سنوات صدام ـ الحلقة الحادية عشرة
صدام يستسلم للعبة الأسئلة والأجوبة، لماذا لم يلتفت العالم إلى نفي صدام صلة العراق بالقاعدة؟
« لقد قابلت نحو عشرة رؤساء دول، وهذه أول مرة يُطلبُ مني أن أخلع خواتمي وحليتي».. هذا هو ما قالته الصحافية كريستين أوكرنت التي لم تكن تتوقع مثل هذه المعاملة من مصالح أمن الرئاسة العراقية. فقبل أن تجري حديثها الصحافي مع صدّام حسين«حبستها» هذه المصالح في الفندق يومين كاملين. بأسلوب غامض، قال لها أحد أعضاء البروتوكول:
ـ سنعود إليك.
حرصاً منها على أن لا تُفوّت المقابلة، اعتذرت كريستين أوكرنت عن دعوة أحد الدبلوماسيين للغداء. وأخيراً جاءت سيارة لنقلها، وبعد وصولها إلى الوجهة الأولى من الرحلة قدّم لها الطعام. ولتضليل مسارها أكثر، أُقتيدت الصحافية نحو إقامة جديدة. فهي لم تعرف قط في أي مكان بالضبط سيتم لقاؤها بصدّام.
وفي المكان نفسه تعاملت معها مصلحةُ الأمن بلا رحمة، وبلا أي مجاملة. فبعد تفتيش كامل على جسمها، أخذوا منها كلَّ ما كانت تحمله معها من أقلام ودفاتر وحليّ. وأمام هذه المعاملة المفرطة احتدت الصحافية سخطاً، ورفضت رفضاً قاطعاً أن تُجرّد من السلسلة التي في رقبتها.
ـ لن أخلع السلسلة وإلاّ ألغيتُ المقابلة.
وبعد أخذٍ وردّ سُمح لها بأن تحتفظ بالسلسلة في رقبتها، لكنّ مُفتشيها ما لبثوا أن أرغموها على غسل يديها بمادةٍ مُطهرة قبل الدخول إلى القاعة، حيث كان صدّام في انتظارها، للقضاء على أي أثر محتمل لسمّ من السموم أو لأي مادة من المواد الكيماوية. كان ذلك إجراءً يحدث لأول مرة! كنا في شهر ديسمبر 1990 وكان العراق قد غزا الكويت في شهر اغسطس. فقد كانت مصالح الأمن مرهقةً، ولذلك كان خوفها الشديد من أي محاولة اغتيال.
العفريت بعينه
كان صدّام قد أصبح في أعين الغربيين هو العفريت بعينه. ومع ذلك فهم الذين كانوا يمدونه بالسلاح ويساندونه على مدى عقود من الزمن، والآن صار عدوهم اللدود ولذلك قرّروا إسقاطه. ومنذ ذلك الحين صارت كل شخصية تتصل به تخضع بالضرورة لتفتيش قاس، لكنّ الذي أدهشني، حتى في هذه الفترة، أنني لم أتعرض يوماً للتفتيش، وكأنني كنت واحداً من دائرة السلطة الخاصة. ومع ذلك، فقد كانت مصالح الأمن تفتش زميلي المترجم معاذ إبراهيم، وكانت ثقتهم بي تذهلني أيما إذهال!
لم يطرأ على شروط تسجيل الأحاديث المتلفزة الصارمة أي تغيير، فقد كان من غير الوارد على الإطلاق أن تستعمل فرق التلفزيون الأجنبية كاميراتها الخاصة، فَمَنْ يدري ما الذي يمكن أن تخفيه عدسات التصوير؟
كانت هذه النقطة هي التي تتردّد دائماً في التفاوض الذي يسبق التصوير. ولم يُقدّم موظفو الديوان في هذا الشأن أي تنازل من التنازلات على الإطلاق. والتنازل الوحيد هو أنّ الفنيين الأجانب كان بإمكانهم أن يصوّروا الأحاديث، ولكن بكاميرات عراقية. ففي القصر كنّا مجهزين بأحدث العتاد السمعي ـ البصري.
بطبيعة الحال، لم يكن الحديث التلفزيوني يبث بشكل مباشر. ففي العراق كان مثل هذا البث أمراً غير وارد على الإطلاق. فحتى مباريات الفريق الوطني لكرة القدم لم تكن تبث إلا بعد ساعة من انتهائها، فقد كان النظام يخشى المفاجآت، ولذلك كان يسعى لمراقبة كل شيء. وكان يستحيل على مشاغبين أو مشجعين أن يشوّشوا أو يخلوا بنظام أي لقاء أو أن يأملوا في أن يراهم المشاهدون. فلو حدث ذلك لاكتفى المراقب ببعض القص عند التركيب فتجري الأمور وكأن شيئاً لم يكن.
ومع ذلك، فقد كان صدّام حريصاً على أن تبث كل أحاديثه كاملة من دون أي تقطيع ولا تركيب. فقد اتخذ الرئيس هذا القرار في الثمانينات على إثر مقابلة أجرتها معه قناةٌ تلفزيونية أميركية. لقد دام التسجيل أكثر من ثلاث ساعات، لكن المقابلة لم يُبث منها سوى عشر دقائق في الولايات المتحدة، وأثار ذلك غضب صدّام الذي قرّر منذ ذلك الوقت أن لا يدع وسائل الإعلام الغربية تخادعه بعد تلك الحادثة.
فقد كان يزعجه على الخصوص أن لا يتابع المشاهدون الأجانب أحاديثه كاملةً على نحو ما كان الشعب في العراق يتحمل سيله من الخطب. وكان صدّام، في التلفزيون وفي غيره، يحب أن يأخذ من الوقت ما يكفيه لشرح أفكاره. لم يكن يحب الأحاديث المختصرة، وكان ولوعاً بالاستطرادات التاريخية الطويلة. ولم يكن يسمح لأحد بأن يقاطعه بأي حال من الأحوال.
وكان صدّام في وقت سابق قد عاش حادثة مزعجة من هذا النوع مع باحثة أميركية. فبعد أن حاورت الرئيس بأدب جم، عادت إلى الولايات المتحدة لتنشر نصّاً لا يمت بأي صلة لما قيل أثناء ذلك اللقاء. فقد وصفت صدّام بـ «المجنون» وبـ «الرجل غير المتّزن»، وقد زينت النص بتعليقات شخصية حول حقائق وهمية. بعد هذه التجربة صار الرئيس يرفض لسنوات عديدة كل صلة مع الصحافة الدولية.
غير أن العراق ما لبث بعد غزوه للكويت أن استقطب، وبشكل دائم، اهتمام وسائل الإعلام العالمية. فلم يعد في مقدور صدّام، الراغب في الوصول إلى الرأي العام العالمي وفي التعبير عن وجهة نظره، أن يقاطع هذه الوسائل أو يستاء منها، ولذلك إذن لم يرفض اقتراح كريستين أوكرانت بمقابلته لحساب القناة الفرنسية الثانية. فعلى الرغم من انحياز باريس ضده فقد ظل صدام يبدي تقديره لفرنسا.
كعادته، رفض الرئيس أن يستعمل مساحيق التجميل، التي كان يرى فيها ممارسة غريبة عند الرجال. لم يكن يهمه أن تبدو بشرته باهتة أو شاحبة تحت الأضواء الكاشفة، ولم يكن يتحمل أي مساس بفحولته. وعلى الرغم من أنه كان يصبغ شعره، فقد كان حريصاً على أن يحتفظ بلون شاربه الطبيعي.
وكان صدّام، الذي كان يسعه أن يحكم بسرعة على نوعية الترجمة على الرغم من جهله للإنجليزية وللفرنسية، قد انشأ نظاماً للترجمة المزدوجة، فقد كانت أحاديثه، بحكم عدم توفر مترجمين محترفين، كثيراً ما تترجم ترجمة تقريبية، إن لم تشوه كلياً. وقد كلف زميلي معاذ إبراهيم بترجمة أسئلة كريستين أوكرانت وكلفت أنا بترجمة إجابات صدّام إلى الفرنسية.
وبعد مقدمات مطولة، فتحت الصحافية النار على صدّام قائلة:
ـ في الغرب يصفكم الناس بـ «هتلر جديد». ما رأيكم في هذه المقارنة؟
ـ لم يترجم زميلي سؤالها بالكامل، فلم يكن معاذ، الذي لم يتلق أي تكوين في الترجمة يستعمل طريقة التدوين السريع الذي يعتبر تقنية أساسية في المهنة. وأجاب صدّام ولكن دون اشارة للمقارنة مع الدكتاتور الألماني، فلم أجد بدا من أن ألتفت إليه وأعيد عليه السؤال، فابتسم صدّام غير مفحم بالتلميح إلى الدكتاتور النازي.
بعد مرور بعض الوقت، قرأت في الصحافة رواية مختلفة لهذه الحادثة. ففي هذه الرواية تقول كريستين أوكرانت إن محيط صدام يعيش في رعب، إلى الحدّ الذي يجعل معاونيه لا يقدمون على ترجمة الأسئلة المحرجة.
وقد أضافت إن أحدهم ـ في اشارة إليّ شخصياً ـ كان عصبياً منفعلاً لحدّ التعرق الشديد، صحيح أنني كنت أتعرض للتعرق أثناء مهام الترجمة لكن ليس بسبب الخوف بالتأكيد، والدليل أنني بادرت بإعادة ترجمة سؤالها! وهكذا اكتشفت أن ذاكرة الصحافيين تتعرض للترنح والضعفِ أحياناً.
صحيح أن نظام الأمن، الذي كان يحيط بصدّام، كان مكثفاً خانقاً إلى الحد الذي جعله يغذي تخيلات الصحافة الغربية وتصوراتها.
ـ يقال سيدي الرئيس إنكم تحملون باستمرار سترة واقية ضد الرصاص.. هل هذا صحيح؟
ـ هكذا سأل اعلامي من إحدى القنوات الفرنسية يدعى جاك بوافر أثناء مقابلة جاء إعدادها على عجل في شهر ديسمبر من عام 1990.
بغتةً أمسك صدام بيدي الاعلامي ووضعهما على صدره، حتى يدرك بنفسه إنْ كان يحمل واقياً خاصاً، وارتبك الاعلامي أيما ارتباك، وهو يظن أن الرئيس يسعى للاعتداء عليه.
حدث ذلك أثناء القضية المسماة بقضية »الرهائن«، الذين كانت وسائل الإعلام العراقية تصفهم بـ «الضيوف». فقد تم حشدهم في الطابق الأرضي بقصر المؤتمرات الذي تحتله اليوم قوات التحالف. كان صدام قد قرّر الالتقاء بهم لكي يثبت للعالم أجمع أنهم يُعاملون أطيب معاملة، ولما كانوا ينتمون لجنسيات مختلفة فقد دُعيت لترجمة أقوالهم، فكان أن استجوب الرئيسَ أحدهُم:
ـ لا نريد أن نكون ضيوفكم إننا نريد مغادرة هذا البلد؟
ـ كان بوافر، الذي جاء إلى بغداد لتغطية الازمة العراقية، يسير إلى جانب صدام. وقد انتهز هذه الفرصة لكي يسأله إن كان يسمح له بسؤال »صغير«. ودام الحوار بينهما أكثر من ساعة كاملة، حيث تحوّل إلى مقالة صحافية حقيقية، كان الرجلان يجولان في بهو القصر يتقدمهما مصوّر قناة الفرنسية. وأثناء الحديث تطرق الرئيس لشجاعة العرب وفخرهم، لكن باتريك بوافر، ودون أي اضطراب، ما لبث أن تجرأ على السؤال:
ـ سيدي الرئيس إنكم تتحدثون عن الشجاعة، ولكنكم تختبئون وراء النساء والأطفال؟
وأمعن الرئيس النظر فيه، وأجابه بهدوء تام:
ـ إنك لم تفهم القضية كما ينبغي أن تفهم هؤلاء ليسوا رهائن ولا دروعاً بشرية، بل هم ضيوفنا، ونحن لا نختبئ وراءهم.
لقد أغضبه ذلك السؤال بعض الشيء، لكن شيئاً من ذلك لم يبد على ملامحه ولم يحقد على الصحافي بأي حال. كان صدام يتصرف بغريزته، فإن هو شعر بالارتياح فإنه لا يتردّد في أن يعطي كل وقته وعنايته لمحدثيه، ومنهم بوافر الذي سعد أيما سعادة بمقابلة خاصة مسترسلة وحرة.
استعداد فطري
كان هذا الاستعداد الفطري من ميزات طبع صدّام، لكنه لم يكن يمنح عن دراية وروية في كل الأحوال. ففي العام 1995 وافق الرئيس على مقابلة صحافي مجهول لسبب وحيد، وهو أنه جاءه بتوصية من رامزي كلارك، وزير العدل الأميركي السابق، فقد كان صدام معجباً بهذه الشخصية الرافضة للتقاليد الأميركية، والتي لم تكن تتردّد في انتقاد سياسة حكومتها.
عندما انتهى الأميركي وصدّام من الحديث عن الوضع السياسي والإنساني في البلاد، بادر كلارك الرئيس بهذا الاقتراح:
ـ سيدي الرئيس، أحب أن ألتمس منكم هذا الامتياز، لقد جئت إلى بغداد وبرفقتي مصور مستقل حاز على جائزة مهمة في الولايات المتحدة، إنه يرغب في اجراء مقابلة معكم؟
ـ إنني موافق! ولنبدأ الآن!
ما فتئ مكتب الديوان الصحافي يستقبل منذ العام 1991 طلبات بإجراء مقابلات مع الرئيس من أشهر القنوات التلفزيونية ـ سي أن أن ـ بي بي سي ـ تي أف 1 أو القناة الثانية الفرنسية.. إنّ الأفضل للرئيس إن هو تفضل بحديث لجهة ما أن يمنح هذا الحديث لتلفزيون مشهور، وليس لشخص لا أحد يعرفه.
ولأول مرة في حياتي المهنية اعترضت على ذلك الحديث لدى عبد حمود، فقد شرحت له أنني وزميلي سعدون الزبيدي قد أمضينا أكثر من ثلاث ساعات في ترجمة الحوار بين رامزي كلارك وبين الرئيس، وبأن التعب العصبي الذي أحسست به قد يسيء إلى جودة ترجمة المقابلة المرتجلة، فقد كنت في حاجة إلى وقفة وإلى استرخاء، لكن عبد حمود ردّ عليّ ببساطة:
ـ سمان، لا تحمل همّاً! كل شيء سيكون على ما يرام، فلا يحق لنا أن نناقش أوامر الرئيس بأي حال من الأحوال!
دام الحوار ساعتين كاملتين، وكان فاشلاً فشلاً تاماً. وقمت بمراقبة ومتابعة بثه، لكن بعد مرور شهر كامل لم يكن قد أعلن عنه في الخارج. وفي النهاية تمكن الأميركي من بيع ذلك الحوار إلى قناة إيطالية صغيرة، فقد رفضت السي ان ان والبي بي سي شراءه اعتقاداً منهما أن هذا النوع من الحوارات الكبرى لا يمكن أن ينجزه إلاّ إعلامي من طاقمها، ولم تنل المقابلة سوى صدى ضئيل في الخارج، ولذلك قرّرنا بثها على التلفزيون العراقي.
على مدى سنوات عديدة لم يسمح صدام بأي حوار متلفز للغربيين، وظل الأمر على هذا الحال حتى فبراير 2003 حين استسلم صدّام من جديد للعبة الأسئلة والأجوبة. وهذه المرة لم يلجأ الرئيس إلى صحافي بل إلى سياسي انجليزي يدعى تُوني بِينْ.
تخلى هذا النائب العمّالي عن منصبه في البلدية العام 2001 بعد خمسين عاماً من الحياة السياسية الاستثنائية. وقد أعطته الحربُ التي أعدَّ لها جورج بوش وتوني بلير الفرصة وهو في الثامنة والسبعين من العمر لأن يتبنى قضيةً رائعة ألا وهي الدفاع عن السلام.
وليلة وصوله إلى بغداد، جاءتني دعوةٌ للحضور من مكتب سكرتير صدام الشخصي، ولأول مرة في حياتي المهنية كلّفتُ بتنظيم استقبال زائر أجنبي وباستقباله في المطار مع زميلي المترجم سعدون الزبيدي.
ـ نسِقُوا مع مصالح البروتوكول.
ـ هذا كلّ ما قيل لي ببساطة.
وحتى أُعِدَّ هذا اللّقاء خير إعدادٍ لم أتردّد في اللجوء إلى الأنترنت، فقد كنت أرغب في معرفة المزيد عن تُوني بِينْ. وقد اكتشفت أنه كان أسطورة حية في البرلمان الانجليزي وفي حزبه الذي كان عضواً فيه منذ العام 1942. فقد كان رجل مبادئ وأخلاق عالية، ولذلك تخلى عن منصبه كـ «لُوْردٍ» ليصبح نائباً في مجلس العموم.
وما إن وطئت قدماه التراب العراقي حتى راح يتباهى بعقله المستقل. فعندما قال له أحد موظفي البروتوكول أن إقامة رئاسية قد أعدّت له خصيصاً وأن جناحاً بفندق الرشيد قد خُصّص له أيضاً، أجاب بلا تردّد:
ـ إني أفضل الذهاب إلى فندق، وأنا حريص على أن أدفع أجرة غرفتي.
لم يكن يحب أن يتهمه صحافيون سيّئو النية، أو خصومه السياسيون بعد عودته إلى انجلترا، بأنه أقام في العراق على نفقة صدام.
لقد جاء إلى العراق برفقة عدد من الفنّيين. كنت أعلم أن هناك مشروع إنشاء قناة فضائية في التلفزيون العراقي تبث برامجها باللغة الإنجليزية. وقد كان الهدف من هذه القناة هو تحقيق التوازن أمام التلفزيونات الغربية ولا سيما منها الأميركية. وكان ظني أن مقابلة توني بِينْ مع صدام ستُبَثُّ عند إطلاق هذه القناة.
وكان صدام قد أبدى هذه الفكرة مرات عديدة من قبل أثناء لقاء مع جورج غالوي وهو نائب عمّالي آخر ومناضل من مناصري القضية العراقية، فقد استعرض الرجلان قوة الدعاية الأميركية. وقال غالوي لصدام إنه على استعداد لمساعدة العراق باستقدام صحافيين بريطانيين، فأجابه الرئيس قائلاً:
ـ إننا نفكر في إنشاء قناة تلفزيونية باللغة الإنجليزية، فإن كنتَ ترغبُ في المشاركة فيها فإنني لا أرى مانعاً في ذلك.
كانت قناة التلفزيون هذه ستسمّى «تلفزيون العرب». لكن نظراً لضيق الوقت، وربما أيضاً لأسباب فنية ومصاعب أمنية، لم تر هذه القناة النور إطلاقاً، لكن في مقابل ذلك لقيت مقابلة توني بِينْ التي بثتها القناة الإنجليزية «تشانيل 4» صدى حقيقياً، فقد كانت أول مرة يتحدث فيها الرئيس أمام الرأي العام العالمي منذ اندلاع الأزمة.
عند دخولي إلى قاعة القصر التي جرت فيها المقابلة، لفت انتباهي أمرٌ مهمّ: الخوان الذي كان يُغلّف الطاولة التي كان سيتحاور حولها تُوني بِينْ وصدّام، فقد كان هذا الغطاء قصيراً جدّاً ممّا يجعله يكشف عن الأرجل. وقد نبهّت رئيس التشريفات إلى ذلك فردّ عليّ موضّحاً:
ـ إني أعرف ذلك يا سمان! فالمنظر ليس أنيقاً بالتأكيد، وقد كان عليّ أن أُعِدَّ ستوديوهات عديدة لأسباب أمنية، ولم يبق عندي خوان يلائم هذه الطاولة، ولذلك أتيت بما وجدت!
ومنذ الدقائق الأولى للحديث سرى التفاهم بين صدّام وتوني بينْ، الذي راح يقدم نفسه ليس كصحافي، بل كرجل صاحب نوايا طيبة قال:
ـ لقد جئتك لسبب واحد: أن أرى إن كان بالإمكان أن استكشف، بمساعدتكم، سبل السلام عن طريق الحوار. لا أحب أن أرى الحرب ثانية بعد اليوم، لقد فقدت فيها واحداً من إخوتي، ملايين عديدة من الناس في العالم لا يحبون الحرب، فبمواففتكم على هذه المقابلة التاريخية آمل في أن تكون قادراً على مساعدتي وعلى الإدلاء بكلمات إيجابية.
ـ أهلاً وسهلاً بك في بغداد، إنك تعي الدور الذي فرضه العراقيون على أنفسهم وهو دور استلهموه من ثقافتهم وحضارتهم ومساهمتهم في تاريخ البشرية. هذا الدور لا غنى له عن السلام لكي يزدهر ويتطور، لذلك فإن العراقيين مصرون على حماية حقوقهم وحقوق الآخرين، فبدون السلام سوف يضطرون إلى مواجهة العديد من العقبات التي ستحول دونهم وخدمة البشرية.
هكذا بدأ الحديث دافئاً متحمّساً. فقد بدا الرجلان وكأنهما جنتلمانان يتناقشان حول قضايا العالم حول قدحين من الشاي. ووقع صدّام تحت فتنة النائب العمالي. ومن جهته كان توني بِينْ يبدي تجاه صدام قدراً من الاحترام ولم يسع إلى استفزازه شفاهياً، حتى وإن لم يتردّد في مواجهته بأسئلة مباشرة:
ـ هل لك صلات مع القاعدة؟
ـ لو كنا نملك صلات مع القاعدة، ولو كنّا متمسكين بهذه العلاقات، لما كنا خجلنا من الاعتراف بها. لذلك سأقول لك بلا لفّ أو دوران، ومن خلالك ولكل الذين تهمهم هذه المسألة: لا! لا تربطنا أي صلة من الصلات مع القاعدة!
الحقيقة التي ضاعت
عندما أعيد قراءة شريط هذه المقابلة أجدني مقتنعاً بأن صدام كان يقول الحقيقة، لكنّ هذه الحقيقة ضاعت وتاهت ولم ينتبه لها أحد في ضجيج وعجيج ما قبل الحرب. وأهم من ذلك أن هذه الحقيقة لا تشمل الصلات بمنظمة أسامة بن لادن وحسب بل تشمل أيضاً أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي يُتَّهم النظام بإخفائها.
هل يبحثون عن ذريعة لتبرير حرب ضد العراق؟ فإذا كان الهدف هو التأكد من أن العراق لا يملك أسلحة نووية وبيولوجية فإنهم (مفتشي منظمة الأمم المتحدة) يستطيعون التأكد من ذلك. فهذه الأسلحة ليست أقراصاً صغيرة يمكن أن نخفيها في جيوبنا. لقد قلنا هذا في مناسبات عديدة ونعيد قوله اليوم: العراق لا يملك أسلحة للدمار الشامل!
لكن أي قيمة لأقوال صدّام أمام الدعاية المضلّلة؟ ليس الشيء الكثير، ففي العام 1995 كان حسين كامل، صهر الرئيس العراقي، قد كشف بعد هروبه إلى الأردن عن برنامج إخفاء أسلحة عراقية محظورة. منذ ذلك الوقت لم يعد صدّام يملك أي مصداقية، وما فتئ الرأي العام الأميركي على مدى شهور عديدة يقع تحت طائلة الدعاية، التي ما فتئت المعارضة العراقية في المهجر تغذيها وتبثها. ففي نظر جورج بوش وتوني بلير صار الرئيس العراقي، مهما قال أو فعل، رجُلاً مُتهَّماً ومجرماً، ومن هنا إذن لم تعد للحقيقة أي أهمية.
هذه الأزمة ثم نهايتها كشفتا عن فعالية الدعاية الأميركية فالمناورات الإعلامية التي مارستها لم تكن أقل سوءاً من الدعاية العراقية. فباستثناء صحيفة «نيويورك تايمز» التي تستحق الذكر هنا، فقد صارت وسائل الإعلام الأميركية برمتها، صارت قليلاً أو كثيراً، الناطقة الرسمية باسم مشاريع البيت الأبيض الحربية. كنت أتوقع موقفاً آخر وقدراً أكبر من هيئات صحافية تدعي أنها «حرة ومستقلة»، لكن كما يقول المثل: «ساعة الحرب، الضحية الأولى هي الحقيقة».
للراغبين الأطلاع على الحلقة العاشرة:
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/12825-2014-09-29-19-19-26.html
638 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع