رجال و أحداث - الشيخ ضاري المحمود
شهد العراق منذ بداية الاحتلال البريطاني للعراق اثناء الحرب العالمية الاولى مجابهات دموية واذا كانت راية المجاهدين العراقيين بزعامة السيد الحبوبي قد انكسرت في منطقة الشعيبة جنوب العراق فان فرسان زوبع اسهموا في معارك الكوت الضارية الى جانب الجيش العثماني..
حيث اسر الجنرال طاوزند مع عموم الجيش البريطاني الزاحف الى بغداد وقد نجا الكولونيل لجمن من الاسر مع الخيالة الانكليز قبل ساعات من استحكام الحصار على ما اشار اليه الفريق" السر ايلمر هويلدن" .
كان الفرات الاوسط تعيش حالة الغليان انذاك فجمع لجمن شيوخ عشائر لواء الدليم في الرمادي واولم لهم وليمة فاخرة تليق بهم وبعدما انتهوا خاطبهم لجمن قائلا( هناك اضطرابات في النجف وما حولها ونريد التعرف على ارائكم بشانها) . فبادره ضاري وهو ادنى الى ان يكون قد قطع كلام الحاكم : اهل النجف يريدون حكومة وطنية لعموم العراق يا صاحب ونحن نتفق معهم بذلك وليس في الامر مشكلة .
ورد عليه لجمن بصدر رحب : وانا ايضا اتفق معكم بهذا الخصوص واعطف على مطالبكم الوطنية هذه ولكن حكومة صاحب الجلالة في حيرة من امرها هل تجعل حكومة العراق شيعية .. او سنية؟.
فرده الشيخ ضاري بنبرة لا تخلو من ضيق : شيعة ..سنة ..ماكو بالعراق ..اكو اسلام عرب ياصاحب .
وكانت هذه الحادثة احدى العقد التي ترسبت في صدر لجمن ضد ضاري وأسرها له في نفسه وكان يطفح بها إناؤه بين حين واخر. كما اشترك في معركة اصطبلات على طريق سامراء اذ كان الشيخ ضاري معروفا بنزعته وميوله ومناوأته للانكليز سواءا كان ذلك في العهد العثماني ام في زمن الاحتلال كما انه لم يسبق ان تقرب الى الحكام السياسيين كما كان يتقرب اليهم غيره من الرؤساء والكبار. وكان لجمن يزور ضاري في مضيفه ويحرص على ان يسرد على مسامع الحاضرين قصص غزواته الموفقة في البادية وكيف كان يذبح المتمردين العرب بشراهة.
لم يقف الامر بين لجمن وزوبع عند حد العداء البارد فقد اصطدموا اصطداما ساخنا مرتين بعد الاحتلال. قال " السر أي .تي ولسن" عن زوبع في تلك الفترة ( ظلت زوبع برئاسة ضاري كثيرة الحرون لكنها في دور غير فعال) فيما قال الفريق "السر ايملر هولدين ": وثارت عشيرة زوبع في الرابع من آب .. انها عشيرة تسكن الفرات شمالا وافرادها كانوا يتململون وكانهم على ابواب ثورة. فقد كان الشيخ ضاري على إتصال دائم بمركزي ثورة العشرين في النجف وبغداد وكان يزوره جدوع أبو زيد رسول ثورة النجف وكان لجمن يتعمد إغاضة الشيخ ضاري في أول لقائهما في المخفر عندما حمل اليه نبأ مداهمة السلطة لبيوت زعماء الثورة في بغداد وهم يوسف السويدي وعلي آل بزركان ومحمد جعفر أبو التمن والشيخ أحمد الداود بل يمكن القول أن ضاري إعتبر نفسه حلقة في تلك السلسلة وأن لجمن جاء ليلحقه باصحابه اولئك.
ففي الحادي عشر من آب 1920 ذلك اليوم الذي كان قد مرّ على إعلان الثورة في الرميثة واحد واربعون يوماً مرّ الكولونيل لجمن حاكم لواء الدليم السياسي والعسكري قبيل الظهر بنقطة " ابو منيصير" في طريقه من الرمادي الى بغداد وعندما هرع لاستقباله ضابط الشرطة عبد الجبار الجسام طلب منه أن يبلغ الشيخ ضاري بالحضور الى النقطة لمواجهته صباح اليوم التالي.
وفي يوم 12 آب كانت السيارة( الهارفستر) تنهب الارض بلجمن وخادمه حسن وسائقه الهندي وهو في طريقه الى نقطة ابو منيصير لملاقاة الشيخ ضاري فربما هناك وربما لم يات فقد طلبه قبلها عدة مرات دون ان يلبي دعوته وهكذا فكر لجمن. وكان عبد الجبار الجسام قد بعث اثنين من الشبانة لتبليغ ضاري بوجوب حضوره الى المخفر لموافاة الحاكم لجمن .
في الوقت نفسه استدعى الشيخ ضاري رؤساء العشيرة ووجوهها يطلب منهم الراي هل يواجه الحاكم أم يعتذر عن المواجهة بمرضه ولم يكتم عنهم أنه يوجس خيفة من تلك المواجهة.
وأخير إستقر الراي على المقابلة وقد تقلد ضاري سيفه وغادر مضاربه مع ثلة من فرسان قبيلته وبعض أتباعه وخدمه يبلغون العشرين وقد وضعوا بنادقهم على أكتافهم وهم:
خميس وسليمان ولدا ضاري وصعب وصلبي المجباس وعفن بن حرج أولاد شقيق ضاري ومشوح الحامد وزمرة من العبيد منهم صلفيد بن سالم وخلف العنبر وعبد بن مسك .
وحينما وصلوا الخان وكان محروساً بأكثر من عشرين شخصاً من الشبانة وتوجهوا الى المخفر القريب من الخان ورافق سليمان والده بعد أن أودع بندقيته لدى أحد أقاربه فيما ظل محتفظاً بحزام الطلقات مع الخنجر ولم يكن لجمن آنذاك في المخفر فيما مكث الباقون بالخان ومقهى الخان بانتظار وصول لجمن الذي وصل الساعة الواحدة ظهراً وحينما شاهد ضاري بادره بالقول هل تعلم يا ضاري أن طريقكم هذه لم تعد آمنة وقد إضطررت أن أسلك طريق عكركوف من بغداد لاصل الى هنا . وعرف ضاري أن لجمن كان يعنيه هو بل أنه أراد فتح باب الحوار مع ضاري حول قضايا الثورة ومحاولة التاثير عليه وإستمالته . فيما ظلّ الشيخ صامتاً وأظهر عدم علمه بذلك بل أن ضاري كان يريد أن ينهي هذا اللقاء الذي صار ثقيلاً على خير. وهنا أهوى لجمن بيده على يد ضاري الذي كان جالساً على الدكة فاقامه من مكانه بعصبية وسار به الى إحدى الغرف وكان كلامه معه أشبه بالصراخ وقال له أنت عندك إغتشاش تريد أن تعمل ثورة ضد الحكومة فردّ الشيخ متوهم ياصاحب لست قوياً الى الحد الذي أستطيع معه أن أقوم بثورة ولست حكومة حتى أقدر أنهض بوجه الحكومة.
ودخلا الغرفة فيما كان صوت لجمن يصل الى أولاد ضاري وكأنه الدوي وقد بصق في وجه ضاري وسبه وسحب مسدسه وضربه برجله ثلاث مرات وضاري كان مريضا ويتوسل به الترحم ثم أخذه الى الغرفة وحبسه داخلها وأغلق عليه الباب..وكان سليمان قد إعتقد أن لجمن سوف يبطش بأبيه لامحالة وعزم على أن يفوّت على لجمن ذلك ، وإستطاع أن يخطف من أحد الحراس بندقيته وخرج داعيا جماعته للمجيء الى المخفر وحينما عاد الى المخفر شاهد والده يخرج من الغرفة ثائراً وخرج وراءه لجمن وحينما شاهد أولاد ضاري مسلحون حاول أن يحتمي بضاري فامطروه بثلاث طلقات أصابت رأسه وكتفه وظهره ثم تلتله ثلاث رصاصات أخرى ثم أجهز عليه ضاري بضربة شديدة على رأسه بالسيف.بعدها توجه الشيخ ضاري الى مركز السنية لتاديب جودة خميس مامور شعبة أبو غريب وسال عن حسن خادم لجمن وحينما وجده عاجله بطلقة من بندقيته.
بعد ثماني سنوات طويلة من الغربة والتشرد والقلق عقب مقتل القائد البريطاني لجمن وخادمه حسن وسائقه الهندي قرر الشيخ ضاري أن يغادر المكان المختفي فيه الى مكان آخر بحثا عن طبيب يعالجه من المرض الذي أصابه وأتعبه.
يروى أن تاجراً أرمنيا كان يتجول بين مضارب شمر في ذلك الوقت وأنه كان مالوفاً عندهم فكلفه الشيوخ أن يلتمس السيارة المطلوبة وما لبث هذا أن أرسل لهم سائقاً أرمنياً يدعى " ميكائيل كريم" . غير أن كريم هذا لم يشأ أن يتعامل مع الشيخ ضاري عن أجرة سيارته عندما قابله لاول مرة ويقال أنه بدا مسروراً لانه يقدم خدمة بسيطة الى شخص مثل الشيخ ضاري،وتحركت السيارة لوجهتها وكان الشيخ غارقاً في أفكاره عندما توقف السائق قرب إحدى الثنيات حيث يقف شخص تخيل الشيخ حينما وقع نظره عليه لأول مرة كأن الارض قد إنشقت عنه فجأة، وبعد حديث قصير بين السائق والرجل التفت ميكائيل الى الشيخ وقال له بتوسل : أنه منقطع يا محفوظ . فأجابه الشيخ بشهامة خذه ..خذه. لا يقطع الله الا بالقاطع.
ولم يكد الشيخ ينهي كلامه حتى كان الرجل الغريب قد استقر الى جانب السائق واستيقظ حذر البدوي الذي اعتاد على قطع الفيافي منفرداً عندما رأى الرجلين يألف بعضهما بعضاً وكأنهما على موعد ..لقد كانا على موعد فعلاً وقد تأكد له ذلك عندما حادت السيارة عن الطريق المعروف.ولم يعد لديه شك أنه وقع في أسر شرك خبيث نصب له وسكت على مضض .
يتحدث الشيخ سليمان الضاري عن الظروف قبل القاء القبض على والده فيقول ( قبل القبض على والدي زرت الشيخ مشعان الجربا في مضيفه وتربطنا به صلة القربى وأواصر الرحم فاخبرني ونحن نتجاذب أطراف الحديث أن طبيباً للعيون يزعم أنه مصري قد حلّ في نزلهم )
ويضيف الشيخ سليمان( وقد أخذتني الدهشة من ذلك لان النزل ليس بعيدا عن الحسكة وفيها الكثير من أطباء العيون والبدن. وساقني حب الاستطلاع الى زيارة ذلك الطبيب في عيادته التي لم تكن سوى خباء من شعر فوجدته يتزيا بزي البدو ويتكلم بلهجتهم ويصطنع عاداتهم فأمر خادمه بتقديم القهوة وإحتفى بي كثيراً . وبعد صدور العفو عني وعودتي الى العراق علمت من مصادر موثوقة ومطلعة أن ذلك الطبيب هو الذي دق المسمار في قضية القبض على والدي وأنه لم يكن سوى واحداً من الجواسيس الذين بثتهم بريطانيا لتعقبنا وأن التاجر الذي جاء بالسائق ميكائيل إعتذر وقال أنه لم يعلم بنوايا ميكائيل)
لقد وصفت طريقة القبض على الشيخ ضاري بأنها ( مخيفة وشاذة من شأنها أن تؤثر في نفسيته وتربك عقليته فقد قبض عليه فجاة ولم يشعر إلا وأنه أصبح في أيدي مأموري الحكومة المعقبة له بينما كان هو يقصد مكاناً آخر لأجل معالجة المرض الذي ألمّ به وإذا به ينتكس في الداء العياء. وفي هذه الحال المزعجة جىء به الى سنجار مشدوداً بوثاقه وحقق معه هناك عمانوئيل نمرود رسام والذي كان يرطن رطانة قبيحة وظل زمناً غير يسير تحت تأثير الأمطار والثلوج التي عمت منطقة سنجار في ذلك الشتاء بالذات حيث الطقس البارد في السيارة التي قبض عليه فيها.وبعد أن مكث الشيخ في سنجار بضعة أيام نقل الى الموصل في ظروف قاسية وعذاب اليم وهناك جرى تدوين أقواله بعد أن كتفوه وضربوه وفي كل دقيقة كانوا يهددونه بالقتل فاضطر لتقديم إفادته غير الحقيقية.ومن الموصل إنحدروا به الى بغداد وبقي فترة ثم إنتقلوا به الى الرمادي حيث تمتّ محاكمته أمام حاكمها عبد المجيد جميل الذي نظر بالدعوى بصفة حاكم إحالة لأن قضية مقتل لجمن ضمن منطقته القضائية . وفي سراي الرمادي شاهده محمد صالح آل جرجيس إمام جامع – القمرية- في منطقة الكرخ ببغداد وإبن عم ياسين قدوري المحامي الذي توجه الى الرمادي بعد ما شاع خبر وجود الشيخ ضاري موقوفاً فيه لأخذ إمضائه على توكيل المحامي ياسين قدوري للدفاع عنه فوجد الشيخ ظلاً فانياً شارد البال تائه النظرات لا يستطيع تركيز ذهنه على شيء الا بصعوبة بالغة وأن الموظفين الانكليز كانوا أشداء في معاملته ولكن الموظفين العراقيين كانوا يعطفون عليه دون أن يستطيع الانتفاع بعطفهم في قضيته التي إحالها القاضي عبد المجيد جميل الى محكمة الجزاء الكبرى في بغداد.
وحينما دخل الشيخ ضاري المحكمة كان شيخاً طاعناً في السن وقد ركبته الامراض والعلل وعانى من آلامها المبرحة بعد أن طاف مئات الأميال في وسائط نقل متخلفة على طرق شديدة الوعورة وما صحب ذلك من إستجواب وتعذيب نفسي وإرهاق جسمي ومع ذلك إستمرت المحكمة في إجراءاتها.
لقد بدا في قفص الاتهام شارد الذهن ذاهلاً كأن الأمر لم يعد يعينه في شيء , هيئة القضاة والاتهام والدفاع والصحافة والمتفرجون والحفظة كل أولئك لهم عمل ما في القضية وهو المتفرج الوحيد الذي ليس له عمل في القاعة لقد ضاق ذرعاً بكل ما يدور حوله جسده الواهي لا يكاد يمسك بعضه حتى جلسته تلك التي أذن له بها القاضي بالجلوس ليتهم ينهون هذه المهزلة على أي وجه فقد كان بحاجة ماسة الى الراحة على الفراش أو على حبل الشنقة. المهم أن يتخلص من وجع الرأس هذا ومن كل الألم الذي يعصر أمعاءه المريضة وهذا اللغو الذي يسمعه ..ماذا يمكن أن يفعلوا به لو إعترف بما تم حقيقة .. الاعدام ؟ يمكن أنه لم يعد يكترث حتى للمشنقة التي لن تجد فيه فضلة حتى تقدر على القيام بواجبها معه .
في بغداد تخيله البعض ومنهم القاضي أنه سيقع بصره على جبار من جبابرة الصحراء قد أتاه الله قوة في الجسم ومتانة في العضل ووهبه شراسة الطباع وفتك الوحوش الكاسرة وخاصة وأن إسمه ضاري حيث دوى إسمه في طول البلاد وعرضها وكان شغل الشعب والحكومة الشاغل إلا أن القاضي كانت دهشته كبيرة عندما رأى الشيخ ضاري وهو يدخل الى قاعة المحكمة ضئيلاً كبيراً في السن صغير الجثة ضعيف البنية فقير الدم باهت اللون ولولا بؤبؤه الاسود الذي يشع منه نور حاد لظنه جثة هامدة.وقال له : إحك لنا ياضاري ما عندك. فأجابه ضاري : قوة ما عندي حتى أقوم أحكي أنا ميت . فرد القاضي تقدم الى هنا وأبق جالساً وتكلم. فتقدم الشيخ ضاري وهو لم يزل جالساً في القفص ومتوكئاً على خشبة الحاجز وأخذ يتكلم بصوت خافت متقطع وأثناء حواره مع هيئة المحكمة أتى على وصف مقابلته العاصفة مع لجمن في مركز نقطة أبو منيصير بجانب الخان المعروف بخان ضاري وإعتداء لجمن عليه باليد واللسان فقال قلت له دخيل أرجوك .. ترحم عاليّ يا صاحب والصاحب ما كان يرضى . وسكت الشيخ ليستعيد قواه الواهنة ويلتقط أنفاسه المبهورة . لقد تخيل القاضي أن الشيخ ضاري سوف يقول له بعدها وعند ذلك لم أستطع الصبر أكثر مما صبرت فأوعزت الى نفر من رجالي باطلاق النار عليه من بنادقهم ثم أجهزت عليه بسيفي .لكن الشيخ أخذ يحدق في كفه دون أن ينبس ببنت شفة لقد أجهز بيمينه هذه على لجمن بسيف يفل الحديد هذه اليد التي أتعبتها الاغلال والاصفاد . فقال له القاضي بلهفة وبعد ذلك ما الذي جرى ؟ تكلم. فرد الشيخ إصبروا عليّ حتى أتكلم ما عندي قوة للكلام. وأكد الشيخ ضاري أن مقتل لجمن قد جرى نتيجة رد فعل آني إنتاب إبنه سليمان وإبن أخيه بعد أن رأوا لجمن يهين كبيرهم وقال الشيخ ضاري إنهم رأوني محبوساً وهم جهال ويمكن حدث بينهم وبين الكولونيل شيء فقتلوه وصار ما صار . ويقول سليمان الذي إنطلقت الرصاصة الاولى التي أصابت لجمن من بندقيته وكان وقتها في السابعة عشرة من عمره أن لجمن لم يفه بكلمة واحدة فقد كانت إصابته قاتلة منذ الوهلة الاولى وحينا سأل القاضي عن سبب القتل قال الشيخ السبب إذا كان هناك سبب فهذا هو السبب الكولونيل سبني وبصق في وجهي ودفرني وأشهر عليّ المسدس ولا أدري بعد .
وحينا سأله أحد القضاة لماذا هربت الى الخارج وسافرت الى ماردين في تركيا ؟ أجاب الشيخ : خفت من سطوة الحكومة لأنني بعد هذا صرت من أفراد الناس بينما كان كلامي مسموعاً تحت ظل الحكومة .
أما مركز الشبانة فقد كان عدد أفراده من الشرطة عشرين فرداً إستطاع أتباع الشيخ ضاري من تجريدهم من بنادقهم وخيولهم دون أن تمتد يد الى ممتلكاتهم الخاصة لأن تلك العدد العسكرية العائدة للسلطة صارت حقاً طبيعياً للعشيرة التي أعلنت الثورة منذ تلك الساعة – غنيمة حرب- وقد تركوا أفراد الشبانة لشانهم بعد أن أمنّوا على أنفسهم ولا سيما أنهم لم يبدوا رغبة في المقاومة ويمكن القول أن الشيخ ضاري قد ساعدهم مساعدة فعالة عندما أنقذهم من الذي كان من الممكن أن يسبب لهم متاعب جمة مع السلطة .
يقول ضابط الشرطة عبد الجبار عباس الجسام (ثم التفت الى جنودي واستوضحت منهم عما إذا كانوا يرغبون في الذهاب معي الى الجهة التي أقصدها أم أنهم يريدون أن يسلكوا الطريق العام المؤدي الى الفوجة فاظهروا رغبتهم في الشق الثاني بعد أن إطمانوا من نوايا الشيخ خميس الضاري نحوهم وبعد أن عرفوا كافة مواقفه الطيبة التي وقفها في هذه المناسبات ).
لقد امر فعلا بقتل لجمن ذات يوم وكان امره جازما ولكن ساعة المنحوس لم تكن قد حانت بعد فلجمن لم يحضر الى حيث كانت تنتظره زمرة الموت التي توقعت ان تجده. وعادت خائبة وهي تطلب العذر من الشيخ وقالت له( لم يحضر الى ديرة الحمام ولم يكن بايدينا ما نفعله لقد انتظرناه حتى يئسنا من حضوره والعذر لله ولك) والغريب انهم لم يجمعوا امرهم على قتله في اليوم الذي قتل فيه كان مترددا في ذلك اليوم . امر الشيخ ثم سحب امره ثم ترك الامر لظروفه وقد قضت الظروف بقتله. والقى الشيخ نظرة ارتياح على جثة الحاكم المستهتر بكرامة الرجال فاحس بالراحة حيث كانت الجثة ممدة في الهليز الذي يصل من باب القلعة الصغيرة الى باحتها الداخلية وفي هذه الباحة حيث جفلت خيول مركز الشبانة لحظة دوي العيارات النارية وامتطى ضاري صهوة جواده الى قرية السنية لغرض السيطرة عليها حيث كانت عشيرته متحفزة لثورة العشرين ولكنه كان يكبح من جماحها لانه يعلم ان لجمن عدوها اللدود لن يبقى فيها نفاخ نار اذا فشلت الثورة وبالاحرى فان الثورة تكون صعبة جدا ما دام لجمن يحكم الصحراء وقال الشيخ ضاري لمن حوله وهو يرى – حربية – زوبع وتوابعها تصول وتجول في المنطقة المحصورة بين بغداد والفلوجة والكاظمية وسكة حديد سامراء. ( والله يالربع قتلة لجمن صارت خير)
اذ كانت زوبع تقطع سكة الحديد بين بغداد وسامراء وتخرب الجسور وتصيب الطائرة وتاسر الطيار ثم تعيده والكشاف الذي معه الى احد معتمدي السلطة من البدو والطائرات تهدم الديار وتحرق الزرع وتقتل الضرع والثورة مشتعلة الاوار وقد احب الثوار نارها المتاججة مثلما يحبون نار الشتاء في ليالي السهوب القاسية وهكذا فكر ضاري بنقل عملياته العسكرية الى قلب بغداد حتى انهم اخلوا له خان الكعبولي في الكاظمية ليتخذه مقرا لعملياته الثورية ولكن ذلك لم يتم لسبب ما زال مجهولا.
قبل ثمان سنوات ذهب الشيخ ضاري الى كربلاء ليلتقي بزعماء الثورة وكان محسن ابو طبيخ قد انتدب ليكون اول متصرف للحكومة العربية على لواء كربلاء الذي حررته الثورة ويومها اختفلوا برفع اول علم عربي على لمدينة المقدسة . وبينما كان الشيخ ضاري جالسا في خيمة المتصرف دخل الشيخ مرزوك العواد رئيس عشيرة العوابد فما ان وقع بصره على ضاري حتى انكب على يده يريد تقبيلها .. سحب الشيخ ضاري يده وهو محرج واخذ يتمتم بكلمات الاستغفار فقال له الشيخ مرزوك باستنكار . هل تريد هجمان بيتي؟ واستفسر منه ضاري قائلا وما علاقة تقبيل يدي بهجمان بيتك؟ فرد الشيخ مرزوك لقد اقسمت بالطلاق والعتاق ان اقبل اليد التي صرعت لجمن فامدد يدك ولكن ضاري رفض مد يده وعند ذلك التفت الشيخ مرزوك العواد الى الحاضرين وقال : اذن فامراتي طالق وهي ام لاطفال واثمها في رقبتك وسيكون الحاضرون شهودا على هذا الطلاق . وهنا لم يملك ضاري الا ان يمد يده فقبلها الشيخ الشهم.
في جلسة المرافعة الاخيرة التي عقدت يوم 30 كانون الثاني 1928 وهي الجلسة الاخيرة حيث اوتي بالشيخ ضاري بسيارة السجون الى المحكمة وحمل على الاكتاف من باب المحكمة الى غرفة المتهمين وذلك لان قواه قد خارت واشتد به المرض التي اخذت فيها افادة المتهم واستمعت المحكمة الى مطالعة هيئة الدفاع .
وقبل ان تعقد الجلسة طلب محامو الدفاع تاجيل المحاكمة واحالة المتهم الى المستشفى لانه ظاهر الوهن ولا يقوى على الاستمرار في المرافعة ولا سيما ان المواد القانونية تقضي ان يكون المتهم عند المرافعة في حالة صحية يستطيع فيها الدفاع عن نفسه وتمنع محاكمة المريض خاصة وقد ثبت ان الشيخ كان مبتلى بمرض شديد الوطأة لا يستطيع معه الدفاع عن نفسه ومساعدة المحكمة في ايصالها الى الحقيقة فلذلك استغرب الراي العام محاكمة الشيخ ضاري وهو في حالته المعلومة.
وقد طلبت المحكمة من الدكتور دنلوب وهو طبيب انكليزي معاينة المتهم وتقرير درجة تحمله على الاستمرار في المحاكمة وبعد ان اجرى الطبيب الكشف المطلوب تاكد لديه ان المتهم على حالة صحية تسمح معها الاستمرار في المحاكمة . وهنا من الطبيعي ان تاخذ المحكمة باقوال الطبيب الشرعب وهكذا واصلت عملها.
جريدة الاستقلال قالت في حينه ان محاكمته كانت تجري برغم الحاح محاميه على ارساله الى المستشفى والاعتناء بصحته غير ان السقم اضنى جسده في اخر ايامه وكان منظره في المرافعة الاخيرة التي نطقت فيها المحكمة الكبرى حكمها مؤلما للغاية حيث انه كان في درجة لا يستطيع فيها الجلوس في قفص الاتهام ولا ان يرفع راسه.
في تلك اللحظة كان سكان بغداد كلهم بمثابة رهطه وعشيرته الاقربين . لقد ابدى العشرات من الشباب الاستعداد للمجازفة بحياتهم لانقاذ حياته ووضعت الخطط التي لابد ان تكلف دماءا غزيرة للحيلولة دون اعدامه . وكان الناس يتنسمون اخباره بين دقيقة واخرى والذين اسعفهم الحظ يتذكرون بفخر انهم كحلوا عيونهم برؤوية الشيخ اثناء محاكمته او وهو في طريقه الى المحكمة او في العودة منها.
ساله رئيس المحكمة عن رايه بشهادات شهود الاثبات التي ادلوا بها ضده فاجاب الشيخ ضاري متبرما : كيف تقبل المحكمة شهاداتهم ؟ الواحد يقول لابس سيف والاخر يقول خيال ابيض والثالث يقول اسود ..انا اليوم مريض ورايح اموت ولا اعتقد اطوّل شهر واموت.افعلوا ما شئتم ولن ابالي بما تصنعون .
لقد شعر الشيخ ضاري انذاك بتعب رهيب وانه وصل الى الحد الذي تستوي فيه النهايات. كان ذلك في نهاية الجلسة الختامية اما في بدايتها فقد كان يقظا حذرا في نقاشه مع هيئة المحكمة حيث بدّل امامها بعض افادته التي سبق ان ادلى بها امام المحقق في سنجار والموصل واعتذر باعذار مقبولة عن سبب هذا التغيير وحرص على الدفاع عن نفسه بدقة ووضوح واجاب المحكمة عن كل سؤال وجهته اليه.
وعلى اية حال فبعد ظهر يوم 31 كانون الثاني 1928 صدر الحكم على الشيخ ضاري بالاعدام شنقا حتى الموت وقررت المحكمة بالاكثرية تبديل عقوبة الاعدام بالاشغال الشاقة المؤبدة إعتبارا من تاريخ توقيفه في 3 تشرين الثاني 1927 وذلك للاسباب التالية:
اولا ان المحكوم عليه طاعن في السن وثانيا تغيبه عن محله ثماني سنوات وبقائه مضطربا هذه المدة واعتلال صحته وابتلائه بمرض شديد لحقه .كما قررت المحكمة باتفاق الاراء الحكم عليه ايضا بالاشغال الشاقة المؤبدة على ان تنفذ العقوبتان بالتداخل.
وسيق الشيخ الى السجن بعد ظهر يوم 30 كانون الثاني 1928 ولكنهم ما لبثوا ان عدلوا عن ذلك وعادوا به الى مستشفى السجن .
وتذكر جريدة العراق انهم شرعوا بمعالجته فورا وجعلوا له مسجونين من الزوبع خدما له فاخذ هؤلاء الخدم يخدمونه احسن خدمة ويحيطونه بكل اهتمامهم وعنايتهم ولكن المرض ما زال يشتد به ويهد بنيان قواه حتى تركه قاعا صفصفا.
يقول ولده الشيخ سليمان نقلا عن الزوبعيين المساجين الذين كانوا في خدمة والده انه بعد ان عدت من المنفى الى العراق علمت ان الزوبعي الذي تبرع لخدمة والدي في مستشفى السجن هو علي بن شكير فقد نفسه لوالدي فعرفه واذن بخدمته .
ويضيف الشيخ سليمان وسمعت عن علي بن شكير هذا الذي قد توفى قبل عودتي الى العراق ان والدي دخل المستشفى اول ما دخلها على نقالة وكان صاحيا تماما فاستقبله الدكتور دنلوب وطلب منه ان يسمح له بمعالجته وذلك باعطائه حقنة ولكن الشيخ ضاري نهره ورده ردا قبيحا الا ان الطبيب تشبث بموقفه ولم يفارقه حتى اعطاه الحقنة التي كان قد اعدها بيده ولم يلبث السجين ان دخل في غيبوبة عميقة لم يستعد بعدها وعيه حتى استوفى اجله.وعندما غابت شمس يوم 31 كانون الثاني 1928 بدات امارات الموت ترتسم على محياه .
تقول جريدة الاستقلال ان دائرة السجون ابلغت زوجة الشيخ الضاري التي كانت في بغداد ان تشهد احتضاره . وفي الساعات الاولى من صباح الاول من شباط كان المحتضر يتمتم عبارات وهو منبسط الاسارير قائلا اهلا اهل اني حاضر خذوا امانتكم ثم خرجت الروح من جسد الشيخ الجليل في الساعة السابعة والنصف صاعدة الى بارئها راضية مرضية
اما جريدة العراق فقالت ( ان الحصان الحرون افسد على المحكمة عقوبتها حيث لم يقض في السجن من اربعين السنة التي قضت عليه بها غير اربعين ساعة او اقل من ذلك بساعات . واضافت اما الدكتور دنلوب الذي اجرى الكشف على المتهم المريض قبل يوم ونصف من وفاته وقرر إستمرار المحاكمة وكان احد اربعة اطباء اشرفوا على تشريح الجثة لابد انه ادرك مقدار خطئه عندما عاين فيها فوجد في الرئة اليسرى تحتوي على كهف واسع ناشيء عن تدرن مع التصلبات وعضلة القلب باهتة اللون ورخوة وكان يوجد فيه شحم اكثر مما هو في الحالة الطبيعية وكان يوجد في الابهر علائم التصلب الشرياني والقولون يحتوي على قروح ناشئة عن الديزانتري .
في ذلك اليوم استيقظت بغداد على النبأ الجلل والمصاب الاليم ..مات الشيخ ضاري وغاصت بغداد في بحر لجي عاصف الموج مزبد الجنبات وتكاثر الزحام حول ابواب السجن والمستشفى وقد سبق محامو الفقيد الناس الى السجن وطلبوا تسليم جثته الى زوجته التي تعهدت بالقيام بواجباته فاجيبوا بان الجثة ستصل الى زوجته بعد ان ترسل الى المستشفى لاعطاء التقرير النهائي بشانها وفي تلك الفترة ازدحم الناس على باب السجن وارادوا حمل الجثة على الاكتاف غير انهم وعدوا بنوال مرادهم بعد الفحص الطبي على الجثة. وحضرت سيارة خاصة على الفور وحملت الجثة الى المستشفى فتبعها الناس وقد ظلت الجثة مطروحة في محل المعاينة حتى الساعة السادسة وبعد مراجعات عدة وحاورات بين اطباء المستشفى ومحامي المتهم تبين ان مخابرة دارت بين ادارة المستشفى والمراجع المختصة بضبط الامن العام حول تسليم الجثة او عدم تسليمها كما حضرت سيارة اخرى تقل مدير شرطة بغداد حسام الدين جمعة الذي بلغ بعدم بتسليم الجثة الى زوجة الشيخ في المستشفى وانما تنقل بسيارة خاصة الى مرقد الشيخ معروف وهو المرقد الذي حفر فيه قبر الفقيد حفظا للنظام العام.عند ذلك التمس محامو الفقيد من مدير الشرطة ان يؤخر حمل الجثة في السيارة ريثما يراجعوا متصرف لواء بغداد لان ابناء الشعب مصممون على التبرك بحمل جثته على الاكتاف وبعد ان غادر المحامون متوجهين الى المتصرفية نفذت الشرطة التعليمات الصادرة اليها بشان نقل جثة الشيخ بالسيارة الا ان المجتمعين هناك في ذلك الوقت هجموا واختطفوا الجثة وساروا بها في الشارع العام بموكب رهيب ومهيب وكلما سار الموكب الى الامام انضمت اليه جماعات اخرى تتابع من الكرخ ومن محلات الرصافة وسار النعش بين الهوسات (هز لندن ضاري وبجاها) وبين زغاريد النسوة والهتاف الذي بلغ عنان السماء من باب المعظم الى جسر الاحرار- مود سلبقا- ومنه الى جانب الكرخ حيث مر من امام دار الاعتماد البريطاني ومن هناك اتجه الى الكرخ حيث الساحة التي تعرف بساحة الشهداء فدار زوجة المتوفي ومنها حمل الى المقبرة .
مهما كانت الاسباب والدوافع التي حركت رؤوساء عشائر الجنوب وافراد قبيلة كل منهم للمشاركة في ثورة العشرين العراقية ،فأن الدافعين الاساسيين لاشتراك الشيخ ضاري الزوبعي وافراد عشيرته هو ما كان يتحلى به من نخوة عربية اولا .واستجابته او اذعانه وطاعته للمرجعية الشيعية في النجف ، عندما تكون المرجعية وطنية ، وملتزمة فعلا باساسيات الاسلام . كما عبر الشيخ ضاري بصراحة عن ذلك امام القائد البريطاني لجمن ، الذي اراد ان يلعب على وتر الطائفية ليمنع عشائر الدليم من المشاركة في ثورة العشرين فخاطبهم : " ان الحكومة البريطانية حائرة في امركم لاتدري هل تشكل حكومة شيعية او سنية . رد عليه الشيخ ضاري بان العراق ليس فيه شيعة او سنة بل فيه علماء اعلام نرجع اليهم في امور ديننا . فقال لجمن : انتم عشائر والاجدر بكم ان تكونوا مستقلين .فرد عليه الشيخ ضاري :ان علماءنا حكومتنا وقد امرنا القرأن باطاعة الله ورسوله وآولي الامرمنا ،فاذا اعتديتم عليهم فأننا سننتصر لهم ، ونحاربكم بجانبهم، والاولى ان تلبوا ما ارادوا ."( علي الوردي ، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ج 5 ، القسم الثاني ، ص :68 )
787 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع