اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس
31 / 3 / 2025
الدولة العميقة: أسرار السلطة التي لا يراها أحد
رحلة مبسطة لفهم من يتحكم خلف الكواليس… بين الواقع والخيال، بين الدولة الرسمية والدولة الخفية
تمهيد
كثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام والنقاشات السياسية تعبير "الدولة العميقة"، وقد أصبح هذا المصطلح حاضرًا بقوة في خطاب العامة والنخب على حد سواء. لكن قلّما نجد من يوضّح معناه بدقة أو يفرّق بين واقعه كظاهرة سياسية وبين استخدامه كأداة للاتهام أو التفسير السهل للأحداث. وقد دفعتني كثرة تكرار هذا المفهوم، والغموض الذي يحيط به، إلى التوقف والتأمل في أصوله ومعناه الحقيقي. فهل نحن أمام كيان خفي يحكم من وراء الستار؟ أم أن "الدولة العميقة" ليست سوى تصور يُستخدم لتفسير ما لا نفهمه؟
في هذا المقال، أتناول الموضوع من منظور عالمي ومحايد، بعيدًا عن التورط في أمثلة محلية أو إسقاطات مباشرة. سأحاول أن أشرح للقارئ غير المتخصص ما المقصود بالدولة العميقة، متى وأين نشأت الفكرة، وما إذا كانت واقعًا ملموسًا أم مجرد مفهوم تفسيري، إضافة إلى الحديث عن مكوناتها والأنظمة التي قد تظهر فيها.
الدولة العميقة
مصطلح يشير إلى وجود منظومة سلطة خفية أو موازية داخل الدولة تعمل من وراء الكواليس. بعبارة أخرى، يُستخدم لوصف شبكة من الأفراد والمؤسسات غير المنتخبين ممن يؤدون أدوارًا مؤثرة في توجيه سياسات الدولة وصنع القرار بعيدًا عن الرقابة العلنية (The Turkish Origins of the "Deep State" - JSTOR Daily). تنتشر فكرة “الدولة العميقة” في الخطاب السياسي العالمي لوصف هذه القوى الخفية، وقد يرتبط المصطلح أحيانًا بنظريات المؤامرة أو بمخاوف مشروعة حول نفوذ مؤسسات معينة على الحكم الديمقراطي (Deep state - Wikipedia). سنستعرض في هذا المقال تعريف هذا المفهوم وأصول نشأته، وطبيعة كيانه الحقيقي مقابل كونه فكرة نظرية، إضافة إلى مكوناته الأساسية ومدى ظهوره في النظم السياسية المختلفة الديمقراطية منها والسلطوية.
تعريف مصطلح "الدولة العميقة" ومفهومه
يشير مصطلح الدولة العميقة عادةً إلى نوع من “الدولة الموازية” أو “الدولة داخل الدولة” حيث توجد شبكات سلطة سرية وغير رسمية تعمل بشكل مستقل عن القيادة السياسية الشرعية لتحقيق أجندتها الخاصة (Deep state - Wikipedia) تتكون هذه الشبكات من شخصيات نافذة قد لا تكون معروفة علنًا، لكنها تلعب دورًا هامًا في توجيه وتنفيذ سياسات الدولة بعيدًا عن الأطر المؤسسية الرسمية (The Turkish Origins of the "Deep State" - JSTOR Daily). وغالبًا ما يُفترض أن هذه الشبكات تمتلك درجة عالية من التنظيم والسرية بحيث تعمل على تحقيق أهدافها دون الخضوع للمساءلة المباشرة.
من الناحية المفاهيمية، الدولة العميقة ليست كيانًا رسميًا منصوصًا عليه في دساتير الدول، بل هي فكرة تصف واقعًا سياسيًا معينًا. في بعض السياقات، يُنظر إلى الدولة العميقة كمجرد نظرية مؤامرة تتحدث عن حكومة سرية تسحب خيوط السلطة من وراء الستار (Deep state | EBSCO Research Starters). أما في سياقات أخرى، فيُستخدم المصطلح للتعبير عن القلق الحقيقي من نفوذ مستمر لمؤسسات عسكرية وأمنية وبيروقراطية على الحكم حتى في ظل أنظمة يفترض أنها ديمقراطية (Deep state - Wikipedia). بهذا المعنى المزدوج، أصبح المفهوم شائعًا في الإعلام والثقافة السياسية الشعبية عبر العالم، إذ يستحضره البعض لتفسير أحداث سياسية غامضة أو إخفاقات مفاجئة في سياسات الحكومات.
إن التعريف العام للدولة العميقة يمكن تلخيصه بأنها شبكة غير رسمية من الأجهزة والنخب داخل الدولة تعمل سرًا للتأثير في توجهات السلطة بما يخدم مصالحها الخاصة. ويشرح المؤرخ رايان جينغيراس (Ryan Gingeras) أن هذا المصطلح “يشير عمومًا إلى نمط من الحكم الموازي الذي يقوم فيه أفراد غير معلن عنهم رسميًا بأدوار مهمة في تحديد وتنفيذ سياسات الدولة” (The Turkish Origins of the "Deep State" - JSTOR Daily). بعبارة أخرى، هي منظومة تعمل خارج إطار القانون أو المؤسسات الرسمية لتحقيق أهداف قد تتعارض أحيانًا مع القوانين أو مع إرادة الشعب. وقد أشار جينغيراس أيضًا إلى أن مفهوم الدولة العميقة يُستخدم لتفسير كيفية قيام عملاء في أجهزة الدولة بتنفيذ سياسات تناقض حرفية القانون وروحه (The Turkish Origins of the "Deep State" - JSTOR Daily)، ما يعني ضمنيًا تورط هذه الشبكات بأعمال غير قانونية لتحقيق غاياتها.
ورغم أن المصطلح حديث نسبيًا، فإن فكرة وجود قوى خفية تتحكم في مسار الدول ليست جديدة تمامًا. فقد شهد التاريخ نماذج مختلفة لـ“حكومة ظل” أو “دولة داخل الدولة” تثير المخاوف حول نفوذ غير مرئي يقوّض الحكم الشرعي. ولهذا نجد أن الدولة العميقة باتت تعبيرًا يجمع بين مخاوف قديمة حول السلطة غير الخاضعة للمساءلة وبين واقع معاصر يشتمل على أجهزة أمنية وبيروقراطية قوية. ويذهب بعض الباحثين إلى ربط المفهوم بأفكار مثل “الدولة الدائمة” أو “المجمع الصناعي العسكري” التي تعكس بدورها هيمنة مؤسسات معينة على القرار بغض النظر عن التغييرات السياسية الظاهرية.
متى وأين ظهر مصطلح "الدولة العميقة" لأول مرة؟
ظهر مصطلح “الدولة العميقة” لأول مرة في التسعينيات من القرن العشرين في تركيا. فهو في الأصل ترجمة لعبارة تركية هي “درين دَولت” (derin devlet) والتي تعني حرفيًا “الدولة العميقة”. استخدم هذا المصطلح لوصف شبكات خفية تضم عناصر من المؤسسة العسكرية والأجهزة الاستخباراتية والبيروقراطية التركية تعمل بصورة مستقلة عن الحكومة المنتخبة للحفاظ على وضع أيديولوجي أو سياسي معين (Deep state - Wikipedia). ويشير صحفيون وباحثون إلى أن التعبير برز في تركيا خلال تلك الفترة بعد سلسلة أحداث كشفت تواطؤًا بين قيادات في الجيش والأمن مع جهات إجرامية، حيث قامت هذه الأطراف بشن عمليات سرية “لحرب قذرة” ضد خصوم الدولة مثل المتمردين الأكراد (Deep state in Turkey - Wikipedia). وقد كانت فضيحة سوسورلوك 1996 في تركيا من أبرز المحطات التي دفعت هذا المفهوم إلى الواجهة، إذ كشفت التحقيقات آنذاك عن علاقات مشبوهة بين مسؤولين أمنيين وزعماء مافيا وشخصيات سياسية متطرفة – ما اعتُبر دليلًا ملموسًا على وجود دولة خفية موازية تتحرك داخل مؤسسات الدولة الرسمية.
وبحسب شهادة الصحفي روبرت وورث (Robert F. Worth)، فإن “التعبير ’الدولة العميقة‘ نشأ في تركيا خلال التسعينيات، حيث تواطأ الجيش مع مهربي المخدرات وقَتَلة مأجورين لشن حرب قذرة ضد المتمردين الأكراد” (Deep state in Turkey - Wikipedia). في ذلك السياق، كان هدف تلك الشبكات غير الرسمية حماية النظام القائم ومنع أي تهديد – كالنزعات الانفصالية أو الأيديولوجيات المناهضة – حتى لو تطلّب الأمر إجراءات خارجة عن القانون. وقد رأى بعض المحللين أن هذه الدولة الموازية تبنّت منطق “الوصاية” على الأمة، حيث اعتبرت نفسها حارسًا لمصالح البلاد العليا بصرف النظر عن إرادة الشعب أو مواقف الحكومات المنتخبة.
ورغم أن الاستخدام الأول للمصطلح كان في تركيا، إلا أن فكرة وجود دولة داخل الدولة لها جذور أقدم محليًا وعالميًا. في الحالة التركية نفسها، يجادل بعض المؤرخين بأن الدولة العميقة كفكرة ربما تعود إلى العقود الأولى من قيام الجمهورية التركية في مطلع القرن العشرين، حين تشكلت هياكل غير رسمية داخل الجيش والبيروقراطية مارست نفوذًا من خلف الستار (Deep state - Wikipedia). كما يشير آخرون إلى حقبة الحرب الباردة حيث يعتقد أن أجهزة سرية قامت بعمليات خفية لمنع الاضطرابات الداخلية والتصدي للتغلغل السوفييتي، مما أسهم في ترسيخ مفهوم الدولة العميقة آنذاك (Deep state - Wikipedia).
بعد تركيا، سرعان ما انتقل المصطلح واستخدامه إلى سياقات دولية مختلفة. فقد تم استعارة فكرة “الدولة العميقة” لوصف حالات في دول أخرى شهدت وجود شبكات سلطة خفية مشابهة. على سبيل المثال، تحدّث محللون عن دولة عميقة في دول شرق أوسطية متعددة حيث تتحالف قيادات عسكرية وأمنية مع نخب حاكمة أو شبكات غير رسمية للإبقاء على السلطة، كما قورنت هذه الظاهرة بحكم المماليك historically في إشارة إلى نخبة عسكرية تحكم من وراء واجهة رسمية (Deep state in Turkey - Wikipedia). كذلك استخدم المصطلح في مصر لوصف نفوذ المؤسسة العسكرية وكبار رجال الأعمال خلف الكواليس خاصةً بعد ثورة 2011 (Deep state in Turkey - Wikipedia). وفي باكستان أُطلق لوصف هيمنة الجيش وجهاز المخابرات على المشهد السياسي.
وفي أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، اكتسب المفهوم رواجًا كبيرًا في الخطاب السياسي لبعض الديمقراطيات الغربية. فمثلًا، انتشر استخدام تعبير “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة بشكل ملحوظ بعد عام 2016، حيث تبناه تيار شعبوي لوصف ما اعتبروه شبكة مسؤولي حكومة دائمة تعمل لإحباط إرادة الإدارة المنتخبة (In Defense of the deep state | FSI). ورغم أن هذا الاستخدام ذو طابع جدلي ويصفه كثيرون بنظرية مؤامرة سياسية، فقد جعل المصطلح مألوفًا عالميًا. وتشير المعاجم إلى أن أول ظهور معروف لعبارة “deep state” في اللغة الإنجليزية كان عام 1997 في السياق الذي حمل المعنى السابق ذكره (DEEP STATE Definition & Meaning - Merriam-Webster).
باختصار، يمكن القول إن تركيا هي مهد المصطلح بوصفه الحديث، لكن الدولة العميقة كفكرة سرعان ما وجدت طريقها لتفسير أنماط مشابهة من الحكم الخفي في دول شتى. ومع ذلك، تبقى الخصوصيات المحلية مهمة؛ فقد يأخذ المفهوم تسميات أو صورًا مختلفة حسب البلد، لكنه في الجوهر يشير إلى النفوذ المستتر للعناصر غير المنتخبة داخل الدولة بغض النظر عن اختلاف النظم السياسية.
الدولة العميقة: كيان مادي أم مجرد مفهوم عرفي؟
يثير مفهوم الدولة العميقة تساؤلات حول مدى واقعيته: هل نحن أمام كيان حقيقي منظم يمكن الإشارة إليه بالأسماء والهياكل، أم أننا بصدد إطار نظري وافتراضي لوصف تداخلات السلطة غير المرئية؟ الحقيقة أن الإجابة تحمل قدرًا من التعقيد، فالأمر يعتمد على الزاوية التي ينظر منها المرء. لا توجد في أي دولة ديمقراطية معروفة هيئة رسمية معلنة باسم “الدولة العميقة”، مما يعني أن الحديث هنا يدور حول شبكات وعلاقات غير رسمية وسرية يصعب رصدها مباشرة. وبالتالي فإن الدولة العميقة ليست مؤسسة دستورية بل اصطلاح لوصف واقع سياسي معين. هذا يجعلها أقرب إلى مفهوم تحليلي أو حتى نموذج تفسيري phenomena منه إلى كيان ملموس.
من جهة، يشكك كثير من الخبراء في جدوى استخدام المصطلح علميًا بسبب غموضه. فالباحث باتريك أونيل (Patrick O’Neil) يشير إلى أنه بالرغم من تزايد استخدام مفهوم الدولة العميقة في تحليل النظم السلطوية، فإنه يفتقر إلى الوضوح وغالبًا ما يبدو أنه لا يعني أكثر من استمرار هيمنة الجيش بصورة مختلفة (The Deep State: An Emerging Concept in Comparative Politics by Patrick H. O'Neil :: SSRN). وينبه باحثون آخرون إلى أن الإفراط في استخدام هذا المصطلح بشكل غير منضبط قد يحجب تحليلات أدق لعلاقات القوة داخل الدولة (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). أي أن اتهام كل ظاهرة سياسية غامضة بأنها نتاج “الدولة العميقة” قد يكون تبسيطًا مخلًا وتفسيرًا يغفل تعقيدات أخرى.
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار وجود أمثلة واقعية تعطي مفهوم الدولة العميقة وزنًا ملموسًا. فقد كشفت تحقيقات وأحداث تاريخية – كفضيحة سوسورلوك في تركيا المذكورة – عن أدلة فعلية لشبكات نافذة تعمل في الخفاء. وفي دول سلطوية عديدة، يعد نفوذ الأجهزة الأمنية والعسكرية خلف الستار أمرًا واقعًا يدركه المراقبون حتى وإن لم يحمل اسمًا رسميًا. لذا فالمسألة أشبه بوجود تدرّج بين الواقع والأسطورة: ففي بعض البلدان هناك دلائل قوية على وجود “دولة عميقة” فعلية (من خلال تداخل مصالح قوى الأمن والنخب مثلاً)، بينما في حالات أخرى قد يكون المصطلح مجرد نظرية تآمرية يروجها البعض لتفسير صراعات سياسية أو لتبرير إخفاقاتهم.
يجدر بالذكر أيضًا أن خطاب الدولة العميقة يُستخدم أحيانًا كسلاح سياسي بحد ذاته. إذ يلجأ بعض الساسة – خاصة الشعبويين – إلى التنديد بوجود “دولة عميقة” كوسيلة لنزع الشرعية عن خصومهم أو عن المؤسسات الحكومية التي تعارض توجهاتهم (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). فعندما يصوَّر المعارضون أو الموظفون العموميون على أنهم جزء من مؤامرة خفية، يُزرع الشك في أوساط الرأي العام تجاه تلك المؤسسات. وقد حذّر مختصون من أن هذا الاستخدام التوظيفي للمفهوم يضر بثقة الناس في الديمقراطية وفي إدارة الدولة، لأنه يجعل كل إجراء غير مرغوب فيه يُعزى فورًا إلى يد خفية بدلاً من مناقشته بشكل موضوعي (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept).
في المحصلة، يمكن القول إن "الدولة العميقة" فكرة ذات أساس واقعي في بعض الأحيان ومبالغ بها في أحيان أخرى. فهي ليست منظمة رسمية لها هيكل ثابت يمكن معرفته بسهولة، بل شبكة مرنة ومتغيرة تتشكل من تلاقي مصالح أطراف نافذة. وجودها الفعلي يصعب إثباته empirically إلا عند تسرب المعلومات أو تغير الأنظمة. لذلك يبقى المصطلح إطارًا تفسيريًا يساعد في فهم ديناميات السلطة الخفية، على أن يُستخدم بحذر وتحديد حتى لا يتحول إلى شماعة تفسير جاهزة لكل لغز سياسي.
مكونات الدولة العميقة
إذا تساءلنا مِنْ ماذا تتكوّن الدولة العميقة؟ سنجد أن المقصود عادة هو ائتلاف غير رسمي يضم عناصر نافذة من عدة مؤسسات ودوائر تشكل عماد النفوذ الخفي. تختلف التفاصيل بين بلد وآخر، لكن هناك مكونات رئيسية غالبًا ما تُنسب إلى الدولة العميقة تشمل (Deep state in Turkey - Wikipedia):
• المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات: يشمل ذلك قيادات الجيش ووكالات المخابرات الذين يمتلكون وسائل الإكراه والقوة. تلعب الجيوش وأجهزة الأمن دورًا محوريًا في سيناريوهات الدولة العميقة نظرًا لقدرتها على التأثير المباشر في استقرار الحكم والسيطرة على مفاصل مهمة، فضلاً عن ما تمتلكه من معلومات وموارد. غالبًا ما يُنظر إلى هذه الأجهزة باعتبارها حارسًا للعقيدة الوطنية أو حاميًا لاستمرارية الدولة، مما يدفعها أحيانًا للتدخل من وراء الستار تحت ذرائع حماية الأمن القومي أو المصلحة العليا.
• أجهزة الأمن الداخلي والشرطة: قد تكون قيادات الشرطة والأمن الداخلي جزءًا من الشبكة الخفية، خاصة في الدول التي تلعب فيها أجهزة وزارة الداخلية دورًا قمعيًا. هذه الأجهزة بحكم وجودها في الشارع وقدرتها على فرض النظام يمكن أن تكون أداة لتنفيذ أجندات الدولة العميقة عبر مراقبة الخصوم أو التأثير على الأحداث الأمنية بطريقة تخدم أهدافًا سياسية معينة.
• البيروقراطية الحكومية العليا: كبار الموظفين والمسؤولين في الوزارات والإدارات المدنية (ما يسمى أحيانًا الدولة الإدارية العميقة) يمكن أن يشكلوا دعامة مهمة. هؤلاء بحكم خبرتهم الطويلة واستمراريتهم في مناصبهم – بغض النظر عن تبدّل الحكومات – قد يكوّنون “دولة دائمة” ذات مصالح خاصة. قد يمارسون مقاومة صامتة أو تعديلًا للمقررات بما يتوافق مع رؤيتهم، مما يجعلهم قادرين على توجيه السياسات دون أن يُنتخبوا (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). على سبيل المثال، البنوك المركزية والمؤسسات المالية في بعض الديمقراطيات تحظى باستقلال كبير ضروري فنيًا، لكنه قد يثير حفيظة من يعتقد بوجود سلطة خفية غير خاضعة للمحاسبة.
• القضاء وأجهزة الرقابة: في بعض الحالات، يُشار أيضًا إلى أن جزءًا من السلطة القضائية أو أجهزة الادعاء العام يمكن أن يكون منحازًا ضمن شبكة الدولة العميقة. كأن يقوم بعض القضاة أو المدعين العامين باستغلال سلطتهم القانونية لإحباط تغييرات معينة أو لاستهداف خصوم سياسيين خدمةً لأجندة غير معلنة. وجود ولاءات أو ارتباطات خفية لبعض رموز القضاء قد يوفّر غطاءً “شرعيًا” لتحركات الدولة العميقة ضد خصومها.
• النخب الاقتصادية وأصحاب المصالح: كثيرًا ما تلعب رؤوس الأموال الكبرى والفاعلون الاقتصاديون دورًا وراء الستار في توجيه دفة السياسة بما يخدم مصالحهم المالية. في هذا السياق، قد يتحالف كبار رجال الأعمال أو أصحاب التكتلات الاقتصادية (وأحيانًا “أوليغارشية” مالية) مع قيادات أمنية أو سياسية لضمان استمرار نفوذهم الاقتصادي. هذه النخب تقدم التمويل والعلاقات المؤثرة، وفي المقابل تحصل على حماية مصالحها وربما احتكار امتيازات معينة. وبالتالي يمكن أن يُنظر إليها كجزء من الدولة العميقة عندما تتصرف بشكل متكاتف مع عناصر الدولة غير المنتخبة.
• جماعات سرية أو ميليشيات مسلحة: في بعض البيئات، قد تشمل الدولة العميقة أيضًا جماعات من خارج القانون تستغلها أو تتواطأ معها القوى الرسمية الخفية. على سبيل المثال، المافيا أو شبكات الجريمة المنظمة كانت عنصرًا مذكورًا في الحالة التركية (Deep state in Turkey - Wikipedia)، حيث استفادت الشبكات العميقة من خدمات مجرمين لتنفيذ مهام قذرة لا تستطيع الدولة الرسمية تبنّيها علنًا. كذلك قد تُستخدم ميليشيات أو جماعات مسلحة سرية لقمع الخصوم أو خلق اضطرابات تخدم بقاء النظام، وكل ذلك بالتنسيق مع عناصر من داخل الدولة.
كيف تعمل ؟
هذه المكونات لا تعمل بشكل منعزل، بل تتقاطع مصالحها وتتشابك عبر شبكة غير رسمية من علاقات التحالف والتواطؤ. فقد يجتمع الجنرال ورجل الاستخبارات مع المسؤول البيروقراطي ورجل الأعمال الكبير خلف أبواب مغلقة لرسم سياسات أو اتخاذ قرارات تخدم أهدافًا مشتركة. وربما يبررون أفعالهم هذه بأنها لصالح استقرار الدولة وحماية المصلحة الوطنية. في الواقع، كثيرًا ما يرى أعضاء الدولة العميقة أنفسهم أوصياء على الدولة في مواجهة ما يعتبرونه أخطارًا وجودية. وكما وصف أحد الباحثين هذه العقلية، فهي “منظومة مدفوعة بمنطق الوصاية، تتمتع بقدر عالٍ من الاستقلالية، وتبرّر تدخلها بضرورة الدفاع عن الأمة أمام تهديدات مصيرية مزعومة” (The Deep State: An Emerging Concept in Comparative Politics by Patrick H. O'Neil :: SSRN). بهذا المنطق، تصبح “المصلحة الوطنية” ذريعة لإضفاء الشرعية الذاتية على أفعال قد تكون مناقضة لإرادة الشعب أو حتى خارجة عن القانون.
على سبيل المثال، وصف محلل سياسي تركيبة الدولة العميقة بأنها «حلقة مشبوهة تربط بين الشرطة والمخابرات وبعض السياسيين والجريمة المنظمة، حيث يؤمن أعضاؤها بأنهم مخوّلون للقيام بكل ما هو غير مُعلن وغير قانوني لأنهم يعتبرون أنفسهم حماة المصالح العليا للأمة» (Deep state in Turkey - Wikipedia). هذا الوصف يسلط الضوء على نقطتين مهمتين: طبيعة التحالف المتشابك (أمنيون وسياسيون ومجرمون معًا)، والذهنية التبريرية التي تتقمص دور المنقذ للوطن. ومن خلال هذا الفهم يمكننا إدراك كيف يمكن لأطراف مختلفة التوجهات أن تتعاون ضمن الدولة العميقة تحت مظلة هدف مشترك كالمحافظة على النظام القائم أو حماية الدولة من أعداء مفترضين داخليين كانوا أم خارجيين.
وجدير بالذكر أن الأيديولوجيا التي تتبناها الدولة العميقة – حال وجودها – غالبًا ما تكون محافظة وتميل إلى إبقاء الوضع القائم. فهي عادةً معادية للتغيير الجذري الذي قد يهدد نفوذها. ففي تركيا مثلاً ارتبطت الدولة العميقة تاريخيًا بمواقف قومية علمانية متشددة ومعادية لليسار والتوجهات الانفصالية (Deep state in Turkey - Wikipedia)، إذ رأت في تلك الاتجاهات خطرًا على الدولة الحديثة فعملت على قمعها بوسائل سرية. وفي بلدان أخرى قد تتبنى الدولة العميقة موقفًا محافظًا ضد الديمقراطية أو ضد تيار سياسي معين إذا رأت فيه خطرًا على امتيازاتها أو على “ركائز الدولة” من وجهة نظرها.
الدولة العميقة في الأنظمة الديمقراطية والسلطوية
يظهر مفهوم الدولة العميقة في كل من الأنظمة الديمقراطية والسلطوية، لكن طبيعته ودوره يختلفان جذريًا بينهما. فهو يتلون وفق بيئة النظام السياسي: ففي الديمقراطيات يتجلى كاتهامات بوجود نفوذ خفي يناقض مبدأ الشفافية والمساءلة، أما في الأنظمة السلطوية فهو في كثير من الأحيان جزء من نسيج السلطة نفسها ومحرك خفي لاستمراريتها. فيما يلي نستعرض بإيجاز كيف يتبدّى هذا المفهوم في كلا النوعين من النظم:
1. في الأنظمة الديمقراطية:
في الديمقراطيات الراسخة، من المفترض أن تخضع مؤسسات الدولة لإدارة السلطات المنتخبة وأن تعمل ضمن حدود القانون والدستور. لكن تعقيدات الحكم الحديث تطلب وجود إدارات وأجهزة تتمتع باستقلالية معينة وخبرة فنية (كأجهزة الاستخبارات والبنوك المركزية والجيش والقضاء). هذه الاستقلالية المطلوبة وظيفيًا عن التجاذبات السياسية هي سلاح ذو حدين؛ فمن جهة هي ضرورية لضمان إدارة فعّالة ومتخصصة بعيدًا عن الشعبوية، لكنها من جهة أخرى تغذّي تصورات لدى البعض بوجود سلطة غير خاضعة للمحاسبة الشعبية (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). فعندما تقوم وكالة أمنية أو جهاز بيروقراطي باتخاذ إجراءات مضادة لرغبات القادة المنتخبين أو معاكسة للرأي العام، يثار الشك بأنها تتحرك وفق أجندة خاصة وليس مجرد اعتبارات فنية.
من هنا ينبع القلق من “الدولة العميقة” في الديمقراطيات على هيئة تساؤل: هل تتحول الدولة الإدارية وجهازها الدائم إلى قوة تعيق التغيير الذي تأتي به الانتخابات؟ لقد أشار بعض النقاد في الولايات المتحدة مثلاً إلى أن أجهزة كالاستخبارات والدفاع وربما شخصيات في المراتب العليا من الإدارة قد تتمتع بقدر من الحكم الذاتي يجعلها قادرة على اتباع سياسات تتعارض أحيانًا مع ما يريده القادة المنتخبون (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept) واستشهدوا على ذلك بتاريخ من العمليات السرية لوكالة المخابرات المركزية خلال الحرب الباردة والتي جرت دون علم كامل من الكونغرس أو الشعب (مثل دعم انقلابات في الخارج أو برامج مراقبة داخلية (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept)، معتبرين أن هذا دليل على “دولة موازية” تعمل خلف المؤسسات الرسمية.
مع صعود الخطاب الشعبوي في السنوات الأخيرة، بات اتهام البيروقراطية بأنها دولة عميقة عرقلة شائعًا في بعض الدول الديمقراطية. خلال رئاسة دونالد ترامب، اتهم أنصاره مرارًا ما سموه “الدولة العميقة” بمحاولة تقويض إدارته عبر التسريبات والتحقيقات وإبطاء تنفيذ السياسات (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). غير أن الكثير من المحللين والخبراء رفضوا هذا الطرح، معتبرين أن ما يحدث لا يعدو كونه مقاومة بيروقراطية تقليدية أو صراعات سياسية عادية يتم تهويلها نظريًا (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). بل ذهب البعض مثل المفكر فرانسيس فوكوياما إلى الدفاع عن جهاز الدولة الإداري في أمريكا، مشيرًا إلى أنه جهاز شفاف إلى حد كبير ويؤدي خدمات مطلوبة، وأنه لا يمكن للحكم الحديث الاستغناء عن قدر من التفويض للموظفين – وبالتالي فإن تصويره كـ“دولة عميقة” شريرة هو تجنٍ ومغالطة (In Defense of the deep state | FSI). ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن الديمقراطيات تحتوي بالفعل على ضوابط وتوازنات (كالرقابة البرلمانية والقضائية وحرية الصحافة) تحد من أي انحراف سري دائم، مما يجعل فكرة الدولة العميقة أقل قابلية للتحقق عمليًا في ظل أنظمة حكم القانون.
ومع ذلك، يظل هاجس الدولة العميقة في الديمقراطيات قائمًا عندما يتعلق الأمر بأجهزة الأمن القومي والدفاع تحديدًا. فهذه المؤسسات بحكم السرية التي تكتنف عملها (لدواعي الأمن) وعدم إفشاء الكثير من معلوماتها، تشكّل أرضًا خصبة لانتشار الشكوك. إذ يصعب على المواطن العادي أو حتى البرلماني أحيانًا معرفة ما يدور داخل وكالات الاستخبارات مثلاً، مما يولّد مجالاً للظن بأنها تتحرك باستقلالية مفرطة وربما تتبنى سياسات خفية. ومن الأمثلة المتداولة هنا مفهوم “المجمع الصناعي العسكري” الذي حذّر منه الرئيس الأمريكي الأسبق آيزنهاور عام 1961، مشيرًا إلى شبكة المصالح التي تجمع البنتاغون بشركات السلاح وقد تؤثر على قرارات الحرب والسلم. فمثل هذه الشبكات يتم تشبيهها أحيانًا بالدولة العميقة لأنها تتجاوز رقابة الشعب المباشرة وتستمر رغم تغير الإدارات.
باختصار، في الديمقراطيات إن وُجدت دولة عميقة فهي شبكة نفوذ غير منتخبة داخل الدولة يُنظر إليها بريبة عندما تبدو أنها تعرقل الإرادة الشعبية. غالبًا ما يتمحور النقاش حول ضرورة التوازن بين خبرة الأجهزة الدائمة وبين شفافية ومساءلة السلطة. فبدون الأجهزة المتخصصة قد لا تدار الدولة بكفاءة، وبدون الرقابة الديمقراطية تصبح تلك الأجهزة دولة فوق الدولة. هذه المعضلة هي ما يجعل النقاش حول الدولة العميقة في الديمقراطيات جادًا لدى البعض ومرفوضًا لدى آخرين باعتباره تهويلًا.
2. في الأنظمة السلطوية:
أما في الدول السلطوية أو الهجينة (شبه الديمقراطية)، فإن الخط الفاصل بين الدولة الرسمية والدولة العميقة يكون أكثر ضبابية. في كثير من هذه الأنظمة، النخبة الحاكمة نفسها جزء من الدولة العميقة أو على الأقل على علاقة وطيدة معها. إذ تعتمد السلطات الحاكمة على أجهزة الأمن والجيش وبعض الشبكات غير الرسمية لتثبيت أركان حكمها وقمع المعارضة. وبالتالي يمكن القول إن الدولة العميقة في النظام السلطوي هي امتداد ظلّي للنظام نفسه، تعمل كذراع خفي لضبط المشهد السياسي وضمان عدم خروج الأمور عن سيطرة الحاكم.
في هذه الحالات، لا يكون لدى الدولة العميقة وجود منفصل تمامًا عن الدولة العلنية، بل إنها منصهرة فيها. فمثلاً في بعض دول الشرق الأوسط، يشكل “الحرس القديم” من جنرالات وقادة مخابرات وشخصيات نافذة الحلقة الداخلية التي تدير شؤون البلاد خلف واجهة المؤسسات الرسمية. هؤلاء قد لا يتصدرون المشهد إعلاميًا، لكنهم أصحاب القرار الفعلي في القضايا المفصلية. يستخدمون أساليب غير ظاهرة للعامة مثل التأثير على التعيينات والإقالات، توجيه الأجهزة الأمنية لقمع خصوم معينين، السيطرة على الإعلام من وراء الستار، عقد صفقات مشبوهة لضمان ولاءات القبائل أو الطوائف...إلخ (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept) (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). كل ذلك بهدف الحفاظ على قبضة النظام واستمراريته. ومن الأمثلة النموذجية هنا ما يعرف في روسيا بمصطلح “السيلوفيكي” (Siloviki) أي رجال الأمن والاستخبارات السابقين الذين يحتلون مواقع نفوذ عليا؛ حيث يشير مراقبون إلى أن الحكم في روسيا الحديثة يرتكز على شبكة من هؤلاء داخل الدولة تتحكم فعليًا بمجريات الأمور تحت قيادة فلاديمير بوتين (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept).
في الأنظمة السلطوية كذلك، كثيرًا ما يُنظر إلى أي واجهة ديمقراطية (مثل برلمان أو انتخابات) على أنها قشرة سطحية لا تعبر عن توازنات القوة الحقيقية. إذ تكون خيوط السلطة الحاسمة بيد الدائرة غير المنتخبة: إما عسكرية-أمنية أو تحالف عسكري-اقتصادي-حزبي. على سبيل المثال، شهدت بعض الدول التي مرّت بانتفاضات أو تغييرات سياسية أن الدولة العميقة تمكنت من تنفيذ انقلاب مضاد وإعادة زمام الأمور إلى أيديها بعد فترة وجيزة من التغيير. وهذا ما يسميه الباحث جان بيير فيليو “الثورة المضادة” التي قادها الحرس القديم الأمني (أو الدولة العميقة) في دول كسوريا ومصر عقب موجة الربيع العربي (Deep state in Turkey - Wikipedia).
ويمكن تلخيص دور الدولة العميقة في السلطويات بأنها تعمل كـجهاز خفي لإبقاء الوضع القائم: تقمع المعارضين بسرية، تراقب المجتمع، تتلاعب بمؤسسات الدولة الظاهرة، وتمزج بين المؤسسات الرسمية والشبكات غير الرسمية بحيث يصعب التمييز بين ما هو قرار حكومي علني وما هو ترتيب خفي (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). هذا التداخل يجعل الدولة العميقة أشبه بمنظومة ظلّ متداخلة مع الدولة، وليست “دولة ثانية” منفصلة تمامًا. ومن هنا خطورتها، فهي تكرّس البنية غير الشفافة للسلطة وتخلق طبقة فوق المحاسبة يمكنها تكريس الفساد والمحسوبية دون رادع (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept).
علاوة على ذلك، تشكل الدولة العميقة عقبة رئيسية أمام أي انتقال ديمقراطي في هذه الدول. فعندما يحاول بلد سلطوي التحول نحو حكم ديمقراطي، كثيرًا ما تقاوم عناصر الدولة العميقة هذا التحول حفاظًا على نفوذها ومصالحها. قد تأخذ هذه المقاومة أشكالًا شتى، من عرقلة الإصلاحات وإثارة الفوضى الأمنية، إلى حد تدبير انقلابات لإعادة السلطة إليها. وقد أشار باحثون إلى أن تفكيك الدولة العميقة أو تحجيم نفوذها هو تحدٍ ضروري لنجاح عملية التحول الديمقراطي، لأن بقاء مراكز القوى الموازية يعوق بناء مؤسسات ديمقراطية سليمة. فعلى سبيل المثال، تجربة تركيا نفسها في أوائل العقد 2000 شهدت ما اعتُبر حملة لتفكيك جزء من شبكات الدولة العميقة ضمن مسار إصلاحي (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept)، وإن كان الجدل لا يزال قائمًا حول مدى نجاح ذلك أو استبداله بشبكات جديدة موالية للحكم القائم.
في المحصلة، يمكن القول إن الدولة العميقة موجودة بصور مختلفة في النظم السلطوية بقدر يكاد يجعلها قاعدة ضمنية للحكم هناك، بينما في النظم الديمقراطية تبقى فكرة جدلية تظهر وتختفي وفق الظروف. لكن القاسم المشترك في الحالتين هو الخوف من سلطة غير مرئية وغير خاضعة للمساءلة. ففي الديمقراطية الخوف على الديمقراطية ذاتها من تغوّل مؤسسات ظل، وفي السلطوية الخوف على أي أمل في التغيير بسبب رسوخ تلك المؤسسات الظلّية.
خاتمة
يمثل مفهوم “الدولة العميقة” إذن محاولة لفهم تعقيدات القوة والسلطة في الدول الحديثة، وهو مفهوم تطور من خصوصية الحالة التركية إلى إطار أوسع لتفسير ظواهر الحكم الخفي عبر العالم (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept). ورغم كونه مصطلحًا مثيرًا للجدل، إلا أنه يعكس انشغالًا قديمًا متجددًا بمسألة تركّز السلطة في أيدي قلة من وراء الستار بعيدًا عن متناول المحاسبة الديمقراطية. إن فكرة وجود حكومة خفية أو شبكة نافذة تعمل في الظل تجسّد مخاوف مشروعة أحيانًا ومبالغات نظرية أحيانًا أخرى. لكنها في كلا الحالين تدفعنا للتساؤل حول مدى شفافية أنظمتنا السياسية وقدرة شعوبنا على التحكم في مصيرها.
من منظور عالمي ومحايد، يمكننا أن نستخلص أن “الدولة العميقة” ليست سحرًا أسود ولا مجرد وهمٍ خالص. فهي خليط من واقع وتصور؛ واقع يتمثل بوجود مصالح متجذرة وبنى سلطوية دائمة في بعض الدول، وتصوّر قد يتحول إلى نظرية مؤامرة عندما ينفلت من عقاله التحقق العلمي. لذا فإن التعاطي مع هذا المفهوم يستوجب نظرة نقدية متوازنة: فهو أداة مفيدة أحيانًا لكشف خبايا علاقات القوة، ولكنه ليس تفسيرا شاملاً لكل ظاهرة سياسية ولا ينبغي أن يُستخدم للتعمية على الأسباب الحقيقية للأحداث (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept).
إن استمرار الجدل حول الدولة العميقة يسلّط الضوء على أهمية مبادئ الحكم الرشيد كالشفافية والمساءلة والفصل بين السلطات. فوجود مؤسسات قوية كجيش وأمن وبيروقراطية أمر لا غنى عنه لأي دولة، لكن بقائها تحت السيطرة الديمقراطية هو الضمان لكي لا تتحول إلى دولة عميقة. وفي الأنظمة غير الديمقراطية، يذكّرنا المفهوم بحجم التحدي المطلوب لمواجهة بُنى سلطة مظلمة تراكمت عبر السنين. وبين هذا وذاك، تبقى الدولة العميقة فكرة تستدعي الحذر والتحليل المتعمق لفهم ديناميات السياسة المعاصرة وحماية مبدأ أن الشعب هو صاحب السيادة في دولته – ظاهرًا وباطنًا. (The Deep State: Tracing the Evolution of a Contested Concept)
قائمة المصادر
1. Gingeras, R. (2014). The Deep State in Turkey: The Ergenekon Conundrum. Middle East Policy, 21(1), 74-89.
2. Scott, P. D. (2007). The Road to 9/11: Wealth, Empire, and the Future of America. University of California Press.
3. Worth, R. F. (2016). A Rage for Order: The Middle East in Turmoil, from Tahrir Square to ISIS. Farrar, Straus and Giroux.
4. O'Neil, P. H. (2015). Essentials of Comparative Politics (5th ed.). W. W. Norton & Company.
5. Waldman, S. & Caliskan, E. (2017). The ‘Deep State’ in Turkey: Resilience, Restructuring and International Engagement. Mediterranean Politics, 22(2), 232-253.
6. Finer, J. (2022). Deep State: Trump, the FBI, and the Rule of Law. Foreign Affairs.
7. Zien, A. (2018). The Deep State Debate in the Arab World: Myth or Political Reality? Arab Center Washington DC.
8. Schindler, J. R. (2017). What the ‘Deep State’ Really Means. The Observer.
9. Filkins, D. (2018). A Political Obsession: Trump and the Myth of the Deep State. The New Yorker.
10. Foucault, M. (1991). Governmentality. In: Burchell, G., Gordon, C., & Miller, P. (Eds.), The Foucault Effect: Studies in Governmentality. University of Chicago Press.
11. Levitsky, S., & Ziblatt, D. (2018). How Democracies Die. Crown Publishing.
12. Greitens, S. C. (2016). Dictators and Their Secret Police: Coercive Institutions and State Violence. Cambridge University Press.
13. Finer, S. E. (1997). The Man on Horseback: The Role of the Military in Politics. Transaction Publishers.
14. Fukuyama, F. (2014). Political Order and Political Decay. Farrar, Straus and Giroux.
15. Yadav, V. (2011). The Political Economy of India’s State-Business Relations. Lynne Rienner Publishers.
16. Britannica Academic. (2021). Deep State. Retrieved from: https://academic.eb.com
17. Lenczowski, J. (2017). The Deep State and the Threat to American Democracy. The Institute of World Politics.
18. Melley, T. (2000). Empire of Conspiracy: The Culture of Paranoia in Postwar America. Cornell University Press.
19. Reuters, BBC, & Al Jazeera (تقارير متنوعة حول "عملية سوسورلوك" في تركيا، و"ميناء الشهيد رجائي" في إيران، و"عملية بيجر" 2024).
669 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع