محضية السيد المسؤول
بقلم/ الدكتور : سعد العبيدي
الميدان محلة بغدادية خارج الزمن المحسوس، أو بات الزمن خارجها يوم ترك الامن مهامه في حماية الارواح وتابع رجاله البواسل فاتنة من أجمل بائعات الهوى، ثمنا لعلاقتها الخاصة مع مسؤول دفعه الثوار خارج الملعب السياسي.
ترتدي ملابس السواد وتنصرف الى الصمت والدعاء قبل مغادرتها المحلة مع طلوع الفجر، عارفة بغريزتها الانثوية الطافحة موعد النشاط الامني بعد الفطور الدسم في مطعم الحاج عباس قبيل الساعة الثامنة بقليل. تترك بيتاً سُجل باسمها ثمنا لبقاء مضمون محضية السياسي المسؤول. تغادره وطنا عاشت بين جدرانه المزينة برسوم مثيرة، وذكريات ركوع عند قدميها الممتلئتين، تبكي حسرة مصير مجهول وخسارة عاشق بات خلف القضبان. تشعر وقدمها جاوزت العتبة العالية للباب الخارجي كأنها وبيتها وجسمها الجميل أغتصبه السياسيون الجدد بوضعهم أعلى مهام جمهوريتهم الجديدة غلق الدعارة الرسمية في محلة الميدان، وبعثرة الفاتنات المجازات بممارسة المهنة على محال بغداد الاخرى، يتسترن بين البيوت العريقة يمارسن العمل بطريقة البغاء السري. مكسب كبير لحماية الثورة من نساء يمكن أن يفسد بغائهن حلم القادة في بناء الامن الاجتماعي لجمهورية الراعي الاوحد.
تقضي الشابة حسيبة نهارها الاخير في بغداد ضيفا على زبون ملكي اجتثه الجمهوريون، ترى طوال انتظارها حلول الموعد الرسمي للقطار الصاعد الى البصرة شبح الموت بهيئة رجل دميم متوحش يبصرها بعينيين مظلمتين، تصعد مقصورة حجزتها وحيدة لا تريد مشاركتها المنام متطفلين عادة ما يكثرون في عربات القطار، تدمع عينيها من جديد مع صرخة القطار المميزة، وصخب المحرك البخاري الكبير، كأن روحها أنتزعت لذنب أرتكبته عن غير قصد.
تمسك ثروة أختزلت بمصوغات ذهب أكتنزتها لشيخوختها أو لما بعد أعتزالها المهنة، تدرك لا محالة الاعتزال، وقساوة الزمن، وعزوف الزبائن عن الفراش، تبقى جالسة بوضعية كئيبة طوال الليل ترقب بزوغ الفجر وأعمدة الهاتف القريبة في سيرها عكس القطار، وشجيرات بردي تتناثر خضرتها الداكنة على بساط يطوق خاصرته المجهول. تغادر العربة مكسورة النفس، منطوية على ذاتها، هاربة من طعنات الزمن التي جاءت مبكرة.
البصرة عامرة بأهلها الطيبون، تستقر في محلتها القديمة، تعاود المهنة باشتياق، تضيف الى خبرة الاغواء، خبرة التقرب من المسؤولين، ربما أنتقاما لحبيبها الذي طوقت محكمة الثورة عنقه بالاعدام، أو لضمان الحماية من تطويق الرقاب. تختار ضابطا من بين المسؤولين، أكثرهم ثورية وتأثيرا على الجمهور، تستعمله جسرا لبث المواخير وسط البصرة القديمة وخارجها، تستغله طوقا أمنيا لحمايتها والبنات الجميلات، الثمن المدفوع جسد يتهاوى وبقايا شرف سجل مسلوب على يد أول حبيب نكث بوعد الزواج.
المسؤولون والمحاربون والسياسيون اللذين يديرون الشؤون يقبلون الثمن، يفتخرون في جلساتهم الخاصة بأن فحولتهم جسرا لمرور الواحدة الى حياة جديدة، يمهرون جسدها المتهالك من كثر السهر بختمهم الثوري لتدخل الخدمة السرية داعرة من أنصار الجمهورية الفتية. السيدة حسيبة في موقعها البصري، تمد نفوذها شرقا صوب الميناء...
البحارة يحتاجون الترفيه،يدفعون بالعملة الصعبة، المقاتلون العائدون من ساحة الحرب يحتاجون الترويح، يدفعون مضاعفة بدينار يأكله التضخم كل يوم. يطالها حكم العمر، ونفرة الفراش. تصبح معلمة في صنعتها، يتخرج من قاعات دروسها الفردية آلاف المختصين في هذه المهنة التي يزداد رواجها مع خنق الغرائز الموروثة للانسان وتعدد الثورات وكثر الحروب، وانتشار الفقر وأعمال القهر والاستعباد وفساد العقول.
البصرة تغير وجهتها، الميناء يغلق ابوابه، العسكر المحترفون يَخلون ساحتها بعد انتهاء حروبهم المحيّرة، جنود الاحتلال يجوبون أزقتها، يغادرون شوارعها ، انتهازيون يخلعون بدلات الزيتوني المميزة، يضعون المحابس الشذرية في أطراف أصابعهم دليلا على التأييد وتغيير الولاءات، يطالبون بمعاودة تجربتهم في قطع الرؤوس، يكتفون بخنق الغريزة رجس من عمل الشيطان، يسعون في الخفاء الى الاستفادة منها تجارة سرية رابحة لدعم النفوذ. يضطرب الوضع الاعتباري للسيدة حسيبة يوم ظهور كبير مدينتها على شاشة التلفاز يعلن تفضيله دخول البصرة الفيحاء ألف سيارة ملغومة على قنينة خمر حرام. ينفرط عقد بناتها، كل واحدة تدخل دائرة ثوري من ذاك الزمان انتقل سياسي محسوب على هذا الزمان. تضيق هوامش الدنيا، يختلف المكان والزمان، يذبل الجسد وتظهر علامات الشيخوخة على الوجه الجميل، يبقى العقل شاخصا صوب الميدان محلتها القديمة ووطنها الباقي ماثلا في النفوس، لقضاء ما تبقى من عمرٍ أبتلعته السنين والمفاجئات.
تقف أمام البناية القديمة لوزارة الدفاع محتارة، تفتش عن معالم مازالت في الذاكرة، المنطقة مسيّجة بكتل كونكريتية ضخمة، سارت بموازاتها، شعرت بالتعب، جلست على حافة احداها تتصبب عرقا ينحدر على وجهها وعنقها المُعَلَم بآثار السنين وعروق زرق نافرة، ترقب من بعيد وفي ذاكرتها ما فات من ايامها الحلوة، سألت عن أسماء تعرفها فلم تجد أحد يخفف غربتها القاتلة. تسميات هذا الزمن مختلفة، والقابه والكنى مختلفة، وأصول العمل كذلك مختلفة، النساء القوادات المعروفات يغبن عن الساحة، والدلالات المتخصصات بالاجساد الغضة يتركن الساحة، رجال حلّوا بالمقدمة، أخذوا الصنعة، هم في الواجهة يفتحون أبواب البيوت القديمة علنا، يرتبطون بجهات برزت في السنين الاخيرة علنا، يدفعون الاتاوات الى المتنفذين ورجال العصابات علنا، يدخلون تجارة تتماشى مع فورة الجنس الخلابة لا تتقنها حسيبة ومن معها جيل ينقرض، قوامها اشرطة مدمجة لوقائع جنسية تباع بعد عرض خاص في غرف يتصاعد منها دخان الحشيش، وحقن أستقواء جنسي ينادى عن ماركاتها في الممرات المفتوحة، بيوت تتخصص بالبنات المراهقات، واخرى بالبنين وثالثة بالاعضاء التناسلية الصناعية، ورابعة بالمشروبات الكحولية المغشوشة، وخامسة بعروض التعري على الهواء، وعربات يجرها حمار تعرض مأكولات يغطيها الغبار، وأخرى يدفعها انسان تختص بمزات يعشعش عليها الذباب، الذها خيار مخلل مصنوع خصيصا لرواد هذه المحلة التي أضحت وكانها جمهورية مستقلة أو منطقة حكم ذاتي لا تدخلها الدولة، وكأن الجميع فيها يعيشون في واد آخر غير العراق وفي محلة ليست من بغداد.
ترقب حسيبة من مكانها المعزول رجل خمسيني ياتي مسرعا يطرق بابا مفتوحة كانه يعرف سكنتها يخرج شاب يحمل حقنه، ضنتها للتقوية الجنسية، يكشف الرجل عورته، يأخذ الحقنة في الهواء الطلق وعلى مرأى من المارة، يدخل بعدها بيتا آخرا يشير اليه صاحب الحقنة من قريب، يثبت رجولته المدعمة بالعقاقير. تقف في مكانها وبصوت جريح مثلوم غائر اطلقت قلبها الى فضاءات الرجاء اللامتناهية محتجة على التفسخ والشذوذ والخراب الذي اصاب محلتها، كلمات أحتجاج سمعها أحد المارة،علق عليها معاتبا قدومها لهذه الواحة الموبوءة وهي عجوز مهيوبة، ردت ببضع كلمات أخرى، انها وطن تركته يوم كانت الاجمل والاوفر حظا في تلبية الرغبات، قصدته في كبرتها وضيق حالتها، تمنت ايوائها، تشييع جثمانها من بيت هو الوطن. لكنها يأست مما تشاهده، وأقتنعت بتغيّر الزمن، وجحود وطن لن يبق منه سوى أبنية تهدمت وسكان يأكلون بعضهم بعضا، وأكملت لمتحدثها الذي استأنست حديثه، لم تكن الحال هكذا عندما كان الباشوات يحكمون بغداد:
- لقد فعلنا في شبابنا ما تحسبونه فاحشة، أضرت بأنفسنا فقط، لم تكن نيتنا ايذاء أحد، نعمل في العلن، نخفي العورات في السر، لا ننتج الرذيلة، ولا نقبل قاصرا تدخل المهنة، لنا أعرافنا وتقاليدنا. لقد تغير كل شيء، تجار الجنس من نوع آخر، اصحاب مقامات رفيعة يلفون أجسادهم العفنة بأردية وهمية يخطفون يورطون، يغّوون، يدفعون الرشى، همهم المال ومتعة الليل بهواء عفن.
تترك السيدة حسيبة مكانها، تطرق باب بيتها الذي تتوسطه شجرة سدر طالما لجأت اليها العصافير، يظهر شاب مفتول العضلات، تؤكد ملكيتها البيت، تعرض السند الاصلي، يدفعها خارجا، يؤكد العائدية الى ساكنه بحكم الاعراف السائدة للتجاوز. تطلق صرخة عالية يفزع لها الجيران تلطم خديها وصدرها وتشق ثوبها، يدفعها بعيدا خشية موت يدفع ديته فيما بعد. تتذكر عدنان سليل البنت الاقرب الى قلبها نوال، اثر تكرار ظهوره في التلفاز يُنظّر للحزب الجديد، قدرت نفوذه الفاعل في العهد الجديد، قصدت داره الكبيرة في المأمون، عرّفت عن نفسها حراس البيت، أكدت حقها في التربية عندما كانت أمه تشاركها البيت في البصرة القديمة، يُدخلها الحراس تعاطفا مع كبرتها وتوسلاتها في أن تقابل السيد عدنان.
- لقد أحتل اللصوص بيتي في الميدان.
- مالذي أتى بك في هذه الايام.
- أتعبني أنتظار الموت وضيق الحال، اريدك التدخل لاعادة بيت أسلمُ فيه الروح.
- خالتي، سأعيد البيت، طريقتي الوحيدة، تسجيله باسمي أو تدفعي عوضا عن التسجيل ثلاث دفاتر في الحال.
- لماذا أدفعها لبيت أحتله (القفاصة).
- دفتر منها لهم وآخر حصتي في الاتعاب، والثالث للحزب الذي لا يستطيعون مجادلته في مثل هكذا حالات.
التفتت ناحيته بعد أن همت بالمغادرة:
- هم أشرف منك، أسفي أنت الابن البكر لنوال. حسرتي على زمان تتسيدون فيه على الرجال.
تتركه وصورة حبيبها المتخيلة تكبر تدريجيا لتحتل الفراغ امامها، ثم تتقلص لتصبح جثة ضخمة يقطر منها الدم، تأخذ السيارة المتجهة الى سوريا، يشاركها المكان استاذ هارب من الاغتيال، يسألها عن الوجهة القادمة بعد أن لمح على محياها بقايا جمال قديم وشيء من الوقار، تجيبه بصوت تتكسر فيه العبرات:
منعوا عني الموت في محلتي التي غزاها الجهلة وشوه وجهها البغاة. لم يعد لي أحد في العراق يشفق عليّ، يدفنني أنسانة مثل باقي البشر. سأذهب الى أي مكان أدفن فيه بعيدا عن وطن غيّر صورته الاشرار.
826 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع