الأستاذ الشيخ إبراهيم المدرس في ذمة الله
د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
يبدو أن قَدَرَ العراق أن يفقد كل يوم عالماً من علمائه الأجلاء، وشخصية من شخصياته النادرة، لتزيد من آلامنا ومواجعنا ونحن نشهد فقدان أناس أكارم يحتاجهم الوطن في ظروفه العصيبة الحالية لكنها إرادة الله، فقد انتقل الى رحمة الله تعالى بمدينة بغداد فضيلة الشيخ المربي الاستاذ ابراهيم منير ابراهيم المدرس العبيدي الاعظمي رئيس جمعية التربية الاسلامية في العراق، ورئيس تحرير مجلتها "التربية الاسلامية"، وأحد علماء الدين الأجلاء في العراق.
والفقيد الراحل من مواليد بغداد الكرخ محلة سوق حمادة عام 1349 هجرية الموافق 1930 ميلادية، أكمل دراستة بالمدرسة الفيصلية الابتدائية بسوق الجديد عام 1943، وأكمل دراسته المتوسطة بمدينة العمارة جنوب العراق عام 1947، ودخل كلية الشريعة بجامعة بغداد الكائنة بالأعظمية واتم القسم الثانوي في عام 1949 وتخرج من الكلية بشهادة البكالوريوس في الشريعة عام 1953.
وفي فترة الدراسة الثانوية الشرعية ببغداد، كانت للشيخ المدرس برامج تربوية ، ومناهج ثقافية، ونشاط دعوي ولقاءات أُسرية، وكتائب روحية، ومعسكرات رياضية، يتولى التوجيه فيها ثلة من العلماء والأساتذة والمربين، وفي مقدمتهم الشيخ أمجد الزهاوي والشيخ محمد محمود الصواف.
واصل دراسته العلمية على أيدي شيوخ بغداد أمثال الشيخ أمجد الزهاوي والشيخ قاسم القيسي والشيخ عبدالقادر الخطيب وغيرهم (يرحمهم الله جميعاً.
عين في عام 1954 مدرسا في ثانوية القرنة في البصرة، وفي سنة 1959 عين معيداً في كلية الشريعة، ثم نقل مفتشا في وزارة الأوقاف، وانتدب للتدريس في كلية الشريعة بمكة المكرمة سنة 1967 وأمضى فيها ثلاث سنوات . ونال درجة الماجستير من الجامعة الاسلامية في الباكستان عام 1977 ثم انتدب للتدريس في معهد فخر المدارس في هرات بأفغانستان.
استمر طويلا مدرساً لمادتي اللغة العربية والدين في عدد من ثانويات العراق واتذكر أنه درّسني في الثانوية العربية بالكرخ عام 1965 .. واحيل المرحوم على التقاعد عام 1983.
مسيرته الدعوية:
حين كان المرحوم المدرس طالبا في كلية الشريعة تصاعدت قضية العرب الكبرى فلسطين، واشتعلت الشوارع عامة والكليات خاصة بالتظاهرات المنددة بالصهيونية والاحتلال الصهيوني، وكان يشتعل حماساً فتحولت كلية الشريعة إلى محرض وقائد للمظاهرات، وانفعل طلبة الجامعات وتفاعلوا أكبر تفاعل، وفوجئت الحكومة العراقية بثورة لا مثيل لها حتى تعطلت الدراسة، وكانت المرة الأولى التي يرى فيها العراقيون شيخاً بعمامته وجبته يقود المظاهرات ويخطب يومياً، ويجمع التبرعات بل يجمع المتطوعين للذهاب إلى فلسطين. كما شارك الأستاذ المدرس في المظاهرات التي كان يعد لها الطلبة في الاقسام الداخلية وتعرض للاعتقال عدة مرات.وعن احدى هذه المظاهرات التي انطلقت من كلية الشريعة في الاعظمية وجمعت في طريقها مدارس دار المعلمين الابتدائية، وكلية فيصل الثاني، وثانوية الاعظمية للبنين وثانوية الاعظمية للبنات ومدرسة تطبيقات دار المعلمين واهالي الاعظمية يتقدم المظاهرة طلاب كلية الشريعة بلباسهم الرسمي الجبة والعمامة .. ثم تسير التظاهرة الى البلاط الملكي ثم الى مقر مجلس الوزراء واقتحموا في البدء حدائق البلاط منادين بتحرير فلسطين، ورفض المعاهدة العراقية البريطانية المذلة، وهذا ما عبر عنه الأستاذ محمد محمود الصواف أحد قادة التظاهرة مخاطبا الوصي عبد الإله قائلا له: ((إن الجماهير تستنكر تقسيم فلسطين، وتطالب بالتدريب والسلاح من اجل الجهاد في سبيل الله وتستنكر المعاهدة التي لم تكن سوى احتلال بريطاني ثانٍ) ولم يخرج المتظاهرون الا بعد أن وعدهم الوصي بتلبية مطاليبهم
وعند مجلس الوزراء حاولت الشرطة تفريق المظاهرة بالغاز والهراوات ثم اتجهت المظاهرة نحو جسر الشهداء وعنده قبض على عدد من طلاب واساتذة كلية الشريعة واودعوا السجن وعند النهاية الاخرى تصدت لهم الشرطة بالرشاشات فسقط العديد منهم شهداء. وقد فصل عدد منهم من كلية الشريعة اما فصلا مؤقتا لمدة سنة أو مؤبداً .
لقد كان عاما 1947 و 1948 من الأعوام المشحونة بالغضب والثورة على الانكليز والصهاينة، حيث شهدت الفترة تلك قرار التقسيم سيء الصيت، وتوقيع معاهدة بورتسموث الاستعمارية المسماة «جبر ـ بيفن» فعمّت المظاهرات الطلابية والشعبية أنحاء العراق، وبخاصة العاصمة بغداد، حيث مقر الحكومة، والتي عقدت المعاهدة مع الإنجليز، وهي حكومة "صالح جبر"، وتصدّر هذه المظاهرات وقادها طلاب الثانوية الشرعية والكلية الشرعية بالأعظمية، وفي مقدمتهم: إبراهيم منير المدرس، وغيره، حيث ألهبوا حماسة الجماهير واصطدموا بأزلام السلطة، فاعْتُقل من اعتقل، واسْتُشهد من استشهد، وجُرح من جرح، وفُصل من الدراسة أو العمل من فصل، ولم يفت ذلك في عضدهم، ولم يوهن عزيمتهم، بل انتشر السخط في جميع البلاد، وخرجت الأمة عن بكرة أبيها تطالب بإسقاط الحكومة العميلة، وتم ذلك حيث استقالت الحكومة، وبطلت المعاهدة وأُلغيت بإرادة شعبية.
ويذكر الشيخ إبراهيم المدرس فيقول :
((نظمنا أنفسنا في الكلية وباشرنا دعوتنا وتدريبنا، فتم اختياري مسؤولا عن الرياضة في الكلية، وعن الوعظ والارشاد خارج الكلية وفي القرى والارياف خاصة، وكنت أدرّب الطلاب فوق سطح نادي الكلية بعد صلاة الفجر بجوار جامع الامام الاعظم حيث القسم الداخلي للكلية ليصبح لهذا التنظيم دور فاعل للمشاركة في الاحداث السياسية التي مر بها العراق).
التحق الشيخ المدرس بجمعية الأخوة الإسلامية، التي أجيزت عام 1949 بعد أن رفض طلبها الأول عام 1943.
كان للشيخ المدرس نشاط بارز في مواجهة المد الشيوعي عام 1959 وكان يقود التظاهرات المناوئة للشيوعيين، وكان من ضمن الأعضاء المؤسسين للحزب الاسلامي العراقي عام 1960، حيث تقدم السيد نعمان عبدالرزاق السامرائي بطلب الى وزارة الداخلية لتأسيس الحزب، إلا أن طلبه رفض في البدء من قبل وزارة الداخلية، فقام بتمييز القرار لدى محكمة تمييز العراق، فأحيلت الدعوى إليها لإجراء التدقيقات التمييزية عليها وبعد التدقيق والمداولة، وجد من محاضر التحقيق المرفوعة من الجهات المختصة انه ليس هناك مانع بقدر ما يتعلق الامر بتلك الجهات من منح الأعضاء المؤسسين إجازة. وقد صدرت موافقة محكمة التمييز على تأسيسه في 26 / 41960. وعقد الحزب مؤتمره الأول في 29/7/1960 وانتخب اللجنة المركزية (المكتب السياسي) للحزب. وفاز برئاسة الحزب السيد نعمان عبدالرزاق السامرائي، وفاز الشيخ إبراهيم منير المدرس بمنصب نائب الرئيس. وعضوية كل من:الأستاذ فليح حسن السامرائي، والمحامي فاضل دولان، والشيخ عبدالجليل الهيتي، والأاستاذ نظام الدين عبدالحميد، زالأاستاذ سليمان محمد أمين، والشيخ طه جابر العلواني، والاستاذ الشاعر وليد الأعظمي، والمحامي عبدالمجيد ذهيبة. وكانت للحزب صلات وثيقة مع رابطة علماء العراق، ومع المرجعية الشيعية في النجف الأشرف، وصدرت عنه مواقف وطنية مشتركة لمؤازرة المقاومة الفلسطينية والثورة الجزائرية والتنديد باعتراف شاه إيران بإسرائيل.
وبعد مرور ستة أشهر على تأسيسه نشر الحزب مذكرته الشهيرة التي دون فيها انتقاداته لسياسات عبد الكريم قاسم وقانون الأحوال الشخصية الذي تضمن أحكام الإرث الذي ساوى فيه بين الاناث والذكور في الميراث مخالفا الشريعة الإسلامية، واستنكاراً للمذابح التي ارتكبت في عهده في الموصل وكركوك ونشرت في جريدة الحزب (الفيحاء)، فتم على أثر ها اعتقال جميع أعضاء المكتب السياسي مدة خمسة شهور وجرى التحقيق معهم في بناية محكمة المهداوي. وقد كان المرحوم عبد الكريم قاسم ينتظر منهم استرحاما أو اعتذارا ليطلق سراحهم فلم يتقدم احد منهم بشيء ، وجاء شهر رمضان فارتأى أن يوجه الدعوة لعلماء الشريعة ليتكلموا بشأن المعتقلين، لكن الشيوخ أمجد الزهاوي، ونجم الدين الواعظ، وحمدي الأعظمي، وعبدالقادر الخطيب رفضوا تلبية دعوة عبدالكريم قاسم.
وفي ليلة 27 رمضان 1380 هـ ، منتصف آذار استدعى عبد الكريم قاسم جميع المعتقلين أعضاء المكتب السياسي للحزب وكان أحدهم الشيخ إبراهيم منير المدرس بصفته نائب الأمين العام ضمن الحاضرين وكان اللقاء بمقر عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع واشتكى أمامهم من مذكرة الحزب مدعيا أنهم ظلموه واخذ يستعرض للحضور نشاطاته الخدمية للشعب وتبريراته لما يعترض عليه، واستمر اللقاء على هذا المنوال من التاسعة مساءً حتى الرابعة فجرًا أذِن لهم الزعيم بعدها بالانصراف إلى بيوتهم.
واستمر الشيخ المدرس وهو الرجل الفاضل العالم ذو المعرفة الواسعة يلتهب نشاطا وإخلاصا وغيرة عاملا بعلمه وعمله طيلة السنوات التي تلت ذلك، فكان يعظ الناس في جامع الإمام الأعظم أبو حنيفة وبعض مساجد الأعظمية. وكان يعظ العشائر العراقية في مناطقها وفي القرى والأرياف.عضو عامل في جمعية الشبان المسلمين العراقية، ورابطة علماء العراق.
جمعية التربية الاسلامية:
الشيخ إبراهيم منير المدرس تولى رئاسة جمعية التربية الإسلامية عام 2006 بعد وفاة رئيسها الأستاذ عبدالوهاب عبدالرزاق السامرائي، يرحمه الله، وأصبح رئيساً لتحرير مجلة التربية الإسلامية الشهيرة في العراق. كما أنه عضو الأمانة العامة لهيئة علماء المسلمين ورئيس القسم الاجتماعي ساهم في بناء كثير من المساجد نشر كثيرا من البحوث العلمية في المجلات الإسلامية. وله كتاب "الفقه الميسر".
في حوار مع احدى المجلات الاسلامية تحدث الشيخ المدرس عن مدرسة التربية الاسلامية، فقال إنه نتيجة لوجود مدارس للأديان الأخرى في العراق، كان لابد من وجود مدارس إسلامية توجه الطلاب التوجيه العلمي والإسلامي الصحيح، حيث أسس الشيخ (أمجد الزهاوي) بالتنسيق مع تلميذه (عبدالوهاب السامرائي) عام 1949 جمعية التربية الإسلامية التي أنشأت مدارس التربية الإسلامية في نفس العام، واستمرت لحين تأميم المدارس الأهلية عام 1974م. وقال لقد كان للجمعية دور بارز في توعية المسلمين في العراق من خلال مدارس الجمعية ودروسها، إضافة إلى المجلة الشهرية التي تصدرها الجمعية والتي ساهمت بدور كبير في تثقيف المجتمع الإسلامي، والتشريع الإسلامي والحصول على الفتوى من المشايخ المتخصصين.
وعن أبرز الأعمال التي حققتها الجمعية عبر تاريخها الطويل؟ قال الشيخ المدرس: جمعيتنا لم تكن أول جمعية إسلامية، بل سبقتها جمعيات أخرى مثل جمعية الشبان المسلمين التي تأسست سنة 1926م، وبعدها الجمعية الخيرية الإسلامية، ثم جمعيتنا التي أسسها كل من العلامة الشيخ (أمجد الزهاوي) والأستاذ (عبدالوهاب السامرائي) والسيد (كاظم السيد علي) والسيد (عبدالله السامرائي) والشيخ (ساطع أحمد رفيق الجميلي) الذي قام بتأسيس مركز التربية الإسلامية في «الأرجنتين» بعد مغادرته العراق عام 1954م، أما أبرز الأعمال التي حققتها الجمعية عبر تاريخها الطويل، فنها أنشأت بتاريخ 12 / 8 / 1949م، أول مدرسة تبدأ من الصف التمهيدي والأول الابتدائي وفي عام 1956م تم افتتاح المدرسة المتوسطة وفي عام 1963م فُتِحَ الفرع العلمي من القسم الإعدادي، وهي أول مدرسة جمعت بين التعليم الأكاديمي والإسلامي.
وحين سُئل الشيخ المدرس عن سبب عدم إعادة فتح مدرسة التربية الاسلامية الآن، أجاب بأن السبب في عدم فتح المدارس العائدة إلى الجمعية إلى الآن، هو تأخر صدور الإجازة بفتحها وفق القانون الجديد المذكور أعلاه، إضافة إلى إشغال البناية من قبل كلية التراث الجامعة لتغطية نفقات الجمعية.
رحم الله الأستاذ الشيخ إبراهيم المدرس رحمة واسعة، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين، ووفق الله علماء الأمة ودعاتها لتحمل التبعة وإبلاغ الرسالة، فإن الطريق طويلة والرحلة شاقة والمخلصين قلة، ولكـن التوكل على الله والاعتماد عليه وطلب العون منه والأخذ بالأسباب والصبر والمصابرة على مشاق الطريق ووعورة المسالك واحتساب كل ذلك في سبيل الله، كلها كفيلة ـ بإذن الله ـ بتحقيق النصر لدعوة الله في الأرض وهداية الناس إلى طريق الحق والخير، وإقامة منهج الله في واقع الناس: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
في آخر حديث صحفي للفقيد الراحل سئل عن ما هي أهم المشكلات التي تواجه المجتمع العراقي بعد الاحتلال، وحتى بعد الانسحاب؟ فأجاب الشيخ المدرس: "إن أهم المشكلات التي تواجه مجتمعنا العراقي برمته هي إثارة النعرة الطائفية والعرقية، وأملنا وطيد بتلافي هذه المعوقات الطارئة بقيام الدعاة المخلصين للعراق والأمة الإسلامية بواجباتهم الدينية والوطنية"..
وفاته:
توفي الشيخ ابراهيم المدرس صبيحة يوم السبت 15 شعبان 1434 هجرية الموافق 25 مايس 2013 بعد عمر مديد قارب أربعة وثمانين عامًا قضاها بالعمل المتواصل وبالتقوى وملازمة الصالحين، وبالعمل المخلص الدءوب في خدمة الإسلام والمسلمين جميعًا، ونشر الثقافة الإسلامية الهادفة، وإشاعة روح الألفة والمحبة، والتعاون على البر والتقوى بين الناس أجمعين، وتقوية أواصر المحبة بين الأقرباء والمعارف والأصدقاء.
رحم الله أستاذنا الشيخ ابراهيم المدرس رحمة واسعة، وحشرنا الله وإياه في زمرة الصالحين من عباده.
880 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع