وصفي طاهر ... رجل من العراق
بقلم/رواء الجصاني
تحدثت العشرات من الكتب والدراسات والوثائق، وماتزال، بهذه التفصيلات أو تلك، عن مواقف وأدوار وصفي طاهر، أحد أبرز قادة ثورة الرابع عشر من تموز (يوليو) العراقية عام 1958. وبهذا المعنى فان كتابتنا عنه اليوم لا تسعى للتكرار، بل تحاول ان تنقل جوانب معينة، عن حياة ذلك الرجل لتكمل - او تأمل أن تكمل - تفاصيل وخلفيات وأحداث ما كُتب بشأنه.
وقبل ايراد بعض ذلك الجديد المزعوم عن وصفي طاهر، ينبغي القول على ما نعتقد، ان كثيراً مما احتوته الكتب والدراسات والوثائق التي أشرنا لها، والتي تطرقت، أو توقفت عند بعض آراء ومواقف ذلك الرجل العراقي، وأدواره في الثورة التموزية، وما قبلها وبعدها، بحاجة إلى تمحيص وتدقيق حريصين، خاصة وان "مؤلفين" و"مؤرخين" قد اسقطوا المزيد من أهوائهم وتصوراتهم وقراءاتهم الذاتية، الشخصية، على ما كتبوا، بعيداً عن التوثيق والأمانة حيناً، ولأغراض في نفس "يعقوب"، وغيرها في أحايين أخرى. وحول كل ذلك متابعات أخرى نعد بالجهد لاتمامها، فائدة للمتابعين، وتثبيتاً للتاريخ.
وفي عودة للجديد الموعود عن وصفي طاهر نقول بأنه من مواليد 10 تموز 1918 ببغداد، من عشيرة البياتي العراقية العريقة في تاريخها وأصولها... فوالده، وجده من المساهمين والمؤسسين لطلائع جيش البلاد أوائل القرن الماضي... وقد أكمل تعليمه الابتدائي في مدرسة المأمون، والمتوسطة والاعدادية في الثانوية العرابية. وقد حاول وهو ابن السادسة عشرة أو السابعة عشرة التطوع مع مئات الشبان، وغيرهم، من بلدان العالم المختلفة، لمقاتلة الفاشية الاسبانية في الثلاثينات الماضية. وقد نجح ضغط العائلة في الساعات الأخيرة في منعه من تحقيق ما عزم عليه.
تخرج الرجل من الكلية العسكرية ببغداد عام 1939 برتبة ملازم، ليتنقل، وينقل بعدها الى مدن وبلدات في مختلف أرجاء البلاد، مما منحه فرصاً ووقتاً ومجالاً للتميز في عراقيته لاحقاً، والتعرف على المزيد من الأصدقاء والمزاملين له في تشكيلات الجيش وقواته المسلحة...
وقد تدرج في مهماته العسكرية حتى رتبة عقيد عند قيام ثورة تموز، وليستشهد وهو برتبة عميد (زعيم) في التاسع من شباط (فبراير) عام 1963. وقد رفض التمتع بأي قدم إضافي في ترقياته، حينما كان مقرراً ومعنياً بهذا القدر أو ذاك عن مسؤولية تلك الترقيات للفترة 1958-1963.
وفي سياق الكتابة عن بعض المحطات المهمة في حياة الرجل العسكرية، يقول التسلسل الزمني ان وصفي طاهر قد شارك في أحداث عام 1941 المعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني، إذ كان ضمن القوات العراقية التي تشابكت مع القوات البريطانية في سن الذبان / الحبانية وقد استطاع مع تشكيله العسكري التابع له، الانسحاب الناجح، والنجاة من الأسر الذي شمل الكثير من القطعات العراقية بعد خسارتها للمواجهات والمعارك التي دارت حينذاك.
ولا يجوز هنا، ونحن في سياق الحديث عن بعض حياة وصفي طاهر في الجيش، ان نتجاوز حماسه للمشاركة في الحرب العربية – الاسرائيلية عام 1948. وقد تم نقله، بناء على طلبه، الى احدى الوحدات الفعالة في فلسطين اعتباراً من 12/7/1948، ليعين آمراً لحامية طوباز بعد أقل من شهر على ذلك التاريخ. ثم ليشغل آمر سرية فوج الشعراوية، فمسؤولية السرية الثالثة لفوج خالد ابن الوليد، وليتولى بعد ذلك آمرية حراسة مقر القيادة العسكرية العراقية في تلك الحرب... وقد شارك، ضمن مختلف مشاركاته الفعلية الأخرى، في تشكيل أول فصيل للمقاتلين الفلسطينيين خلف خطوط القوات المعادية. وكان حينها آمراً لرتل فرعون، وساهم في معركة الاشرفية وفرونة في 1/8/1948 وكذلك في معركة جنين... وقد كان معه في تلك الفترة الملازم (الشهيد في عام 1963) فاضل البياتي، وقد أصدرت القوات الاسرائيلية امرا لعملائها باغتيال وصفي بعد العمليات الجريئة والمفاجئة ضدهم.
يعود الرجل الى بلاده من الاردن وفلسطين بعد معايشة للاحداث والوقائع ومشاركته الفعلية فيها، ليحمل المزيد من الاصرار الثوري، والقناعة في ضرورة التغيير، وليبدأ هذه المرة بتحركات عملية في سياق النضال التحرري وذلك منذ عام 1950 حيث انطلق في اتصالات عديدة، وليكون أحد ستة مؤسسين لحركة تنظيم الضباط الأحرار في العراق، والهيئة العليا لها بعد ذلك... وقد صرح لزوجته (بلقيس عبد الرحمن) وهي أمينة سره منذ ارتباطهما عام 1943، بأنه من زكّى الزعيم (العميد) عبد الكريم قاسم أمام مسؤولي التنظيم، وقد أصبح لاحقاً رئيساً له، كما هو معروف... ووفقاً لشهادات وكتابات العديد من رفاقه، ومن مختلف الاتجاهات، كان وصفي طاهر لولب التنظيم ومحوره الفاعل طيلة سنوات. وقد قبل مهمة المرافق الأقدم لرئيس الوزراء عام 1953 وذلك لحساسية ذلك الموقع وفائدته لنشاطات تنظيم الضباط الاحرار في تهيئته لحركة عسكرية ضد النظام الملكي السائد آنذاك، ونجحت في 14 تموز (يوليو) 1958 من الاطاحة به وذلك ما سنتوسع بالحديث عنه في القسم الثاني والأخير من هذا التوثيق...
شهادات عن انطلاقة ثورة تموز ... واغتيالها
يعلمنا شهود عيان من أهل البيت، وخاصة من خلال ما سجلته بلقيس عبد الرحمن، أرملة الرجل، والتي رافقت مسيرته تلك، ان قيادات الضـباط الأحـرار كانت تجتمع في دار العـائلة بمنطقة الصليخ في بغداد عامي 1957-1958، وكانت هي بالذات من تعنى بمراقبة الأجواء الخارجية، وشهدت احياناً ولعدة مرات، انعقاد اجتماعين في آن واحد، في غرفتين منفصلتين، أحدهما لعسكريين، والآخر لمدنيين، ثم علمت من زوجها لاحقاً، انهما كانا لقيادات من الضباط الأحرار، ولمسؤولين شيوعيين، وكل على انفراد، وقد كان وصفي طاهر يتردد بين غرفتي الاجتماع في البيت، لنقل ومناقشة الآراء والملاحظات المتبادلة بين الجانبين اللذين لم يتفقا على عقد اجتماع مشترك لأسباب صيانية من جهة، وسياسية من جهة أخرى. ولم يكن يعرف تلك التفاصيل من الضباط، غير عبد الكريم قاسم ومحي عبد الحميد....
... وفي فترة التمهيد للثورة وقيامها في تموز 1958 تتحدث لنا المعلومات العائلية عن محاولة سبقت ذلك الموعد بشهرين، ولكنها لم تنفذ، وقد قام وصفي طاهر ليلتها بتوديع زوجته وتوصيتها بأن تفتح المذياع عند الساعة السادسة صباحاً، ولكن الرجل عاد بعد ساعات ليبلغها بتأجيل موعد الحركة... ثم عاد ليكرر الموقف ذاته ليلة الرابع عشر من تموز، وليبث راديو بغداد في الصباح الباكر بيان الثورة الأول... ثم يعود وصفي طاهر مساء ذلك اليوم ليبقى نصف ساعة فقط لطمأنة العائلة، والتوجه ثانية الى وزارة الدفاع حيث تجتمع قيادة الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم...
ووفقاً لشهادات المصادر نفسها، ونقلاً عن وصفي طاهر شخصياً، انه كان مكلفاً باعتقال نوري سعيد، الذي نجح بالهرب من البيت، فجر يوم الثورة، بعد ان علم بتحركات عسكرية "مريبة"... وعند ورود خبر إلى القيادة في اليوم التالي، بمقتل ذلك السياسي الملكي الأهم في البتاوين، ذهب وصفي طاهر الى موقع الحدث ليجده قد فارق الحياة فأوعز بنقله ودفنه في مقبرة باب المعظم، ومن دون ان يطلق أية رصاصة، كما ذكر في مصادر مختلفة "مطلعة" أو مدعية... ثم جرى ما جرى بعد ذلك من اخراج الجثمان، وسحله، والتمثيل به في ظل هياج شعبي غير مسيطر عليه... وقد استثار ذلك الأمر غضب عبد الكريم قاسم، ووصفي طاهر وعدداً آخر من قيادات الثورة، مثلما استثارهم أيضاً اطلاق الرصاص على العائلة المالكة، وتصفيتها في قصر الرحاب، اذ كان من المتفق عليه بين قيادة تنظيم الضباط الأحرار تسفيرها الى خارج العراق.
... وهكذا تستمر الاحداث، ويبقى وصفي طاهر ملازماً لصديقه الشخصي، الزعيم عبد الكريم قاسم، مساعداً أول له، ومسؤولاً عن ادارة المقر الرئيس لقيادة الثورة، ولنحو عامين، ليبدأ بعدها العد التنازلي، ليس في علاقة الرجلين وحسب، بل في مجريات ومسيرة البلاد عموماً... فقد بدأت الدسائس تفعل فعلها، وبشكل محبوك من جانب المناوئين، والانتهازيين، وركاب الموجة، وفقاً لتقييمات وصفي طاهر، والذي أبلغ ذلك لعبد الكريم قاسم صراحة، وبأمثلة ووقائع ملموسة، ولكن الأخير لم يعد ذلك الذي كان، وقد بات يحسب حساباته الخاصة، متفرداً في قراراته واجراءاته دون استشارة احد... وفي موقف للتأثير في تلك الاحداث، حاول وصفي طاهر ان يعرب عن احتجاجه، وان يضغط بأساليب مختلفة لاصلاح الأمور،
ومن بين ذلك انقطاعه عن التواصل مع زعيم الثورة، والاكتفاء بقضاء ساعات قليلة فقط، في المقر الرئيس بوزارة الدفاع، ليعود الى البيت، متأثراً وعصبي المزاج مؤكداً ان ما يجري لا ينسجم مطلقاً مع ما اتفق عليه، وخاصة التفرد في القرارات، وعدم تسليم السلطة لمدنيين عبر انتخابات برلمانية... إلا ان كل ذلك لم يمنعه من الاستمرار في "مهمته" الرسمية، وفي محاولات التأثير على عبد الكريم قاسم وتنبيهه لمكامن الخطر المحيق، ليس به وحده، وانما بمصير الشعب والبلاد عامة، ولكن من دون جدوى، فيستمر الحال على وضعه بل ويزداد تدهوراً، وحتى الأيام الأخيرة التي سبقت وقوع الانقلاب الفاشي في الثامن من شباط 1963.
فقبل يومين من ذلك التاريخ، يتصل عبد الكريم قاسم هاتفياً بوصفي طاهر في البيت، ليطلب منه الحضور العاجل... فيقوم الرجل بالذهاب مباشرة الى المقر الرئيس بوزارة الدفاع، وليطلع على قائمة بأسماء الذين يهيئون لانقلاب عسكري والاجراءات الحاسمة المقررة تجاههم يوم السبت، التاسع من شباط... ولكن الانقلابيين استطاعوا كما هو معروف استباق الأمر، والقيام بحركتهم الفاشية قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة فقط. وارتباطاً مع بعض تفاصيل الحدث الأبشع في تاريخ البلاد الحديث، وبعد ورود أخبار أولية صبيحة الجمعة الثامن من شباط عن تحركات الانقلابيين، انتقل وصفي طاهر على الفور الى بيت عبد الكريم قاسم، لقيادة الموقف المقابل، وقد اتصل بعد ذلك من وزارة الدفاع ليطلب من زوجته أن تنتقل مع بناتهما الى احد بيوت الاقارب لمزيد من الأمان، بعد ان هاجمت فرق من المسلحين الفاشيين بيوت بعض القيادات العسكرية المؤثرة، ومنهم جلال الأوقاتي وفاضل عباس المهداوي... وفي آخر اتصال هاتفي قال الرجل لزوجته انهم يحاولون السيطرة على الموقف، ودعاها الى الشجاعة والصبر، وكان ذلك عند الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم المشؤوم: الجمعة 8 شباط (فبراير) 1963...
وفي حديث تلفزيوني عُرض عام 2007 بمناسبة الذكرى السنوية السوداء للانقلاب الفاشي،
أكد أحد آخر عسكريين اثنين بقيا مع وصفي طاهر حتى اللحظات الأخيرة، وهو مرافقه الشخصي نعيم سعيد، ان الرجل طلب منه، وكذلك من سائقه فيصل عذاب، وكانوا جميعا في مقرات وزارة الدفاع يقاومون الانقلابيين، طلب منهما ان يسلما نفسيهما، بعد وضوح النتيجة ونفاذ الذخيرة، لانه هو المطلوب أساسا... وحينما استدارا بعد ذلك بلحظات، سمعا صوت طلقة نارية انهى بها وصفي طاهر حياته، كما كان قد قرر وأفصح عن ذلك، أمام زوجته، وأمام عبد الكريم قاسم بالذات، في أوقات سابقة، من انه سيقاوم أية محاولة لاسقاط الثورة وسيحتفظ بآخر طلقة لنفسه... ويضيف المتحدث "نعيم"، انهما مددا وصفي طاهر، واغمضا عينيه، وقاما بتسليم نفسيهما للانقلابيين. ومن المعروف كيف عرضت العصابة الانقلابية الفاشية الجثمان عبر التلفزيون لاحقاً لا لشيء إلا لاحباط عزائم المواطنين، المقاومين في حينها، وكذلك لطمأنة أنفسهم من الرعب الذي كان يحيط بهم من قيادات الثورة التموزية. واستطراداً في الحديث عن هذا الشأن، تنقل ابنة الرجل الصغرى "هند" انها، وبعد عودتها الى العراق اثر سقوط نظام الطاغية في نيسان (أبريل) 2003، اتصل بها مواطنون معنيون ليدلوها على قبر جماعي سري في مدينة المعامل يضم عدداً من رفاة شهداء انقلاب الثامن من شباط الدموي، ومن بينهم وصفي طاهر... وقد حافظ بعض العراقيين الأوفياء على ذلك السر، طيلة أربعة عقود، ليكشفوا الأمر بعد انهيار الحكم البعثي الثاني في البلاد.
وأخيرا، وقبل نهاية هذا التوثيق الموجز، لمسيرة "رجل من العراق" حافلة بعطائها، وبإجماع حتى العديد من مناوئيه، لابد من التطرق الى بعض سمات وصفي طاهر الشخصية، وقد عمدنا ان يكون الحديث عنها في ختام هذه السطور لكي لا تؤثر في موضوعية ودقة المعلومات، والسيرة، ليطلع عليها القراء والمتابعون، وليس المتصيدون وطلاب المجد الزائف الذين ما برحوا يحاولون دس معلومات لئيمة بين آونة وأخرى حول الكثير من الأحداث... ومن بين ما نهدف للتوقف عنده توثيقاً، وليس لأمر آخر: كان وصفي طاهر ذا شخصية نافذة ومتميزة بين عائلته، وأصدقائه ومعارفه، وقد غلب الشأن الوطني والعام دائماً عنده أمام الذاتي والخاص، وقد كان برغم جديته، ومبدأيته، انساناً متواضعاً في حياته العائلية والشخصية، مثقفاً من طراز استثنائي، يحب الموسيقى العالمية، وشغوفاً بالقراءة، والشعر، وكانت لديه مكتبة عامرة يكفي القول أنها شكلت مصدراً تمولت منه عائلته بعد استشهاده لفترة من الوقت... كما تجدر الاشارة الى ان ثمة تميزاً فريداً في صداقاته وارتباطاته الاجتماعية لعل من مؤشراته، العلاقات الوطيدة التي ربطته مع الجواهري، وزكي خيري ورفعت الحاج سري وثابت حبيب العاني وشخصيات متميزة أخرى، من مختلف المشارب والاتجاهات، وفي ذلك بحد ذاته ما يوميء إلى دلالات ومؤشرات اضافية عديدة، توضح شيئاً من صورة ذلك الرجل العراقي الذي نسجل لبعض سيرته التاريخية...
* هوامش واحالات:
- لكل الاحداث اعلاه، شواهد ووقائع عديدة، ربما تسنح فرص قادمة لتوثيق المزيد عنها.
- جميع ما تمت الاشارة اليه يستند الى معايشات ومعلومات عائلة وصفي طاهر، وبخاصة كتابات أولية لزوجة الرجل، وقد كانت تسعى لاعدادها لاحقاً على شكل مذكرات وذكريات... ولكنها توفيت في مغتربها بالعاصمة التشيكية، براغ بتاريخ 19/3/2001 قبل ان تتمكن من اتمام الأمر.
- جرى حذف العديد من الأسماء والشهادات الأخرى للاعتقاد بان من غير المناسب الحديث عنها في الفترة الراهنة، وفي مثل هذه الظروف القاسية التي يمر بها العراق.
- للرجل بكر اسماها نضال وثلاث بنات أخريات هن نسرين، ومي، وهند، وجميعهن اضطررن للاغتراب عن بلادهن مع آلاف العراقيين، لأسباب سياسية، ومنذ أواخر سبعينات القرن الماضي.
1243 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع