عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته (الحلقة الحادية عشرة)
تشكيل حكومة جديدة برئاسة عبد الرحمن البزاز واللواء العقيلي وزيرا للدفاع فيها وقرار بإعفاء رئيس الوزراء السابق لـفراره) الي الخارج
العودة الي الثكنة
كانت الساعة السادسة مساءً، عندما تسلّمنا أوامر لاحقة بعودة الجميع الي ثكنة فوجنا، ولكن من دون أن يُفتح الشارع العام لمرور السيارات الأهلية والمارة حتي ظهيرة يوم الجمعة السابع عشر من ايلول (سبتمبر)، عندئذٍ حمدنا الله سبحانه وتعالي وشكرناه علي نعمة الأمان، وبات الجميع علي أسرّتهم متعبين، وقد وضعوا أسلحتهم وعتادهم علي مقربة من رؤوسهم تحسباً لأي طارئ.. فحالة الإنذار والتأهب ما زالت قائمة.
عندما استقر الجميع في الثكنة مساء يوم الخميس 16 أيلول (سبتمبر) 1965، وبعد أن تناولنا بعض الطعام بعد إجهاد متواصل لـ(24) ساعة متتالية، طلب آمر الفوج حضور جميع الضباط في (البهو)، وهي قاعة يركن اليها الضباط في أوقات استراحتهم حيث بادر الي توضيح الامور الآتية بكل صراحة قائلا: إن مؤامرة كبيرة وخطيرة، حاول بعض كبار مسؤولي الدولة تنفيذها، مستغلّين غياب السيد رئيس الجمهورية عن البلد، موضحا بالأسماء قادة المتآمرين وحددهم بعميد الجو الركن عارف عبد الرزاق رئيس الوزراء وأحد نواب الرئيس الجمهوري..
والعقيد الركن هادي خماس مدير الاستخبارات العسكرية، العقيد الركن عرفان عبد القادر وجدي آمر الكلية العسكرية، المقدم الركن رشيد محسن مدير الامن العام، المقدم فاروق صبري عبد القادر معاون مدير الاستخبارات العسكرية، الرائد عبد الامير الربيعي أحد الضباط الأقدمين في مدرسة الدروع بمعسكر أبي غريب.
واشار الي ان عددا من مسؤولي الدولة المخلصين للسيد رئيس الجمهورية، وعلي رأسهم العميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد، تمكنوا من إفشال المؤامرة في مهدها، وقُبيل الشروع الفعلي بتنفيذها، ولما خاب أملهم، اضطروا للتوجه الي مطار الرشيد العسكري ظهر هذا اليوم، لتقلّهم طائرة نقل عسكرية كانت مهيأة مسبقاً، وتوجّهوا بها الي القاهرة مباشرة.
أخبار العراق في الإذاعات
وعلي أية حال وبينما ظلت محطتا إذاعة وتلفزيون العراق علي برامجهما الاعتيادية، كالنعامة التي تغرس رأسها في الرمل معتقدة أن الآخرين لا يرونها ما دامت هي لا تراهم، وكأن شيئاً لم يحدث، وكعادتنا نحن العراقيين في مثل هذه المواقف الصعبة كنا نتابع أخبار العراق منقولة من الإذاعات العربية والعالمية، وكانت أبرز عناوين الأخبار:
ـ محاولة فاشلة لقلب نظام الحكم في العراق.
ـ المتآمرون من القوميين العرب ذوي الميول الناصرية.
ـ كبار مسؤولي الدولة العراقية متورّطون في المؤامرة الفاشلة.
ـ نائب رئيس الجمهورية العراقية يحاول الإطاحة غدراً برئيسه وزميله الغائب عن البلد.
عودة رئيس الجمهورية واحتمال اغتياله
استمرت حالة الإنذار والتأهب في فوجنا، وجميع وحدات الحرس الجمهوري وكذلك الوحدات العسكرية المنتشرة في بغداد وحواليها، طيلة يوم الجمعة 17 أيلول (سبتمبر) 1965 دون حادث طارئ، ولكن من دون تواجد مسلّح في الشوارع المحيطة بالقصر الجمهوري ليلاً أو نهاراً، بينما بقيت الدبابات في مواقعها المحيطة بالقصر، فيما كان الشارع العام مفتوحاً للسيارات والمارة علي السواء، وبشكل اعتيادي.
ومما يجدر ذكره في هذا الشأن، أن معظم الناس قد دأبوا في مثل هذه الايام علي تخفيف تنقّلهم عبر كرادة مريم خشية طارئ لا تحمد عقباه، فـ(الباب التي تأتي منها الريح، أغلقها وأسترح)، كما يقول المثل العراقي، ولكن الكثير من الناس في الوقت نفسه، كان يتجوّل في هذه المنطقة فضولاً.
حرس الشرف في المطار
حل فجر يوم السبت الثامن عشر من أيلول (سبتمبر) 1965، حيث اُبلغنا بأن رئيس الجمهورية قد أنهي زيارته للمملكة المغربية بعد حضوره الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربي الثالث، وأنه سيصل بطائرته الخاصة في حدود الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم الي بغداد، وفي حين استحضر النقيب كاظم عزيز نفسه لقيادة حرس الشرف في أرض مطار بغداد، فقد اُبلغت انا ان أكون حامل علم العراق معه ـ كالعادة ـ بينما يقوم الملازم سعد شمس الدين خالص بواجب المعاون.
حضرنا الي المطار في حوالي الساعة السادسة صباحاً، وبقينا ننتظر وصول طائرة رئيس الجمهورية حتي الساعة التاسعة دون جدوي، في حين كان الوضع في المطار وحواليه ليس بالشكل الاعتيادي الذي تعّودنا عليه في العديد من حالات الاستقبال أو التوديع السابقة.. فقد انتشر العشرات من جنود الانضباط العسكري المسلحين بالمسدسات والرشاشات معاً في المنطقة المحيطة بساحة وقوف الطائرات، اضافة الي جنود آخرين من فوجنا، وآخرين يرتدون الملابس المدنية ويخفون مسدساتهم تحت ستراتهم أو قمصانهم، وهم من منتسبي فصيل الحرس الشخصي لرئيس الجمهورية.
رئيس الجمهورية في طريق العودة
كانت الساعة قد قاربت العاشرة صباحاً عندما أشار آمر فوجنا أن نتجمع أمامه ليبلغنا ببعض الاخبار المهمة عن الاحداث القائمة، وكان من أهمها:
أولاً: أن السيد وزير الصحة الدكتور عبد اللطيف البدري والذي تربطه بشخص رئيس الجمهورية صداقة حميمة قد سافر الي الرباط ووصلها فجر يوم أمس (الجمعة)، ليبلغ سيادته بتفاصيل المحاولة الانقلابية، ويطمئنه علي الهدوء الذي تنعم به بغداد إثر فشلها، وتفضيل حضوره الي القطر بأسرع ما يمكن، ولكن السيد رئيس الجمهورية فضل بقاءه حتي الجلسة الختامية لمؤتمر القمة، إلا انه ألغي زيارته الرسمية للمملكة المغربية التي كانت مقررة لمدة اربعة أيام بعد انتهاء اجتماعات المؤتمر.
ثانياً: أن رئيس الجمهورية قد غادر مطار الرباط في الساعة العاشرة والنصف ليلاً (بتوقيت بغداد) بطائرته الخاصة، وحطّ في مطار الجزائر، وأقلع منها في الساعة الواحدة والنصف ليلاً بعد منتصف الليل، وهبط في مطار بنغازي في ليبيا فجر هذا اليوم السبت في طريقه الي القاهرة.
ثالثاً: يحتمل أن يتأخر السيد الرئيس في القاهرة بعض الوقت، لذلك فإن علي حرس الشرف الرجوع الي ثكنة الفوج لأخذ قسط من الراحة وتناول طعام الغداء هناك، وانتظار أوامر لاحقة للعودة الي المطار فوراً... علي أن يبقي الجميع بملابس المراسيم، وأن ترابط السيارات المخصصة لنقلهم في ساحة التدريب المركزية للفوج علي أهبة الحركة.
طال انتظارنا في ثكنة الفوج كذلك، وأصابنا بعض الملل، وبلغ منا الضجر مبلغه، لا سيما وأننا مرتدون ملابس حرس الشرف الرشيقة، والمزعجة، منذ فجر ذلك اليوم...
ولكن ثمة معلومة مفاجئة أبلغنا بها النقيب كاظم عزيز آمر حرس الشرف في حوالي الساعة الواحدة ظهراً، وهي تشير الي أن رئيس الجمهورية قد يتعرض الي محاولة اغتيال أثناء نزوله من الطائرة، أو عند وقوفه لأداء التحية علي منصة الشرف خلال عزف السلام الجمهوري، أو لدي تفتيشه لحرس الشرف، والذي يطول في مجمله دقائق عديدة..
لذلك فقد أصدر ديوان الرئاسة توجيهاً بتزويد جميع بنادق أفراد حرس الشرف وعددهم ثمانية وتسعون ضابط صف وجندي بالعتاد، علي عكس جميع الحالات السابقة التي كانت البنادق مجرّدة من الإطلاقات.
في ساحة المطار مجدداً
عدنا الي مطار بغداد الدولي في الساعة الثالثة والنصف عصراً، حيث علمنا أن آمر لواء الحرس الجمهوري العقيد الركن بشير الطالب قد اتفق مع آمر فوجنا، ليطرحا علي السيد رئيس أركان الجيش وكالة اللواء عبد الرحمن عارف فكرة الصعود معاً الي الطائرة فور توقّفها في الساحة المخصصة لها، ليبلغوا السيد رئيس الجمهورية، بأن الظرف القائم يوجب إلغاء مراسيم حرس الشرف المتعارف عليها، وإقناع سيادته ليوافق أن ينزل من سلّم الطائرة بأسرع ما يمكن ويستقّل سيارة خاصة تقف بمحاذاة السلّم بغية نقله الي القصر الجمهوري مباشرةً.
وما إن حلّت الساعة الخامسة عصراً.. وبينما كنا ننتظر هبوط الطائرة الخاصة لرئيس الجمهورية علي مدرج المطار، حتي تدحرجت طائرة مدنية كبيرة تابعة للخطوط الجوية العربية المتحدة من طراز (كوميت 4 سي) علي المدرج، قبل أن تتوجه إلينا لتتوقف في مكان يبعد عشرات الامتار عن الموقع الذي كنا متأهبين فيه لأداء السلام الجمهوري.
وحال إلصاق أعلي السلم بباب الطائرة، لم ينتظر اللواء عبد الرحمن عارف وبصحبته العميد سعيد صليبي قائد موقع بغداد واللواء عبد اللطيف جاسم الدراجي وزير الداخلية، والعقيد الركن بشير الطالب آمر لواء الحرس الجمهوري، ومعهم آمر فوجنا، حتي أسرعوا صعوداً الي الطائرة.
عبد السلام عارف يتحدّي
وبينما كنا نتوقع إلغاء مراسيم حرس الشرف، استناداً الي الفكرة التي علمنا أنها ستُطرح علي رئيس الجمهوري، فإذا بالرئيس عبد السلام عارف يطل من باب الطائرة المدنية المصرية، ويقف في أعلي السلم محيياً بيده المستقبلين علي غير عادته في جميع المرات السابقة، وذلك قبل أن ينزل الي أرض المطار بكل هدوء متوجهاً الي حيث (منصة التحية) يرافقه رئيس أركان الجيش ووزير الداخلية، حينها عزفت فرقة موسيقي الجيش بقيادة الملازم الاول عبد السلام جميل السلام الجمهوري العراقي، ليجري المراسيم كاملة بجميع خطواتها ومراحلها قبل أن يتوجه لمصافحة مستقبليه والتوجه الي قاعة الشرف الكبري للجلوس فيها بعض الوقت.
وبعد حوالي ربع ساعة، وبينما كانت السيارة الرسمية السوداء الخاصة برئيس الجمهورية واقفة قرب باب قاعة الشرف الكبري ضمن الموكب الرسمي الخاص، فإذا بسيارة صالون كبيرة مكشوفة دون سقف، حمراء اللون من طراز (لنكولن) قد حضرت لتحلّ محل تلك السيارة السوداء وصعد إليها الرئيس ووقف في حوضها الخلفي وهو يمسك بظهر المقعد الامامي، محيياً الجماهير التي احتشدت علي جانبي الشارع العام المؤدي من المطار الي الجسر المعلق.
وسائل الاعلام العراقية تتجاهل المحاولة الانقلابية
علي الرغم من عظم هذا الحدث وخطورته وتسرّب بعض تفاصيله الي خارج العراق، فإن وسائل الاعلام العراقية التي كانت تحت السيطرة المباشرة للدولة عن طريق وزارة الثقافة والارشاد ظلت هادئة، ولم تشر الي ذكر المحاولة الانقلابية بشكل مطلق طيلة الايام الاربعة التي أعقبت فشلها، بل ان صحف الاحد الموافق التاسع عشر من ايلول (سبتمبر) نشرت أخباراً وصوراً عن زيارة الرئيس جمال عبد الناصر الرسمية المتواصلة للمغرب، والي جانبها تفاصيل عودة الرئيس عبد السلام عارف من الرباط الي بغداد جواً.
بيان رسمي مقتضب
كان الإهمال المتعمد من لدن وسائل الاعلام العراقية التي توجّهها الدولة كما أسلفنا واضحاً، ولرّبما استخفافاً بالحركة الانقلابية والقائمين بها، وكذلك بالذين ساندوهم أو استقبلوهم، إذ لم تشر الي الموضوع لا من قريب ولا بعيد حتي صباح يوم الاثنين العشرين من ايلول (سبتمبر) 1965 حيث صدر بيان رسمي مقتضب في الصفحات الداخلية هذا نصه:
في الساعة العاشرة من مساء الاربعاء الماضي الخامس عشر من ايلول الحالي، حاول نفر من المغامرين القيام بحركة تخلّ بالأمن وسلامة الدولة.
ونظراً ليقظة المسؤولين وقواتنا المسلحة، فقد اُحبطت المحاولة بعد فترة قصيرة، ومن دون أن تُراق قطرة دم... وعلي إثر فشل المحاولة فرّ جُلّ القائمين بها الي الخارج، واُلقي القبض علي الباقين. ويأخذ التحقيق مجراه القانوني الطبيعي.
ونود أن نؤكد للمواطنين أن الأمن مستتب في أنحاء البلاد كافة، وأنه لم يحدث منذ قيام تلك المحاولة ما يكدّر صفو الامن والنظام ويقلق راحة المواطنين.
ويسرنا أن يطمئن المواطنون جميعاً الي أن الحكومة والقوات المسلحة قائمة بواجبها أحسن قيام، وساهرة علي المصلحة العامة وراحة المواطنين .
ويبدو من نص البيان ان الحكومة العراقية بعد عودة عبد السلام عارف الي بغداد بسلام لم تشأ أن تعطي للحدث أهمية تذكر، إذ لم تأت علي الجهة أو الاشخاص الذين شاركوا بالمحاولة الانقلابية، كما لم تحشر اسم الجمهورية العربية المتحدة والرئيس جمال عبد الناصر خشية حدوث مشاكل سياسية غير محمودة في عقباها.
تشكيل حكومة جديدة
في يوم الثلاثاء، الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر) أعلنت حكومة جديدة برئاسة السيد عبد الرحمن البزاز الذي احتفظ بحقيبة الخارجية أيضاً. إذ نشرت صحف اليوم التالي (الاربعاء) مرسومين جمهوريين الاول جاء فيه:
بناءً علي فرار عارف عبد الرزاق رئيس الوزراء السابق خارج العراق، فقد أعفيناه من رئاسة الوزراء ، اما المرسوم الثاني فنص علي تشكيل الوزارة برئاسة السيد عبد الرحمن البزاز مستوزراً اربعة وزراء جددا، وأبقي علي جميع وزراء حكومة عارف عبد الرزاق بمناصبهم دون أي تغيير، والوزراء الاربعة الجدد هم:
اللواء الركن عبد العزيز العقيلي وزيراً للدفاع، ووزيراً للمواصلات وكالة، وفارس ناصر الحسن وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية بدلاً من جمال عمر نظمي، وكاظم الرواف وزيراً للعدل بدلاً من حسين محمد السعد، والدكتور عبد الحميد الهلالي وزيراً للاقتصاد بدلاً من شكري صالح زكي.
مؤتمر صحافي للبزاز
وفي مساء يوم الاربعاء، الثاني والعشرين من ايلول (سبتمبر) عقد رئيس الوزراء الجديد مؤتمراً صحافياً، تطرق خلاله ـ ضمن اُمور تفصيلية عديدة اخري ـ الي المحاولة الانقلابية التي قادها عارف عبد الرزاق، وذكر أن ستة عشر عسكرياً وستة مدنين اُعتقلوا وأن تسعة وعشرين عسكرياً واثني عشر مدنياً فرّوا في أعقاب المحاولة الفاشلة المخلّة بالأمن، وأن عدد المعتقلين الذين لا يزال التحقيق جارياً معهم بحدود عشرين شخصاً، مؤكدا أن العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة سليمة وودية.
حقائق جديدة عن حركة عارف عبد الرزاق وأسباب فشلها
في الحقيقة ان كثيرا من التساؤلات والاستفسارات المحيرة التي علقت في نفوسنا ـ نحن ضباط الحرس الجمهوري في حينه ولدي العراقيين ـ لم نجد لها اجابات محددة عن اسباب اخفاق تلك الحركة، والمفارقات التي صاحبتها.
وذلك طيلة اكثر من ثلاثين عاماً، حتي انتهيتُ من كتابة فصول ومباحث عديدة من هذا الكتاب وصولاً الي فصله ما قبل الأخير.
كان الذي يحّيرني اكثر من غيري، بادئ ذي بدء، هو: ما الذي أدي بعارف عبد الرزاق واولئك الذين كانوا بصحبته، الي استحضار خطوة تراجعية جعلتهم يتوجهون الي مطار عسكري قبل ان يستنفدوا كل ما في جعبتهم؟ فكان حق التاريخ يفرض عليّ ان أزُور اُناساً كانوا قد صنعوا جزءاً محدداً، أو أجزاء معينة من ذلك الحدث، أو شاركوا في بعضه، أو أولئك الذين كانوا في قلب الحدث نفسه، أو شاهدوا بأم أعينهم قسماً منه، وذلك بحكم المناصب التي كانت مناطة إليهم في تلك الايام.
حديث مع المرافق الشخصي لعارف عبد الرزاق
شددت الرحال أول الامر الي مدينة كركوك التي ولدتُ فيها ونشأتُ لألتقي الرائد المتقاعد إحسان عارف آغا البيرقدار المرافق الشخصي لعميد الجو الركن عارف عبد الرزاق منذ تسلّمه منصب قائد القوة الجوية أواخر عام 1963 ولعامين متتالين، والذي رافقه أخيراً في الطائرة التي أقلّته الي القاهرة ظهر يوم الخميس، السادس عشر من أيلول (سبتمبر) 1965.
تبادلتُ معه أطراف الحديث في اُمور عديدة، بدءاً من أسباب اختياره مُرافقاً شخصياً لعارف عبد الرزاق علي الرغم من عدم انتمائه الي أية كتلة سياسية كانت قائمة في العراق وقواته المسلحة، وخصوصا (الكتلة القومية) وانتهاءً بمشاهداته الشخصية ومعايشته لأحداث وساعات يوم الحركة الانقلابية، وما تلاها من أحداث قائلا:
كان المقدم الركن عارف عبد الرزاق آمراً للسرب السادس المجهز لوحده بطائرات (هوكرهنتر) بريطانية المنشأ في مطار الحبانية العسكري، عندما صدر أمر تعيينه آمراً لذلك المطار بُعيد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وكنتُ حينها ضابطاً برتبة ملازم ثان هناك، وبسبب معرفة المقدم عارف بأنني ابن أخت آمره السابق في وحدات القوة الجوية العقيد الطيار نافع عبد الله الصالحي، فقد قرّبني إليه كثيراً، وراعاني مراعاة أخ كبير لأخيه الصغير.
وعندما اُحيل علي التقاعد وأودع السجن، إثر فشل ثورة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في الثامن من آذار (مارس) 1959 وخلال المدّ الشيوعي الذي ساد العراق خلال النصف الاول من ذلك العام، كنت أزوره في السجن (رقم واحد) في معسكر الرشيد، وأذهب الي دار سكناه بمدينة الضباط في حي (زيونة) بعد إطلاق سراحه وفرض الإقامة الجبرية عليه، ويبدو انه لم ينس موقفي ذاك، معتبراً إياه وفاءً مني، لذلك فقد استمرت علاقاتي معه بعد ثورة 14 رمضان 1963، وعندما تسنّم منصب قائد القوة الجوية العراقية في الشهر الاخير من عام 1963، أصدر أمراً بنقلي الي وظيفة (المرافق الشخصي) إذ بقيتُ ملازماً له حتي السادس عشر من أيلول (سبتمبر) 1965.
ويضيف الرائد احسان ان عارف عبد الرزاق كان عضواً بارزاً في المجلس الوطني لقيادة الثورة، إضافة الي منصبه العسكري الكبير، وأحد أهم قادة الكتلة القومية التوّاقين الي قيام دولة الوحدة بين العراق ومصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، يؤيده في ذلك جميع قياديي الكتلة نفسها، وغيرهم من بعض كبار وصغار ضباط القوات المسلحة العراقية، وعدد من الوزراء وكبار الشخصيات والسياسيين، ولما بات الاعتقاد السائد لديهم أن الرئيس عبد السلام عارف قد أمسي يتباطأ في العديد من خطوات الوحدة المزمعة، فقد قدّم عدد من الوزراء استقالالهم، وكان في مقدمتهم اثنان من أصدق أصدقائه، وهما العميد الركن عبد الكريم فرحان وزير الثقافة والارشاد، والعقيد الركن صبحي عبد الحميد وزير الداخلية آنذاك، وقد لاحظتُ قبل ذلك بأشهر عديدة، وخلال عام 1965، امتعاض عارف عبد الرزاق من إسناد بعض المناصب الوزارية الي بعض الشخصيات، وكنت أسمع منه بحكم عدم وجود ما يحجبني عنه سوي باب خشبي، عبارات غضب مع بعض زائريه أو علي الهاتف، وحتي مع رئيس الجمهورية عبد السلام عارف من خلال مكالماته الهاتفية معه، والتي تجسّمت بشكل ملحوظ بعد إسناد منصب وزير الدفاع الي اللواء الركن محسن حسين الحبيب، الذي لم يكن له دور يذكر ـ حسب رأي عارف عبد الرزاق ـ في ثورتي 14 تموز (يوليو) 1958 و14 رمضان 1963.
وعلي أية حال ـ والحديث للرائد البيرقدار ـ علي الرغم من العلاقات التي شابها الحذر والبرود بين الكتلة القومية والسيد رئيس الجمهورية في اعقاب (أزمة تموز ـ يوليو ـ 1965) فإن عبد السلام عارف فاجأ عارف عبد الرزاق بتكليفه تشكيل وزارة جديدة برئاسته في السادس من ايلول (سبتمبر) 1965، مُسنداً إليه منصب وزير الدفاع ايضا، ومن دون أن يعفيه رسمياً من منصبه كقائد للقوة الجوية، ولكني وجدته متأثراً في أحاديثه مع زائريه ومهنئيه، بعد أن انتقل الي مبني مجلس الوزراء، من قرار اتخذه رئيس الجمهورية بتعديل الدستور المؤقت( يقضي بإلغاء المجلس الوطني لقيادة الثورة الذي كان يضم في عضويته عددا من قادة (الكتلة القومية) البارزين. وقبل ان يسافر الرئيس عبد السلام عارف الي المغرب لحضور اجتماعات مؤتمر القمة العربي الثالث بيوم واحد، أصدر مرسوماً جمهورياً بتشكيل مجلس جمهوري ينوب عنه طيلة مدة غيابه عن العراق وضّم كلاً من عارف عبد الرزاق وعبد اللطيف الدراجي وزير الداخلية، واللواء عبد الرحمن محمد عارف رئيس أركان الجيش وكالةً.
التمهيد للحركة الانقلابية
ويستطرد المرافق الشحصي للعميد عارف عبد الرزاق في حديثه:
لم يمض سوي يوم واحد علي مغادرة عبد السلام عارف للعراق، حتي جلبت سمعي ونظري، وبحكم وظيفتي، ومنذ ظهيرة يوم الإثنين الثالث عشر من أيلول (سبتمبر) 1965 اتصالات هاتفية وزيارات شخصية متكررة قام بها العديد من قادة الكتلة القومية البارزين، وأخص منهم بالذكر، العميد الركن عبد الكريم فرحان، والعميد الركن محمد مجيد معاون رئيس أركان الجيش، والعقيد الركن هادي خماس مدير الاستخبارات العسكرية، والعقيد الركن عرفان عبد القادر وجدي آمر الكلية العسكرية، والمقدم الركن رشيد محسن مدير الأمن العام وأشخاص آخرون لم أستطع التعرف عليهم ولكن من دون أن أنتبه الي ما يجري بينهم من أمور، أو أسمع ما يدور معهم من أحاديث خاصة.
البدء بالتنفيذ
مضي يومان علي هذا المنوال، حتي فوجئتُ عصر يوم الاربعاء الخامس عشر من أيلول (سبتمبر) بمجاميع من ضباط ذوي رتب صغيرة (ملازمين أو ملازمين أولين) وقد اُوتي بهم تباعاً في سيارات عسكرية ومدنية مختلفة الطُرز الي مبني المجلس الوطني الذي تستقر فيه رئاسة مجلس الوزراء، حتي بلغ عددهم حوالي مائتي ضابط مع حلول الليل وكان العديد منهم ـ حسبما علمتُ بعدئذ ـ من صنوف (الصاعقة والمظليين والمغاوير) الذين اشتركوا خلال عام 1964 بدورات تدريبية خاصة لدي المؤسسات التدريبية للجيش المصري.
تجمّع الضباط المذكورون في (قبو) مبني مجلس الوزراء الواسع، وباتوا مسلحين إما بغدارات (سترلنك) أو بالمسدسات أو بكليهما معاً، وعلمتُ بعد ذلك أن الذي أشرف علي تجميعهم وتسليحهم هو العقيد الركن هادي خماس مدير الاستخبارات العسكرية الذي كان متواجداً في مكتب رئيس الوزراء خلال تلك الساعات، لاستخدامهم كمجموعات اقتحامية ضمن محاولة انقلابية وتنفيذ مهمات محددة خاصة.
للراغبين الأطلاع على الحلقة العاشرة:
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/10218-2014-05-04-18-49-01.html
838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع