ايام مقهى الزهاوي....
يقولون العراق مهد الشعراء و ملاذهم.
و له يدين الادباء العرب بميلاد الشعر الحديث الذي شاع على السنة بدر شاكر السياب و نازك الملائكة و عبد الوهاب البياتي. بيد ان هذه الاسماء مثلت الجيل الثاني من شعراء العراق في العصر الحديث . سبقهم فحول اوائل، الزهاوي و الرصافي و الشبيبي و كانت بينهم صولات و جولات كما يذكر الكاتب.
نحن نعرف جميل صدقي الزهاوي كشاعر مبدع و نعرفه كفيلسوف و كعالم و كمفكر. و لكن قلما يعرفه احد كظريف منكت و حكواتي، قصخون. له حكايات و طرائف كثيرة شهدها المقهى المعروف بأسمه، مقهى الزهاوي في شارع السراي المتفرع من شارع الرشيد. لم يكن هذا المقهى الشعبي يعرف بهذا الاسم، و انما باسم قهوة امين، بإسم صاحبها.
دعاه يوما نوري السعيد للالتقاء به. لم تكن هناك نواد او فنادق محترمة فسأله الزهاوي ، وين نلتقي. قال له رئيس الوزراء في قهوة امين. التقيا هناك . رئيس الحكومة و الشاعر الفيلسوف.
ليس فيها من متاع الدنيا غير بضعة مصطبات و كراسي قديمة و فونوغراف ابوالزمبرك.تصوروا رئيس الحكومة ،الجبار نوري السعيد، يجتمع في مثل هذه المقهى.
مع ذلك اعجب الزهاوي بها فاتخذها مقاما له. و سرعان ما تحولت الى وكر للادباء و المفكرين. كان بينهم الرصافي. و كما ذكرت في مناسبة سابقة كان بينهما ما صنع الحداد. و إن كنت لا ادري ماذا صنع الحداد. انطلق الرصافي في انشاد قصيدة طويلة فأخذ الزهاوي يتضايق منها و من صاحبها. جلس يتربص لفكرة يعمل فيها مقلبا عليه. حتى ظهر صبي يبيع الحب. فقاطع الزهاوي زميله الرصافي متوجها الى بياع الحب."يا ولد عندك قميص شبابي على كدي؟" استغرق الحاضرون بالضحك. و ضاعت القصيدة على الرصافي فخرج غاضبا و لم يعد الى ذلك المقهى ابدا. و عندئذ تربع الزهاوي في جلسته وقد نصب من نفسه اميرا على المقهى.
ذهب الرصافي، واذا بمحله يأخذه شاعر نابغ آخر تعرفونه : محمد مهدي الجواهري. انطلق الجواهري يتلو شيئا من شعره هو الآخر حتى قاطعه الفيلسوف. " افندم تتراهن؟" استغرب الشاعر الشاب . كان عمره سبعا و عشرين سنة، استغرب من هذا السوآل. أعاد الكرة :" نتراهن على أي شيء استاذ؟" قال على ان اقطع نفسي و انت تقطع نفسك، و خلي نشوف منو يخلص نفسه بالأول!
كان لعبة مما يلهو به الاطفال ، و لكن الجواهري الشاب لم يشأ ان يعترض على سيده وهو في السبعين. فمسك نفسه. و فعل مثله الزهاوي. بعد برهة من الوقت استسلم الجواهري. " يا استاذنا كفاية!" فكسب الزهاوي الرهان و حق على الجواهري ان يدفع عنه اجرة المقهى : آنة.
يقول المثل الشائع بيننا : ديكين على مزبلة واحدة ما يعيشون. كان الافضل لصاحب المثل ان يقول شاعران في مقهى واحدة لا يعيشان.
بيد ان الزهاوي لم يكن بخيلا في الواقع ، او حريصا على الآنة، اجرة المقهى. بل كان المعتاد له عندما يهم بالانصراف ان ينادي على الخادم و يدفع على الجالسين ممن يحبهم و يستثني من الدفع من لا يحبهم ، او من اغضبوه و عاكسوه في جلسة ذلك اليوم. لا. هذا اخذ حسابك منه! يقول للخادم و يشير بأصابعه الى من اغضبه.
هكذا كان مقهى الزهاوي ، واحة من واحات الفكر و الادب ارتبط باسماء مشاهير تلك الحقبة. يوسف عز الدين، عبد الرزاق الهلالي، ماهر حسن فهمي، عبد الحميد الرشودي. انضم اليهم عبد القادر المميز صاحب جريدة ابو حمد. فاستقبله الزهاوي بهذين البيتين:
قد جاءنا ابوحمد – يمشـي كمشـية الاســد
قد طابت القهوة لي – صب يا ولد!صب يا ولد!
و هناك كان ينفث افكاره الفلسفية في شتى العلوم.، الداروينية و اصل الانسان، و جاذبية الارض و نحو ذلك. فيما كان يوما محلقا بأفكاره هذه ، اقتحم المقهى رجل يتطاير الغضب من عينيه ، و توجه فورا الى الزهاوي. كلب ! كافر! زنديق! تنكر خلقة الخالق؟ تقول اصل الانسان قرد! آني ابويه قرد؟!
مسك به الزهاوي و قال له : لا، ابني. انا ما قلت ابوك انت كان قرد. حاشا. انا قلت ، ثم كشف الشاعر عن رأسه الاصلع و وجهه المكرمش و اسنانه المنخورة ، و مسك ذقنه بيده و قال: انا قلت ، آني ابويه كان قرد!
ضج الجالسون بالضحك في ذلك اليوم من ايام الخير ، يوم طاب الحديث حرا دافئا في مقاهي بغداد و مجالسها. مجالس الخير في ايام الخير ، اللي فاتت و راحت وياهم مع الأسف.
المصدر:اذاعة العراق الحر
1102 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع