مصر- ارض الحضارات وملتقى الأرواح/الحلقة الثالثة
في اليوم التالي لجولتي مع المرشد السياحي التي استغرقت ثمانية ساعات ونصف ولم نأخذ فيها استراحة واحدة كان يوم السبت التقيت مع صديقي العزيز اللواء الدكتور محمد عاصم شنشل الذي اخذني بجولة اكثر تفصيلا من جولة يوم امس وزرنا الأماكن التي لم أتمكن من زيارتها مع المرشد السياحي حيث التقينا عند مسجد سيدنا الحسين وبدانا الرحلة, المسجد كبير ويقع بجوار الجامع الازهر وقد بني سنة 1154 في زمن الفاطميين ويتسع الى أربعة الاف مصلي بعد إضافة مساحات خارجية للصلاة, ويحتوي المسجد على رواق واسع رئيسي واعمدة رخامية تضيف فخامة الى فخامته الظاهرة للعيان حيث الفسيفساء والزخارف الخطية التي تزين الجدران والسقوف والارضية المفروشة بسجادة كبيرة تغطي كل الأرضية عندما تمشي عليها تغوص رجلك فيها من كثافتها وجودتها , ويوجد في المسجد محراب ومنبر مصنوعان من الخشب المنحوت بدقة متناهية يجعلك تشعر بانك امام لوحة فنية متناغمة مع قدسية المكان كمسجد للعبادة والتنسك والمسجد مبني بالحجر الأحمر على الطراز القوطي واما مأذنته ذات الشكل الاسطواني فهي مبنية على الطراز العثماني, وله أربعة أبواب وهي باب الامام الحسين وهي الباب الرئيسية وباب الحرم ويفتح على منطقة الحسين وباب الفتوح ويقع على شارع الازهر والى مشيخة الازهر والباب الأخير هو باب النصر ويؤدي الى شارع خان الخليلي
السور الخارجي والمأذنة العثمانية في مسجد سيدنا الحسين
الضريح يقع على يمين الداخل من الباب الرئيسي وهو يفتح يوميا لكنه يغلق لأعمال الصيانة في بعض الأحيان وخصوصا في يوم الجمعة والضريح محاط بمقصورة من النحاس المطلي بالذهب وقبة الضريح ( راس سيدنا الحسين ) مبنية على الطراز العثماني ومغطاة بزخارف إسلامية بديعة, دخلنا المسجد الواسع الجميل وذهبنا باتجاه الضريح الذي يقع على يمين الداخل من الباب الرئيسية للمسجد وقد كان مزدحما بالزائرين من مختلف الجنسيات يتبركون به وبعضهم قد جلس على الأرض يتأمل روعة المكان وقدسيته وقد كانت الآيات القرآنية في كل مكان في داخل الضريح
ضريح رأس سيدنا الحسين من الداخل حيث راس سيدنا الحسين
واخذنا العديد من الصور وعند الخروج من باب الضريح الى داخل المسجد لفت انتباهي لوحة كبيرة معلقة على الحائط كتب عليها ساهم الرئيس الراحل عبد السلام عارف في تكاليف هذا المنبر سنة 1387 هجرية وقد تبين ان الرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف قد ساهم في اعمار العديد من الاماكن الإسلامية في القاهرة ومنها بناء ذلك المنبر الخشبي الرائع والذي ما يزال موجودا لغاية اليوم.
لوحة تبين مساهمة الرئيس عيد السلام عارف في تكاليف المنبر
بعد الانتهاء من جولة مسجد سيدنا الحسين تجولنا في منطقة الازهر حيث صلينا الظهر في جامع الازهر الذي بني سنة 970 م ( 395 هجرية) بأمر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله وقد بناه القائد جوهر الصقلي ويعتبر من اقدم و اهم المراكز الإسلامية التي ماتزال تعمل لغاية اليوم, ويتكون مجمع الازهر الجامع الازهر ومسجد الحسين وفيه جامعة الازهر التي تحتوي على كليات الشريعة والدراسات الإسلامية والطب والهندسة واللغة العربية ويحتوي كذلك على مكتبة الازهر ومركز البحوث الإسلامية ومجلس العلماء والمعاهد الازهرية وقاعات للمحاضرات والمؤتمرات .
احدى واجهات مجمع الاظهر الشريف
بعد الانتهاء من زيارة مجمع الازهر دخلنا الى شارع المعز وبدانا جولة أكثر تفصيلا من جولة اليوم السابق وزرنا مجموعة السلطان المنصور قلاوون والتي تم بنائها بين عامي 1284م وعام 1285 وهي من اعظم اثار المماليك التي ماتزال في مصر وتتكون من قبة دفن السلطان قلاوون وهي تشبه في تصميمها قبة الصخرة بالقدس الشريف وهي مقامة على أربعة أعمدة ضخمة من الجرانيت وهي مجلوبة من معابد مصر القديمة وغنية بالزخارف الملونة والمذهبة ويقع اسفل القبة ضريح دفن فيه الملك المنصور وابنه الناصر محمد وقد تعرضت القبة للانهيار في القرن التاسع عشر وتم إعادة تعميرها سنة 1908م والسلطان قلاوون هو أبو المعالي السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الالفي العلائي أبو الفتوح احد اشهر سلاطين المماليك البحرية.
الاف الزخارف الدقيقة تزين اعلى محراب المسجد
وتحتوي المجموعة كذلك على المدرسة التي انشأها السلطان المنصور قلاوون لتدريس المذاهب الأربعة وتتكون من فناء واسع مكشوف يحيط به أربعة اواوين اكبرها ايوان القبلة المتجه ناحية القبلة وتحتوي المدرسة كذلك على غرف لإيواء الطلبة وقاعات لخزن الكتب وقاعات للدراسة وتناول الطعام وقاعة لجلوس المدرسين والشيوخ وملحق بالمدرسة مئذنة ضخمة مبنية على الطراز المملوكي وقد اعيد بنائها سنة 1303م أثر سقوطها بسبب الزلزال الذي ضرب القاهرة سنة 1302م
مأذنتا المسجد المملوكية بجانب قبة المسجد
ويحتوي المجمع على بيمارستان ( مستشفى) وسبب بناء البيمارستان الى إصابة المنصور قلاوون بمرض شديد عندما كان اميرا وعولج بدواء تم جلبه من بيمارستان نور الدين محمود بدمشق , فقرر ان اتاه الله الملُك ان يبني مارستان مثله في القاهرة وعندما اتام الله الملُك وفى بوعده وبنى ذلك البيمارستان وقد كان البيمارستان يتكون من أربعة أواوين ملحق بها مجموعة من الغرف لعلاج المرضى وكان مخصص لعلاج جميع الامراض الجسدية والنفسية ومخصص لتدريب علمي الطب والصيدلة وقد استمر ذلك البيمارستان يقدم خدماته خلال العهدين المملوكي والعثماني وقد بقي منه مستشفى العيون الذي ما يزال يعمل الى يومنا هذا, ويحتوي المجمع على سبيل السلطان قلاوون الذي انشاه مقابل المجمع سنة 1326م وكان في البداية حوض ماء كبير لشرب الدواب الا ان السلطان قلاوون رفض منظر الدواب امام المجمع الطبي فحوله الى سبيل لسقاة المارة وهو من اقدم الاسبلة الموجودة في القاهرة.
فوق محراب المسجد حيث الزخارف البديعة والزجاج الملون الذي يعكس الوانه
بعد ذلك زرنا جامع ومدرسة السلطان المؤيد وقد ذكرت المصادر التاريخية ان المؤيد قد عانى كثيرا من قسوة السجن عندما كان اميرا واقسم انه اذا خرج من السجن على قيد الحياة سيقوم بتشييد مسجدا مكان السجن وعندما اصبح سلطانا اوفى بقسمه وهدم السجن وبنى هذه المجموعة المبنية على الطراز المملوكي التي تشمل ضريحان ومدرسة لتعليم المذاهب الأربعة للمتصوفة ومكتبة كبيرة , ويعلو كتلة بوابة المجموعة جزءا اكثر ارتفاعا من بقية جدران المسجد مزين بتسع صفوف من المقرنصات وقد قام السلطان المؤيد بخلع الباب البرونز لمسجد السلطان حسن ونقله الى جامعه هذا , واهم واجمل قطعة معمارية في هذا المكان هو المدخل المكون سقفه من قبو متقاطع مكون من قبتان نصف دائريتان محمولتان على مقرنصات , وللوصول الى الجامع على الزائر المرور أولا بالضريح المدفون فيه السلطان المؤيد وابنه , وفي اول المدخل بعد ذلك ردهة منكسرة تقود الى رواق القبلة وحيطانه محلاة بالأشكال الرخامية مع محراب رخامي عليه زخارف هندسية وشبابيك من الجص والمنبر مصنوع من الخشب المطعم بالعاج, لقد كان للجامع في الأصل ثلاث مأذن اثنان متشابهتان تقعان على باب زويلة في اعجاز معماري رائع ومأذنة ثالثة مختلفة تقع في الجانب الغربي الذي اندثر في القرن التاسع عشر الميلادي وقد كتب المعماري محمد ابن القزاز اسمه وتاريخ انشاء المأذن في اطار يعلو المأذنتان ويعتب هذان التوقيعان الوحيدان لمعماري مملوكي على الأبنية في مصر, وقد كانت هاتان المأذنتان تحتلان اهم موقع في مدينة القاهرة في العصر المملوكي لكونهما فوق بوابة المدينة ومواجهتان لقدوم موكب السلطان في القاهرة الفاطمية .
وبعد ذلك زرنا جامع وسبيل وكتاب سليمان اغا السلحدار , والسلحدار كلمة تركية تعني خازن السلاح وكان سليمان اغا المذكر هو مسؤول خزائن السلاح في عهد محمد علي باشا بين عامي 1837 – 1939 وتتكون مجموعة الأبنية من جامع وسبيل وكُتاب ويتميز جامعه بشكله المعلق حيث كان يشغل طابقه السفلي محلات تجارية يتم الانفاق من ريعها على صيانة الجامع ورعاية الفقراء ويتكون المسجد من بيت الصلاة وفناء مستطيل كان يتوسطه ميضأة قد محيت اثارها الان, والسبيل يتكون من صهريج ارضي لتخزين مياه الشرب التي كان يجلبها قديما السقا من نهر النيل ويعد هذا الصهريج من اكبر صهاريج مدينة القاهرة وهو يشبه الى حد كبير الصهريج الروماني الموجود في مدينة إسطنبول تحت الأرض الذي يقع بين مسجد اية صوفيا والمسجد الأزرق لكنه اصغر كثيرا من صهريج إسطنبول العملاق، والسبيل يقع في نهاية الواجهة الرئيسية للمباني حيث تم تزيينه بواجهة رخامية مقوسة فتحت بها أربعة شبابيك نحاسية كان يصعد اليها المارة لملء اواني الشرب من الاحواض الرخامية التي توجد بداخلها كما الحق بهذا السبيل سبيل اخر يطلق عليه سبيل المصاصة وهو عبارة عن لوح رخامي يتوسطه انبوبين نحاسيين وكان مخصصا لسقاية المارة وقد اختلف تنظيم ذلك الكتاب عن نظام الكتاتيب في العصرين المملوكي والعثماني حيث يقع الكتاب في اعلى السبيل وليس بجواره .
صهريج الماء العملاق الذي يقع تحت الأرض
المسجد من الداخل حيث ماتزال فوانين الإضاءة المعلقة اصلية منذ زمن بناء المسجد
احدى قاعات الدروس ماتزال على حالها كما كانت في الزمن السابق
لقد كان صديقي اللواء د. محمد عاصم شنشل خير رفيق وصديق حيث صبر على فضولي في التعرف على اثار مدينة القاهرة بمراحلها الفاطمية والايوبية والمملوكية وأجاب على الكثير من تساؤلاتي عن الحقب التاريخية والمتغيرات في فن العمارة.
رابط فيديو باب زويلة
https://youtu.be/Q_3DW004Etc
الى اللقاء في الحلقة الرابعة والأخيرة
الباحث
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/menouats/63767-2024-06-11-17-01-37.html
646 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع