خواطر من ذاكرتي عن الماضي القريب ..محاولة اغتيال السيد ادريس البارزاني
لم تكد تمضي إلا اشهر قليلة على إبرام اتفاقية السلام بين الحكومة العراقية وقيادة الحركة الكردية وصدور بيان الحادي عشر من آذار في عام 1970 , والذي بموجبه تم انهاء حالة الحرب والاقتتال الداخلي في العراق وتنظيم العلاقة بين الطرفين وفقا للبنود المنصوص عليها فيه.
لقد حصلت العديد من المشاكل وحالات التصادم بين القوات العسكرية والأمنية العراقية وأطراف كردية موالية لها مع قوات البيشمركة في نفس عام صدور البيان ,
إلا أن الحادث الأخطر والأكثر تأثيرا في خلق حالة من عدم الثقة والإحباط لدى القيادة الكردية وشكها بمصداقية السلطة العراقية في تنفيذ بنود الاتفاقية المذكورة حيث تعرضت سيارة السيد (ادريس البارزاني) في الساعة العاشرة من ليلة 12/6 / 1970 الى اطلاق نار كثيف في احدى شوارع بغداد ومن عدة كمائن معدة لهذا الغرض ولحسن حظه لم يكن في السيارة المذكورة , حيث كان قد غادر بغداد في نفس اليوم وبسيارة أجرة عائدا الى أربيل دون أن يعلم أحدا بذلك وبناءً على طلب عمه (الشيخ بابو) علما بأن السيد (ادريس البارزاني ) كان قد وصل الى العاصمة بغداد بتاريخ 1/12/1970 لغرض تقديم التهاني الى قيادة الحكومة العراقية بمناسبة عيد الفطر وللتداول ومتابعة تنفيذ اتفاقية الحادي عشر من آذار 1970 وتذليل المصاعب والمشاكل الحاصلة وحل الأمور العالقة بين الطرفين . وهنا لا بد لي أن اشير بهذه المناسبة بأنني قرأت مقالا في موقع ( صوت العراق الالكتروني) بتاريخ 20/12/2014 وبقلم السيد (يد الله كريم فيلي) وبعنوان ( كردي فيلي ينقذ نجل بارزاني من محاولة اغتيال في بغداد ) ويذكر صاحب المقال بأنه كان مسؤولاً عن الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد وقت الحادث وقد اخبره أحد الاشخاص ويدعى ( أبو سامي) بوجود مخطط لاغتيال السيد (ادريس البارزاني) من قبل الامن العامة وبعض الكرد المعارضين للحركة الكردية , وبأنه أخبر بدوره السيد ( حبيب محمد كريم ) والذي بدوره اطلع السيد(مصطفى البارزاني ) حيث تم بعد ذلك وحسب ادعائه بوضع خطة لانقاذ السيد ادريس البارزاني , وتم فعلا ارساله بسيارة خاصة الى مدينة اربيل في نفس ذلك اليوم.
الاحتفال بصدور بيان الحادي عشر من آذار 1970في ساحة التحرير بغداد
وملاحظاتنا حول ما ورد في مقال السيد ( يد الله كريم فيلي ) حيث وقع في خطأ تحديد تاريخ الحادث والذي يذكره بأنه في عام 1971 وبعد عام من توقيع اتفاقية الحادي عشر من آذار 1970 , ومن جانب أخر لم يتم التطرق إلى هذه الجهود ودور الاشخاص المذكورين في أي مصدر أخر بالإضافة الى توافق الرأي الأول مع ما ذهب اليه السيد (مسعود البارزاني) في كتابه الموسوم ( البارزاني والحركة التحررية الكردية- الجزء الثالث – ص257 ) حول كيفية عودة السيد ادريس البارزاني إلى أربيل في نفس يوم الحادث.
السيد يد الله كريم فيلي
لقد كانت نتيجة اطلاق النار على السيارة المذكورة هو اصابة السيد(حميد البرواري) بجروح بليغة وكان في السيارة مصادفة ووجوده في بغداد بسبب تعينه بمنصب أمر فوج حرس حدود , وحضر لتقديم اسماء منتسبي الفوج لغرض اصدار امر تعينهم والشخصين الاخرين الذين لم يصابا بأي اذى هما ( محمد عزيز ) والذي كان مساعدا للسيد (ادريس البارزاني) في مهمته في بغداد بالإضافة الى سائق السيارة ( حسين كاواني) والذي كان وحده يحمل سلاحاً خفيفاً واستطاع ببراعته مشاغلة المهاجمين والتخلص من الكمين.
لقد تم كشف خيوط الجريمة والمتورطين فيها بعد العثور على بندقية كلاشنكوف تركها الجناة في مكان الحادث وظهر من تدقيق رقمها بأنها تعود إلى أحد رؤوساء الفرسان السابقين وأن المحاولة كانت ثأرية قام بتخطيطها وتنفيذها أحد انجال ( أحمد آغا الزيباري) بسبب مقتل أبيه في مدينة الموصل في عام 1959 .
الوكالات العالمية تهتم بالخبر وتحلله؟؟
ومن الجدير بالذكر أن خطة تنفيذ الجريمة كانت معدة مسبقاً وبإشراف مدير الأمن العام (ناظم كزار) والذي اغتاظ على منفذيها وحقد عليهم لعدم نجاحهم في تنفيذ المحاولة من خلال عدم تأكدهم من وجود السيد (ادريس البارزاني) في السيارة المستهدفة , كما أن الدلائل تشير إلى أن خطة التنفيذ كانت موكلة لمجموعة من أبناء العشائر التي كانت على علاقة سيئة مع الحركة الكردية ممثلة بقيادتها إلا أن تسرع المنفذين من عشيرة الزيبارية أدى إلى فشلها للسبب المذكور.
ناظم كزار مدير الأمن العام السابق
لقد قامت الحكومة العراقية بإلقاء القبض على عدد من رؤوساء العشائر والأفراد الذين ينتمون الى العشائر (الزيبارية - الهركية –السورجية) والذين تم توقيفهم في مديرية الأمن العامة , وبعد فترة قصيرة تم الإبقاء على عدد قليل منهم ونقل الباقين إلى قاعة في بناية أمرية قوة الشرطة السيارة في بغداد ( كلية الشرطة حالياً), وبحكم كوني أحد منتسبي الآمرية المذكورة وقت هذه الأحداث حيث كنت برتبة ملازم شرطة وأعمل في شعبة المشاور القانوني وكنت أتردد
ملازم الشرطة محي الدين محمد يونس
على الموقوفين المذكورين خلال أيام خفارتي والذين كانت التعليمات تقضي بتوفير كافة المستلزمات لهم , ومعاملتهم معاملة حسنة والسماح لمن يريد زيارتهم بعد التعرف على هويته وأخذ موافقة المراد زيارته – وفي أحد أيام خفارتي في شهر شباط عام 1971 وكانت الساعة تشير الى الثالثة بعد الظهر جاءني اتصال هاتفي من عامل بدالة الدائرة يخبرني بأن عامل بدالة وزارة الداخلية على الخط ويطلبني ولدى الاجابة وتعريفه بنفسي استفسر مني فيما إذا يوجد في الدائرة ضابط أرفع مني رتبة لأن السيد وزير الداخلية ( سعدون غيدان) على الخط ... أجبته بالنفي وبأنني الوحيد الموجود في الدائرة لانتهاء الدوام ...طلب مني الانتظار وبعدها بلحظات خاطبني بصوت مرتفع وهو يقول: (( تفضل معك السيد وزير الداخلية )) وعلى أثره قدمت نفسي (الملازم محي الدين محمد يونس ضابط خفر القوة السيارة ..تفضل سيدي).
الوزير: (ابني محي الدين اكو جماعة من الاكراد موقوفين عندكم في الدائرة اطلقوا سراحهم)!!
أجبته... (نعم سيدي أمرك).
سعدون غيدان وزير الداخلية السابق
وبعد غلقي للهاتف مباشرة انتابتني الهواجس والأفكار وأنا اتسائل مع نفسي عن صحة هذه المكالمة وربما يكون شخص أخر انتحل صفة واسم الوزير وطلب مني اطلاق سراح المذكورين – حالة القلق دفعتني الى طلب عامل بدالتنا ليطلب عامل بدالة وزارة الداخلية لأطلب منه ايصالي بالوزير – والذي استغرب طلبي كوني ملازم شرطة واطلب التحدث مع الوزير وتبين بأنه لم يكن عامل البدالة الأول – وعندما افهمته بالحالة طلب مني الانتظار ثم جاء صوته هادرا معك السيد وزير الداخلية وقد خاطبته مباشرة بقولي (سيدي إني ملازم محي الدين ضابط خفر القوة السيارة وأنا ضابط حدث (جديد) وأريد التأكد فيما اذا كان سيادتكم قد أمر قبل قليل بإطلاق سراح الأكرد الموقوفين)..
فخاطبني ضاحكاً (اي ابني أني طلبت منك اطلاق سراحهم – بارك الله بيك ).
عند انتهاء المكالمة اتصلت بآمر قوة الشرطة السيارة اللواء ( زكي الخطيب) وأعلمته بتفاصيل المخابرة وأمر السيد الوزير حيث طلب مني الانتظار وبعد فترة قصيرة طلب مني تنفيذ أمر السيد الوزير.
نهضت من مكاني في غرفة الخفارة في الطابق العلوي من الدائرة وتوجهت إلى القاعة مكان احتجاز المذكورين وكنت عندما ازورهم في المرات السابقة اسلم عليهم بشكل اعتيادي ولكنني في هذه المرة ولكوني كنت اعتقد بأنني أحمل لهم خبرا سارا وعند دخولي القاعة بادرتهم بصوت مرتفع ومطول (السلام عليكم) فانتبه المذكورين وخاطبني أكبرهم باللغة الكردية ماذا بك؟ هل جننت؟
ولما أخبرتهم بأن السيد وزير الداخلية أمر بإطلاق سراحهم , أجابني نفس الشخص مستهزئاً وغير مبالي باللغة الكردية (تعال اجلس وهو يشتم الوزير) وعند جلوسي معهم اتضح لي من خلال المناقشات فيما بينهم بأنهم كانوا غاضبين على الحكومة باعتبارهم قاموا بهذا العمل بموافقتها والتنسيق معها , ومن ثم غدرت بهم وقامت بتوقيفهم.
اكتفت السلطة في بغداد بما أصدرته محكمة الثورة من احكام في 20/4/1971 , حيث حكمت على (عاصف زيباري) بالسجن المؤبد وعلى كل من ( لطيف أحمد الزيباري وعبد القهار فارس الزيباري) بالسجن لمدة سبعة سنوات بتهمة اشتراكهم وتخطيطهم لهذه المحاولة والتي اتسمت فيها إجراءات السلطة بعدم المصداقية وللدلالة على ذلك قامت بعد فترة قصيرة بإطلاق سراح جميع الموقوفين والمحكومين الذين اشتركوا في محاولة اغتيال السيد ( ادريس البارزاني) الذي كان شهماً ويتصف بالحزم والجرأة وببراعته في الحوار والتفاوض والسخاء وقد ورث عنه نجله السيد (نیجيرڤان البارزاني ) رئيس وزراء اقليم كردستان الحالي هذه الصفات وعلى الخصوص الصفة الأخيرة , هذا التصور تكون عندي عنه من خلال المرحوم خالي (الشيخ محمد رسول خليفاني) حيث كان على صلة وثيقة به معجباً بشخصيته ويتحدث عن مأثره باستمرار, وحزن حزناً شديداً عند سماعه بنبأ وفاته بالسكتة القلبية بتاريخ 1/31/ 1987 في مدينة سيلفانا إحدى مدن محافظة أرومية في كردستان إيران.
الشيخ محمد رسول خليفاني
وأخيراً أختم بحثي هذا واتسائل فيما إذا كانت خطة المحاولة وتنفيذها جرى بعلم مدير الأمن العام ( ناظم كزار) لوحده أو بعلم مسؤولين كبار في أعلى هرم السلطة في ذلك الوقت , وللإجابة عن هذا التساؤل نقول ونحن غير مجانبين الصواب ومؤكدين على اشتراك المتنفذين في السلطة لهذه المحاولة أو على أقل تقدير عدم ممانعتهم لها من خلال ايراد الملاحظات التالية:-
1-حاولت السلطات العراقية بعد تنفيذ محاولة الاغتيال إلصاق تهمة التخطيط لها وتنفيذها بالحكومة الإيرانية.
2- لم تكشف الحكومة العراقية عن الجناة الحقيقيين إلا بعد القبض على (ناظم كزار) مدير الأمن العام السابق وإعدامه أثر قيامه بمحاولة الانقلاب المشهورة في عام 1973 حيث أعلنت الحكومة العراقية أن المذكور هو المسؤول عن هذه الحادثة ومحاولة اغتيال المغفور له ( مصطفى البارزاني) في مقره في منطقة ناو بردان بتاريخ 29/9/1971 , إن هذا الإدعاء بعيد كل البعد عن الحقيقة والواقع فبعد القاء القبض على (ناظم كزار) في صحراء مدينة الكوت المحاذية لإيران وإحضاره أمام (صدام حسين) اكتفى بالتحاور السريع معه وهو مقيد اليدين ثم أمر (سعدون شاكر) بإطلاق الرصاص عليه وقتله في الحال , ولا اعتقد بأن هذا الوقت القصير كان كافياً للتطرق إلى محاولتي الاغتيال في هذا الموقف الذي ينحصر فيه البحث والمساءلة عن هذه المحاولة الانقلابية.
سعدون شاكر
3-عدم اتخاذ السلطات العراقية لأي اجراءات تحقيقية وقضائية جادة وحقيقية حيث لم يكن من مصلحتها التعمق في التحقيق أو أخذ المسألة مأخذاً جدياً, وما جرى من تدابير واجراءات تحقيقية وقضائية شكلية هو من أجل ذر الرماد في العيون وتهدئة الخواطر وكسب الوقت لاسيما وأن المحاولة قد فشلت ولم تحقق النتائج , وإن تلكؤ الحكومة العراقية في معاقبة منفذي محاولة الاغتيال وتستر بعض المسؤولين في السلطة عليهم لغرض حمايتهم من العقاب بدليل اطلاق سراح الجميع وحتى المحكومين منهم.
4-عدم وجود أي مبرر أو تفسير لهيمنة وسيطرة (ناظم كزار) على أمور الدولة وتسيرها كما يشاء وبالضد من رغبات القيادة إذا لم تكن راضية عن عمله حيث كانت السلطة المتنفذة(أحمد حسن البكر, صدام حسين) منذ استلامها لمقاليد الأمور في العراق قامت بإعدام واغتيال العشرات من كبار مسؤولي الحزب والدولة أو طردهم وعلى سبيل المثال نذكر ( عبد الكريم الشيخلي , عبد الخالق السامرائي , منيف الرزاز , حردان التكريتي ).
5-لم يكن ( ناظم كزار) بدرجة حزبية قيادية متقدمة ( عضو قيادة قومية , عضو قيادة قطرية) لتمكنه من السيطرة على السلطة الأمنية للدولة بهذه الشكل , لاسيما وأن المذكور كان شيعياً وبالأصل من جنوب العراق أو بعبارة أدق لم يكن من ضمن ابناء منطقة النفوذ في السلطة العراقية وقت الحادث.
6-اتضحت شخصية هذا الرجل ( ناظم كزار) بعد فشل محاولته الانقلابية وهروبه نحو الحدود الإيرانية عن طريق محافظة الكوت , وسيطرته على سيارة تابعة لشرطة النجدة كان واجبها التمركز عند نقطة جسر ديالى أوصل من خلال جهازها اللاسلكي بيانه ومطالبه إلى رئيس الجمهورية (أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين) , لقد اتسمت تصرفاته بالتخبط بعد فقدانه السيطرة على نفسه وأصبح حائراً وهائماً في براري محافظة الكوت وهو يدور في حلقة مفرغة لحين وصول الطائرات السمتية الباحثة عنه وعثورها على رتل السيارات المرافقة له وإجبارها على التوقف ومن ثم قيام المذكور بإطلاق الرصاص على وزير الدفاع (حماد شهاب) بشكل متقطع حيث كان الأخير
الفريق حماد شهاب التكريتي وزير الدفاع العراقي السابق
يتوعد (ناظم كزار) والذي كان يطلق الرصاص عليه عند كل مشادة , كما وأطلق الرصاص على وزير الداخلية ( سعدون غيدان) وأصابه بإصابة خفيفة إلا أنه تظاهر بالموت , ويتضح من مجريات وتفاصيل الحادث بأن المذكور لم يكن خطط للخطوات اللاحقة بعد نجاح انقلابه أو فشله والرأي الراجح عندنا بأن المذكور كان على ثقة تامة من نجاح الانقلاب حيث كان جالساً في مكتبه في مديرية الأمن العامة وهو يتابع التلفزيون ويراقب لحظات تنفيذ الانقلاب من خلاله ,
عند عودة رئيس الجمهورية ( أحمد حسن البكر) من خارج العراق واستقباله من قبل نائبه ( صدام حسين) وإطلاق الرصاص عليهما , إلا أن تأخر عودة المذكور أدى إلى انسحاب المنفذين لاعتقادهم بكشف المؤامرة.
7-كان ( ناظم كزار) بطبيعته حاقدا على الأكراد وهذه الحقيقة ثابتة من خلال الأعمال الوحشية التي ارتكبها بحقهم من قتل وسجن وتعذيب ومؤامرات واغتيالات , وهنا لا بد أن نشير بأن بيان المطالب الذي بثه المذكور من خلال جهاز اللاسلكي لسيارة شرطة النجدة التي استحوذ عليها عند هروبه كانت تحوي في أولى فقراتها طلب استئناف القتال مع الأكراد وإنهاء الحركة الكردية.
8-لقد كان ( ناظم كزار) مديرا عاماً للأمن في العراق إلا أنه كان يدير حلقة صغيرة من الموالين والمخلصين له داخل المديرية المذكورة لا يتورعون في عمل أي شيء تنفيذاً لأوامره , أي نستطيع أن نصفهم بعصابة وهو رئيسها , وكانوا معه في تنفيذ المحاولة الانقلابية وقبض عليهم عند هروبهم معه وصدرت بحقهم أحكام الإعدام ونفذت فور صدورها من محكمة شكلية خاصة شكلت لهذا الغرض.
2989 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع