؟
وَجُزْ إلى الفَضل ِ..لِلصَّدريَّةِ النُّحِرَتْ.. لِحارَةِ العَدل ِ ..يا سُوحَ القَرابين
كَم مَسجِدٍ فيكِ .. كَم دارٍ مُهَدَّمَةٍ.. وَكَم ذ َبيح ٍ علَيها غَيرِ مَدفُون ِ؟
تَناهَشَتْ لحمَهُ الغربانُ ، واحتَرَبَتْ.. غَرثى الكِلابِ عليهِ والجَراذين ِ
يا أ ُمَّ هارون ما مَرَّتْ مصيبَتُنا.. بِأ ُمَّةٍ قَبلَنا يا أ ُمَّ هارون ِ!
ولكي تعود العاصمة بغداد إلى جمالها وألقها العمراني وإبراز الجوانب الحضارية، الذي تميزت به لقرون عدة، وللمحافظة على ما تبقى من القيم الفنية والجمالية للعمارة البغدادية ولا سيما شناشيلها الرائعة يتطلب إعادة صيانتها وترميمها بنفس النمط البغدادي، دون احداث أي تغيير في ذلك النسيج، لان التغيير سيضيع الهوية التاريخية، فكل عراقي أصيل يحرص على بغداد وتأريخها الحضاري والانساني ولا يرضى بأن يطالها الاهمال والتخريب، انه حلم على الأقل ان تسترجع ملامح بغداد وهويتها وروحها، وهل ستستعيد هندسة الدور البغدادية خطوطها القديمة فيعود السرداب والبادكير إليها، وتعود إليها الشناشيل البارعة السحر.
كل ما قلته عن بغداد لا يعني أنها باتت عاجزة عن تحريضي على كتابة المزيد من القصص عنها وعن أحوالها الراهنة الغريبة العجيبة، إرث حضاري كبير ومدينة حافلة بما حوت في أرجائها، باذخة بتراثها وثقافتها تفوح من جنباتها رائحة ماض عريق، حل بها تاركا أثره العميق، ومن هنا تأتي اهمية الحفاظ على تلك المناطق التراثية والحد من أي غزو يحاول تغيير ذلك النسيج العضوي الذي امتازت به وانماط واشکال بيوتاتها بمعمارها العتيق، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود
565 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع