عندما يتكلم القادة الكبار(5)
ليل البصرة عند انسحاب عسكرها من الكويت بلا كهرباء، كأن أهلها قد عادوا الى زمن سبق وصول الكهرباء.
يتحرك وسط ظلامه الدامس عسكريون بلا أمل.
يتمدد على أرصفتها المتهالكة جنود محبطون يشتمون، ينتقدون، يتمنون الموت بعيدا عن خطوط القتال.
يتحرك بين محالها المملوءة ببضائع رخيصة أشباح شباب يحملون مصابيح تنير لهم الطريق، يدخلون بيوتا، يخرجون منها بسرعة غير معهودة في مثل هذه الظروف المغلفة بهموم الاعياء، كانهم يبيتّون شيئا يسعون لاتمامه قبل طلوع الليل، في وقت غاب فيه رجال الامن والمخابرات والاستخبارات عن مواقع اعتادوا من وسطها مراقبة الانفاس بصعودها ونزولها لمن وُضِعَ هدفا لها في هذه الايام، فَضَلوا التجمع في دوائرهم مهمومين، لا يعرفون الخطوة القادمة، وما يخبئ لهم القدر المفعم بالمفاجئات.
اللواء الركن منذريود الاطمئنان على صديقه الحميم اللواء الركن كامل ساجت قائد قوات الخليج المعنية بالدفاع عن مدينة الكويت، اثر سماع انسحابه وقادة فرقه الى البصرة وتواجدهم مؤقتا في النادي العسكري القريب من قيادة القوة البحرية، قبل التوجه الى العمارة. يجده خارج الغرفة، ماشيا في الساحة المكسية بالاسمنت مع صديق بصري حضر لتهنئته بالسلامة، ومواساته بالنتيجة التي لا تبشر بالسلامة، لم ينم طوال ساعات ليل فائت وما سبقه، لشعور يغمره بتأنيب الضمير، يلح عليه بقوة دفعٍ حوّلته الى شجرةٍ تمتد في جذورها وأغصانها الى ماضٍ بعيد تغوص في ثناياه صور داكنة.
الى عالم ينكمش ليتمدد دون الوصول الى نقطة الاقتناع.
الى مستنقع من الاحزان والذكريات المرة، ومكان جامد الا من حنين باهت الى صورة مشوشة ومرور نسمة عابرة يدرك حفيفها في زمن يعي تماما أن بعض ناسه قد تغيروا ليكونوا أشبه بالقرود الراقصة.
يريد الاستمرار في الكلام، كأن دماغة، محشو بانواع الكلام، يرفع رأسه الى الاعلى قائلاً:
- ربي أعفو عنا لما فعلناه، فيهتز جسمه تشنجا.
يحدّقُ بمن حوله.
تلمع في عينية ومضة حزن عميق صامت فيكمل:
- لقد فعلنا الكثير في هذه الحرب الملعونة، كنت شاهداً على تصرف أهوج لسبعاوي ابراهم الحسن قبل شهرين، جريمة ارتكبها في ساحة البيت الذي يقيم فيه بمدينة الكويت، ضحاياه عشرة شباب كويتيين جُلبوا له، بعد الشك في اشتراكهم بعمليات رمي على مقر المخابرات العراقية، رصهم في صف واحد، بالحديقة الجميلة لقصر يعود الى أحد الامراء أتخذه سكناً له، بدأ باطلاق النار على رأس الواقف منهم في البداية من مسدسه الشخصي، كنت أراقبه عن كثب دون التفكير بمنعه، لانه لا يتوانى من وضع الاطلاقة التي تلي في رأس من يريد منعه من اطلاقها.
- لقد كان غريبا في تمتعه باختراق الرصاصة المحمومة رأس الأول واستقرارها في رأس الثاني، ليموتا سوية بنفس المكان.
في هذه اللحظة التي يرقبها الحاضرون بصمت، دون أمتلاك شجاعة التعليق لفض كثافة سكون لم يكن عابراً قط، بل مقصود يشبه تلك الحالات النادرة التي يمر بها حبيبان يسكنان في لحظة حب فاعلة، لا لكي يتحاورا مع بعضهما البعض، بل ليرعيا عملية وصال مهددة بالتفكك.
الصوت يخفت قليلا من شدة الالم، ليعاود الكلام سائلا اللواء منذر الذي يسمع بشغف:
- هل هذا من أخلاق الاسلام ؟.
يستمر في الاسترسال، ليس لديه رغبة باعطاء المجال الى غيره في الكلام:
- لقد حضر العديد من الكويتيين الى مقري، والى الجامع الذي أصلي فيه الجمعة، يشكون أعمالاً أكثر فضاعة لسبعاوي وعلي حسن المجيد، لم أستطع الرد عليهم، وبدلا من الرد بلعت مرارتها، أكاد ان أنفجر حزناً ويأساً.
يتوقف قليلا ويكمل مسيطرا على بؤس يكاد يأخذه بعيداً الى دهاليز السياسة المغلفة بأطواق المكر وسهام الخطر.
- الشعور بالذنب يقتلني واقفا.
يسأل الموجودين حواليه كمن يسأل نفسه:
- من أين اتتهم هذه الشهوة بالقتل، كأن الواحد منهم قد توقفت في عقله المضطرب تلك الفكرة الاجرامية الاولى ابان أنتقاله من الطفولة الى المراهقة، وكأنها قد وجدت لها منفذا في الخروج على أرض الكويت؟.
- كيف ساواجه ربي؟.
- بأي عذر أرد على أسئلة الخالق يوم الحساب؟.
- من هنا ياسادتي أبتدأت الكارثة، يوم رأينا استواء العز والبؤس، البذخ والحرمان، التقريب والابعاد على مائدة واحدة، كل شيء في طريقه الى التدهور، والقادم أكثر سوءا.
لم ينته الحديث، فشريط الذكريات طويل، يقطعه دخول قائد الفرقة السادسة والعشرين الذي عرج على النادي العسكري في طريق انسحابه الى الديوانية التي اختارها مكانا لاعادة التنظيم مع ضابطين من ضباط ركنه، ومجموعة جنود لا يزيدون عن الثلاثين، هم الملتزمون بامر الانسحاب نظاميا، من بين وحدات فرقته التي تبعثرت في الطريق، يريد هو الآخر ان يتكلم، لشدة الانفعال، يشكو موقف قائد فيلقه السابع عند الاستفسار منه عن المكان الذي يفترض أن ينسحبوا اليه، ورده الغريب:
(أختر مكانا من العراق وانسحب اليه، لقد فقدنا الاتصال بالقيادة العامة).
يكمل قائد الفرقة حديثه بسؤال:
- هل هذا مقبول من قائد فيلق محسوب على الرئيس؟.
يجيب اللواء كامل:
- نعم انه مقبول والقادم أسوء.
- سوف لا تجدون أو بالاحرى سوف لا نجد من يدواي جراحنا الغائرة، ولا من يساعدنا على الاختباء حتى يشفيها الزمن.
- فما عليكم وعلينا الا انتظار ذلك الأسوء... ذلك الذي لم تتوقعوه.
تنويه
لقد أعدم الفريق الركن كامل ساجت بتاريخ 7/2/1999 لسبب قال عنه شقيقه خالد، الضابط السابق في جهاز المخابرات أنه يتعلق بملاسنة حدثت مع قصي صدام حسين. وقال عنه ضابط عمل بنفس دائرة شؤون الاحتياط في ديوان الرئاسة التي رأسها الفريق كامل، أن اعدامه كان بسبب رسالة وصلته من شخص يعمل خارج العراق، فيها انتقاد لصدام حسين وايحاء بامكانية التعامل معه، وقد كُشفت الرسالة من قبل المخابرات، التي أنتظرت قيامه بالاخبار عنها، وعندما لم يخبّر بعد مضي فترة من الزمن، أعدم بتهمة التستر، وهذه الرواية الأقرب الى الصحة من رواية خالد. كما أعدم بعد الانسحاب من الكويت قادة الفرق التابعين لقيادته بينهم:
اللواء الركن عصمت صابر واللواء الركن بارق الحاج حنطة والعميد الركن كامل ابراهيم، لأمر قيل يتعلق بالانسحاب الذي لم تتحدد وجهته، مما دفع أولئك القادة المعروفين بشجاعتهم الى التوجه في انسحابهم والقليل المتبقي معهم الى مدرسة القوات الخاصة في بغداد، توجه شك في وقعه الرئيس الذي أرسل عليهم وأثناء المقابلة حاججه المرحوم بارق بطريقة توحي بالاعتراض على مجمل الحرب وادارتها فأمر الرئيس باعدامهم... وهي على وجه العموم رواية وان تم تداولها بكثرة الا انها غير موثقة تاريخيا.
896 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع