بـنـت النـاس ... قصة قصيرة بقلم/ جَلال چَرمگا
المكان: بغداد
الزمان: بداية الخمسينيات
في كل مرة يسهر فيها " حمودي "مع " زنوبة "يقسم ان لا يفرط بالشرب معها لأن ذلك يسبب له كثيرا من الاشكالات والاحراج .. ففي الاسبوع الماضي كالعادة قد اكثر من الشرب بحيث لايتذكر ما عمله .. بالتأكيد لقد اصبح يتكلم أكثر من اللازم بل لقد تجاوز كل حدود الادب مع الحبيبة الغالية التي لا تملك غير الله والعزيز حمودي !!.. كلما يتذكر تلك الليلة يشعر بالحزن والالم .. بل والخجل على فعلته..
و ..مرت كل تلك الاحداث في تلك الليلة المشؤومة كالشريط السينمائي امامه .. يأخذ نفساً طويلاً من ( نارگيلته ) التي جددها للمرة الثالثة .. حتى صاحب المقهى بات مستغرباً من هذا الافراط في التدخين .. ها هو يسحب نفسا طويلاً دون ان يخرج شيئاً من الدخان .. ويقول مع نفسه :-
- لقد قسوت عليها كثيراً .. أعتذر يا زنوبة .. يأ أغلى الناس .. كسرت يداي .. كيف أتجرأ ان اضربك .؟ أقسو عليك ؟ فعلاً أنني لا أستاهلك .. لا أعلم ماالذي يعجبك من ( حمودي) المستهتر البائس .. لماذا لاتختارين حبيباً هادئاً مؤدباً .. مخلصا لك ..؟؟ هل تستحقين كل ذلك العذاب على يدي يا أغلى الناس ..؟ هذه المرة سأتصرف بكل أدب .. سأحترمها .. سأعتذر منها .. أنها صاحبة قلب طيب ستسامحني حتماً .. أجل ستسامحني ..
يبدو أنها ليست المرة الاولى التي يتصرف بها حمودي العاطل عن العمل هكذا مع حبيبته ( زنوبة ) التي تعمل في احدى دور (الغانيات) في منطقة الميدان .. زنوبة تعمل عند ( الخالة عرموطة ) منذ أكثر من ثلاث سنوات .. حيث لا أهل لها .. أنها هربت من زوجة ابيها التي كانت تعاملها بسوء ومنذ يوم خروجها أصبحت لا تعرف شيئاً عنهم .
وعلاقة ( حمودي ) بـ ( زنوبة ) علاقة تمتد الى اليوم الاول من عملها المشؤوم مع الخالة ( عرموطة ) .. حيث شاء القدر ان يكون اول الزبائن الذي دخل عليها !!! رآها خجولة ... مترددة .. محترمة !!
- ما أسمك ..؟
- ماذا تريد من اسمي ..؟
- لاشئ .. لا شئ .. كل الذي اريد ان اقوله ان مكانك ليس هنا .. فأنت يا ( بنت الناس ) بنت طيبة ... و ..جميلة .
كانت تلك الكلمات كافية ليدخل ( حمودي ) الى قلب ( زنوبة ) ومنذ اللحظة الاولى .. انتهى كل شئ .. و ( زنوبة ) تنتظر ترى متى يعود صاحب الكلمات الحلوة .. الشاب الوسيم .. الحنين .. مع الاسف كان على الاقل تسأله عن أسمه !!!
لا بد ان يعود .. أجل سوف يعود .. أن الخالة ( عرموطة ) تعرف مواعيده !!..
و(الخالة عرموطة) صاحبة الدار كانت ذات جسد ممتلئ وقد زينت يداها بالأساور الذهبية مع وجود اكثر من سن ذهب في فمها الذي نادراً ما يخلو من سيكارة .. كانت تضع كرسياً مصنوعاً من الخيزران عند عتبة الباب .. تضحك من كل قلبها عندما يكون الرزق على مايرام !! تراها لا تطاق عندما يكون عكس ذلك ..
الحالة الاخيرة تحدث في الايام الاخيرة من نهاية الشهر .. لان أكثرية المترددين على مثل هذه البيوت من اصحاب المعاشات الشهرية !!! كانت لـ ( زنوبة ) مكانة خاصة عند ( الخالة عرموطة ) لا كثر من سبب اهمها :-
جمالها وهدؤها .. ولكن في الاونة الاخيرة كان الشئ الذي يزعجها وجود
شخص( حمودي ) في حياة ( زنوبة ) .. كانت تقول لها :-
- يابنيتي .. يا زنوبة .. أخشى ان تغضبي مني .. أن صاحبك ( حمودي ) لا يعجبني .. ولا يستاهلك .. هل تعلمين ان الليلة الماضية .....!!؟؟..
كانت زنوبة لا تعطي المجال لـ ( خالتها عرموطة ) ان تكمل كلامها .. كانت ترد عليها بسرعة :-
أعلم يا خالة .. انه شرير .. يؤذيني .. يسبب لي المشاكل .. ولكن ما حيلتي .. أحبه .. من كل قلبي احبه .. الم تجربي الحب ..؟ أحس بأن الدنيا تخلو من كل الرجال عدا حمودي .. انه رجل ونعم الرجال .. كل الرجال الذين يدخلون علىَّ لا أحسب لهم حساباً ..لقد أصبح حمودي .. الزوج .. الاب .. الاخ .. بالرغم من كل مشاكله أحس بأنه يودني من كل قلبه .. يغار علي .. لقد كانت سبب مشاكل ليلة امس ( عضة ) على جسمي طبعها احد الزبائن الذين ( لا يخافون الله ) .
يبدو ان هذا النوع من الحوار كان يتكرر اسبوعياً وبعد مغادرة ( حمودي ) بيت ( الخالة عرموطة ) وانتهاء سهرته مع ( زنوبة ) كانت للاخيرة اكثر من مشروع في رأسها .. اهمها فك ديون ( الخالة عرموطة ) التي ربطتها بعدة ( كمبيالات )* عند المحاكم عليها ان تدفع خمسة الاف دينار الى تلك الخالة الجشعة التي لا تعرف الانسانية .. لقد كان المبلغ ثلاثة اضعاف المبلغ المتبقي لم يبقى الا المبلغ الاخير وحينها ستصبح حرة طليقة تستطيع ان تتصرف مثلما تريد .. ستتفرغ للحبيب الغالي حمودي .. والا طالما هي ( مديونة ) لا تستطيع مغادرة بيت عرموطة!!! .
اليوم هو الخميس .. هذه الليلة هي ليلة من العمر .. قرر حمودي وعاهد نفسه ان يتصرف بكل ادب وأحترام ..
لقد كانت مفاجأة حينما علم بأن زنوبة مريضة جداً وانها لم تغادر الفراش منذ يومين !! حينها ركض حمودي وجلب ( عربانة ) من الشارع العام وحمل زنوبة اليها ونقلها الى عيادة الدكتور الذي طمأنهم ووصف لها مجموعة من الادوية .. لقد ظل حمودي بجوارها الى ان عادت اليها العافية !! بهذا العمل أزداد حب حمودي عند زنوبة اضعاف اضعاف الايام السابقة وباتت تتباهى عند صديقاتها وتتذكره بكل فخر وأعتزاز ...
هذه المناسبة والحب المتزايد بحاجة الى احتفال وسهر حتى الصباح .. هاهي زنوبة تحمل ( بقجتها ) و تذهب الى الحمام العام منذ الصباح .. ترتدي اجمل الملابس وتتعطر بأزكى انواع العطور وتوصي ( الشغالة ) بأن تهيئ اجود انواع الطعام والشراب للاحتفال بقدوم حبيب العمر حمودي الشهم الذي اصبح على لسان كل اللواتي يعملن مع زنوبة وحتى الاخريات البعيدات في احياء أخرى كن يتحدثن عن ذلك الحب القوي بين حمودي وزنوبة .
وبالمقابل لقد تهيأ حمودي هو الاخر لهذا اللقاء غير الاعتيادي .. بعد ان انتهى من حلاقة الرأس ذهب الى الحمام وأرتدى اجمل ما عنده من الملابس البغدادية الجميلة .. ووضع ( العرقجين ) الابيض على رأسه ووضع ( الچراوية ) على كتفه الايسر .. وأتجه الى منطقة ( الميدان ) حيث تسكن الحبيبة الغالية ( زنوبة ) كان حمودي فرحاً جداً بهذا اليوم وكأنه اليوم الذي يزف الى الحبيبة زنوبة وتصبح زوجته الى الابد وليست عبارة عن سهرة اعتيادية !!..
استقبل حمودي منذ ان وضع قدمه على عتبة الباب بالزغاريد .. وكانت في مقدمة المستقبلات ( زنوبة ) بملابسها الملونة .. وشعرها الاسود الجميل حيث ( الجدايل ) المنحدرة من كتفيها الى الاسفل والوجه الابيض والعيون السود الواسعة تشكل لوحة جميلة يصعب وصفها .. يضع يده بيدها ويدخلان الغرفة التي كانت تعج برائحة البخور .. كل شئ على ما يرام وأكثر .. انها احتفالية مثالية بمناسبة قدوم الغالي حمودي .. هذه الليلة لا بد لـ ( حمودي ) ان يضبط نفسه لا يفرط بالشرب ولا يتصرف بأي تصرف يغضب منه زنوبة اولاً ويندم هو اخراً .. لقد اكل وشرب ما لذ وطاب .. يصمت كثيراً بعكس السهرات السابقة .. يبد ان هناك ( حسبة ) قوية تشغل فكره .. مع كل سيجارة يدخنها كان يسرح وفجأة يقول :-
- اني مقصر معك يا زنوبة .. سيأتي اليوم الذي اخرجك من هذا السجن المظلم !!
تلك الكلمات الجميلة كانت بمثابة أشياء لا توصف بالنسبة الى زنوبة ...
- هل انا عزيزة عندك الى هذا الحد ..؟؟
- وهل تعتقدين عكس ذلك ..؟ انا لا املك غيرك .. صدقيني انت كل شئ في هذه الدنيا .. ولكن كما تعلمين ( العين بصيرة واليد قصيرة ) ..
- اذن هذا هو الحب المتبادل .. ( الگلوب سواجي )** صدقني يا حمودي انت كل شئ في حياتي .
تهنى تلك الليلة .. انها ليلة من العمر لا تحسب .. عند الصباح كانت العادة ان تضع زنوبة مصروفه الاسبوعي تحت المخدة .. لان العادة كانت كذلك !! . كيف لإمرأة ان تصرف على رجل؟؟ .. واي نوع من الرجال بالاخص شهم وشجاع من امثال حمودي .. بعد تناول طعام الفطور غادر حمودي والغالية تودعه توديعاً كبيراً على امل اللقاء في نهاية الاسبوع القادم .
بعد مغادرة حمودي الحبيبة الغالية وتهيؤ زنوبة لممارسة عملها في بداية الاسبوع الجديد !!! كانت اكبر مفاجأة حينما علمت ان حمودي لم يأخذ المبلغ الموجود تحت المخدة !! هل نسى ان يأخذه .؟ ام لم يأخذه عمداً .. ام ماذا ..؟؟
كانت هناك اسئلة واستفسارات عديدة تدور في ذهن زنوبة وصديقاتها وحتى الخالة عرموطة .. كان الكل يطمئن المسكينة زنوبة على هذه الصدمة ... كلها ايام وستبين الحقائق حتماً .. ولكن المصيبة كانت أقوى حينما جاء الموعد ( وزنوبة ) متهيأة تماماً لاستقبال حمودي دون ان يبين له أي اثر ..
هذا الحادث كان بمثابة صدمة كبيرة لها .. وبالمقابل كانت بشرى كبيرة للخالة ( عرموطة ) التي ستنفرد بوحدها بالدجاجة التي تبيض الذهب !! اسبوعان وثلاثة .. شهر وشهران والحبيب الغالي دون أي اثر .. من حق زنوبة ان تستغرب .. لقد تغير حمودي كلياً وبالأخص في السهرة الاخيرة حتى اكله وشربه لم يكن مثل سهراته السابقة .. ترى مالسبب ..؟ هل هنالك سر ؟ هل شبع منها وملها ام ماذا ..؟؟.
بالرغم من كل ذلك كانت زنوبة متأكدة بأن الغالي سيظهر فجأة ويعود اليها .. كانت كالعادة تذهب الى الحمام .. تتزين ... تتعطر .. تهيئ المائدة الى بعد منتصف الليل بعدها كانت تتخيل ان حمودي راقد بجنبها وتنام حتى الصباح .. كانت اكثر الناس الحاحاً عليها لنسيان الحبيب هي الخالة ( عرموطة ) حتماً .. ولكن كان كلام الاخيرة بالنسبة الى زنوبة (هواء في الشبك ) .. ان قلبها يقول شئ اخر !!
بعد هذا الغياب والاشاعات المختلفة تكثر يومياً والتي كانت الخالة عرموطة من وراءها هناك من يقول انه احب فتاة اخرى .. والاخر يقول انه سافر الى البصرة واستقر هناك .. اشاعة اخرى تقول انه تزوج وعاد الى اهله !! لكن زنوبة كانت لا تبالي الى كل تلك الاشاعات كانت ترد ببرود :-
- سيعود .. انني متأكدة .. لا يمكن ان يتركني وحدي .. انه يحبني و سيثبت للكل بأنه شهم وشجاع .. انتظروا الايام بيننا .
وفجأة يظهر حمودي من دون مقدمات ويقف امام الخالة عرموطة ويطلب منها الكمبيالات ليقوم بتسديدها وتصبح زنوبة .... زنوبته !!
جلال چرمگا
معتقل آبوغریب/ تموز / 1996
* الكمبيالات بالأرقام الخيالية كانت وسيلة أبتزاز لبقائها أطول مدة في ذلك المكان.
** مثل عراقي .. القلوب عند بعضها.
للراغبين الطلاع على القصة السابقة( شجرة البلوط) النقر على الرابط أدناه:
http://www.algardenia.com/thaqafawaadab/2472-2013-01-07-16-55-07.html
407 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع