أيام زمان الجزء الأول ـ الشحاذون (المگادي)
يسمي البغداديين الشحاذين ب (المگادي) أو مجادي، ومفردها مجدي ومنهم من يسميه (مسايل) المتسائل أو (أبن السبيل)، وهو الفقير الذي يتجول في الأزقة والحارات والشوارع لاستعطاف الناس، واستدرار عطفهم وشفقتهم مستعيناَ بالمسكنة وبنداءاته التي تحنن قلوبهم، لجمع قوت عياله.
وقد زاد عدد المكادي في بغداد نتيجة ظلم وسيطرة الحكم العثماني، والحكم البريطاني الذي تلاه، فقد خلق في العراق طبقات الأثرياء والفقراء والمعدمين الذين لا يجدون قوت يومهم، فأضطر بعضهم للتسول بطرق مختلفة فهناك من يقف على أبواب الجوامع والحسنيات، أيام الجمع عند صلاة الظهر، أو قرب المزارات في المناسبات التي يعرفها الناس، وهناك من يتشبث بالدين لأجل التكسب فمنهم من يقرأ بعض الآيات القرآنية، أو الدعوات التي تدعو الى الكرم والإحسان، وتدعو الناس للصدقة وإعانة المحتاجين، وهم يتجولون في الأسواق المكتظة بالناس ومنهم من يستخدم الوسائل الموسيقية كالضرب على الدف.
وهناك من يتظاهر بالعمى أو العرج أو عاهة أخرى، أو يتفق مع بعض ذوي العاهات أو المعوقين، الذين أصيبوا بحادث، فانقطعت يده أو بترت ساقه، فيتخذ من ذلك الصبي المعوق أبناَ له، ويستعطف الناس بأقوال وعبارات رقيقة تستدر العطف، على ذلك المسكين الذي فقد ذراعه أو احدى ساقيه، ولم يعد يقوى على تحصيل قوته وربما اتفق مع أحداهن لتمثيل دور الزوجة، التي فقدت زوجها بحادث وخلف (كومة جهال) وقد طرحت صغيرهم وهو يرضع والأخر نصف عاري يفترش الأرض، ويتوسد ساق أمه وثالث يصرخ من الجوع وهكذا فصول التمثيلية كثيرة.
وهناك من ممتهن (التسول حيلة)، وهم يمتلكون ما يكفيهم للعيش عيشة حسنة، من يظهر كل منهم بملابس بالية وهو يمثل دور الفقير المعدم، يستعطف الناس بنداءات رقيقة لجمع المال، حيث يفرش قطعة قماش على الأرض كي يرمي الناس عليها ما تجود به أكفهم من (الخردة) الموجودة في جيوبهم، وهذا النوع من المتسولين يدور في المقاهي ليجمع نقود أكثر. ومن يذق حلاوة الكدية ولذتها (لأنها أخذ دون عطاء) أو (تجارة دون رأس مال) يحرص عليها ولا يلوم أهلها لما فيها من لذة الاسترزاق بلا تعب.
وكان المتسولين اليهود من عجزهم ومكفوفين يجلسون في الطرقات التي تقع قرب مناطق سكناهم يلهجون بعبارات الاستجداء والاسترحام ومما يرد من أقوالهم في هذا المعنى (أبدالك لسه ما ستفتحت) أي حتى الآن لم يعطيني أحد من صدقة يتصدق بها عليَّ.
أما نداءات الشحاتين والتي يرددها بنغم حزين تدعو إلى الرأفة والشفقة: (وين اللي يكول هذا عشاك يا فقير) (وين اللي يرحم الضرير)، وكانت الأمهات تطلب من أحد أبنائها أن ينادي على الشحاذ عندما تسمع صوته وهو يطلب الصدقة، فيقوم الابن بفتح شباك الغرفة المطلة على الزقاق، وينادي عليه بأعلى صوته لإيقافه ثم ينزل خلفها ليعطيه ما فضل من عشاء العائلة حيث كان يسكب الطبيخ في أناء مغلق برقبته فوق بعضه (التمن مع المرق)، وبعضهم كان يعزل الخبز في عليجة كان يعلقها على كتفه الأخر، وهو يدعو للعائلة بشتى الأدعية (الله يخلي أبو بيتج، الله ينطيكم العافية، الله يخلي الجهال، وغيرها.)
وعندما يقف الشحاذ على باب أحد الدور وليس لديهم ما يعطوه يقولون له: (على الله)، (أو الله ينطيك ) ومنهم من يقول له ( خدا بدا ) أي الله يعطيك بالغة الكردية .
ومن نداءات الشحاذين أيضاَ: وين اللي يرحم الفقير؟ المال مال الله والصخي (السخي) حبيب الله. الصخي حبيب الله والبخيل عدو الله.عطاية قليلة تدفع بلاية كثيرة عند الله. أنيالك يا فاعل الخير. يا كريم ... يا الله.، وينك يا فاعل الخير؟ وين اللي يرحم الضرير بليلة الجمعة والثواب عند الله؟ الصدقة تدفع القضاء والبلاء، دفعة بلا عنكم وعن أولادكم.
الجدية في الأمثال:إبليس أشتغل بكل شغلة يوم، وأشتغل بالجدية أربعين يوم: يضرب لاستطابة الجدية، دأب الكسالى والمتحايلين وذلك لأنها لا تبخل على متعاطيها بالربح الوفير، كما أنها لا تحتاج الى رأس مال ولا تتحمل خسارة.
مجدي من مجدي والله يرحمك يا جدي: يضرب لما لدى الطبقات الفقيرة من التنابذ والتحاسد وابتغاء الفتنه والشحناء بالرغم من أن لهم عدواَ مشتركاَ يكرههم جميعاَ.
مجدي كركوك وعليجته قذيفة: يضرب للمملق المعدم يتظاهر بما لا يلائم وضعه من كبر وأبهة.
مجدي كركوك وخنجرة بحزامة: يضرب للذليل يتمثل وضع الأقوياء الأشداء.
الي يشتغل بالغروب يكدي بالبوب: يضرب لدفع الكسول الى العمل وللتبكير في النهوض من النوم والذهاب الى العمل للحصول على الرزق الحلال دون الاستجداء من أبواب الناس.
يجدي ويهدي: يضرب لمن يتظاهر بغير مظهره ولسوء التصرف وعدم التدبير فأن من شأن المتسول الأخذ دون العطاء.
مثل فلس المجدي: يضرب للشيء يتداعى عليه الناس قبل أن يتم تمامه أو يستقيم نصابه.
علمته علة الجدية كام يغلبني ببوب كبار: يضرب لشديد الحذق في تعليم الحيل يكون ذا فضل على أحد الناس فلا يجزيه هذا الى بمنافسته في مجال الكسب ومزاحمته على الشهرة.
الطشت مكدي (من أمثال النساء): يضربنه حين يقبلن على غسل بعض الملابس حيث يجدن أنفسهن أمام
جمهرة كثيرة منها فيقلن ذلك في (الطشت) كناية عن نهمة وشراهته تشبيها له بمن يستجدي الناس.
الجدية كيمية، (أي أن الاستجداء ضرب من الكيمياء): يضرب فيما يتحصل عن طريق الاستجداء من الربح الجزيل تعليلا لفلسفة الشحاذ في اختيارهم هذه دون التكسب عن طرق أخرى.
كشكول يحود الشكول على الشكول: يضرب في اجتماع أصناف شتى من الناس لا تربط بينهم صفة معينة، وهو ما يرد مورد الاستخفاف والازدراء بالناس.
صدقة قليلة تدفع بلايا كثيرة: يضرب للحث على إسعاف الملهوفين ولدفع الشرور بالإحسان. لا دنيا ولا آخره مثل مجادي اليهود: يضرب لمن فقده حاضره ومستقبله، ولمن فقد الدارين (الدنيا والآخرة).مثل مجدي باب الشيخ. وقد وردت الكدية على لسان أحد زوجات البخلاء ترددها بنغم حزين وكأنها ترثي حالها وهي تعيش حياتها التعسة مع زوجها البخيل قائلة: يا ريت ما أخذتلي مكدي ويصير جراب الخبز عندي يخلص جراب الخبز أكله كوم يا رجال كدي، وقد ذكروا الكدية والمكادي بالكنايات في قولهم مجدي ميحب مجدي كناية عن تباغض أبناء الصناعة الواحدة وتحاسدهم. مجدي اليهود كناية عمن أضاع حاضره وأيس من مستقبله، شبه بالمكادي اليهودي.
زلك الشادي أبيت المكادي: كناية عمن يحدث ضجة وجلبة من جراء أمر تافه، فأن زلق الشادي (القرد) ليس بالأمر العجيب، ولكنه لما زلق في بيت المكادي اعتبروا ذلك أمراَ مهما، وأحدثوا من أجله ضجة وجلبة.
منع التسول:
حاولت الحكومات العراقية السابقة منع ظاهرة التسول بسن نظام يمنع ذلك، فقد صدر النظام في 13 شعبان سنه 1313 ه الموافق 1896 وهو من صلب التشريع العثماني القديم، وقد احتلت فيه كلمة (العاصمة) مكان كلمة (الآستانة) ، فالذين يشاهدون مأموري الضابطة أو البلدية من المعلولين، الذين ليس لهم معيل يتسولون ولا يراجعون دائرة العجزة، يرسلون (بموجب المادة الثامنة) الى هذه الدار أذا كانوا من أهالي العاصمة، أما إذا كانوا من خارجها فيرسلون الى بلادهم. والذين يتسولون (بموجب المادة التاسعة) وهم قادرون على السعي والعمل، يقبض عليهم من قبل الضابطة، فمن كان منهم من العاصمة أو هو من أهالي الخارج ولكنه قد توطن فيها فيسرح بعد أن تربطه الضابطة بكفالة، أما إذا كان من أهالي الخارج فيعاد الى بلده، لأجل أن يشغل من قبل دائرة بلديتها. لقد شيع المشروع العراقي على أنقاض النظام العثماني، نظام دور العجزة رقم 47 لسنة 1947 م الذي حرمت مادته الثالثة من دخوله من قبل المتسولين الغرباء، القادمين من الأفغان وإيران والهند والباكستان، التي جلعت توفرها لازماَ لقبول كل شخص ذكر كان أم أنثى ضيفاَ على الدار أن يكون عراقياَ. وليس له معيل، ولا يملك مالاَ منقولاَ أو غير منقول يكفيه مؤونته، ويجب أن يؤدي هذا بشهادة من المختار ومصادقة المجلس البلدي. أن يكون مبتلى بعاهة دائميه أو وقتيه تجعله غير قادر على الكسب والعمل.
أما المادة الخامسة من هذا النظام فقد تعاونت مع المادة الثالثة التي ذكر منطوقها قبل الآن على حرمان المتسول العراقي القادر على الكسب والعمل، ولا يشكو عاهة دائميه أو وقتية من الدخول في دور العجزة، فقد ذهبت هذه المادة الى ذوي العاهات الذين يتسولون في العراق، ويتخذون هذه العاهة وسيلة للتسول يحجزون بدور العجزة حتى يتعهد أحد أقاربهم أو أصدقائهم بإعاشتهم وعدم أعطاهم المجال للتسول في الطرقات وتؤخذ من المتعهد كفالة بمبلغ لا يقل عن عشرة دنانير ولا يزيد على مائة دينار. أذا تكررت من قبل العاجز المخالفة فأن الكفالة تصبح ساقطة بطبيعتها.
أما قانون المتشردين فقد ألحقت مادته الأولى بالمتشرد، من أتخذ الشحاذة وسيلة للارتزاق، مع قدرته على العمل ولذلك أصبحت عقوبة الشحاذ والمتشرد واحدة، بموجب المادة التاسعة وأضحى من كان منهما يعتاد التردد الى أماكن تعدها الضابطة مريبة، أو يأتي بأحوال وحركات داعية الى الشبهة يوقف ويحال وفق للأصول ويحكم عليه بالحبس من أسبوع الى ستة أشهر، أو النفي من ثلاثة أشهر الى سنة وبموجب المادة (13). أصبح الشحاذ أو المتشرد الذي يتعرض للناس فعلاَ، أو يهددهم يضرب من عشرة الى ثلاثين سوطاَ. واختصت المادة السابعة عشر بالشحاذ دون المتشرد، فنصت على أن من حث الأولاد الذين هم دون الخامسة عشرة ويغريهم على التسول بقصد الانتفاع منه يحكم بالجزاء النقدي من (200 فلس الى 3 دنانير) وبالحبس (من 24 ساعة الى 15 يوم).
أما قانون العقوبات البغدادي، فقد حصر الشحاذة في أطار المخالفات المتعلقة بالأمن العام، والراحة العمومية حين أشارت الفقرة (7 / 3) من المادة (326)، الى أن كل من ألح في الشحاذة داخل المدن أو القرى، أو كشف عن عاهة بجسمه أو أظهر مرض أو جرحاَ كريهاَ، بقصد جلب إحسان الجمهور يجازى بدفع غرامة لا تتجاوز ليرة واحدة. وأخيراَ شرعت الحكومة العراقية قانون الرعاية الاجتماعية رقم 126 لسنة 1980 الذي يكفل لكافة المواطنين الحياة الكريمة المرفهة، وينص القانون الذي يتضمن (106) مواد على شمولية الرعاية الاجتماعية لكل فئات وطبقات المجتمع، والتدرج في تطبيق بوتائر متصاعدة. خصوصاَ رعاية الأسرة باعتبارها نوات المجتمع والاهتمام بالطفولة (لأن ثروتنا القومية البشرية) تبدأ بالطفل.
فقد جاء في المادة (23) من قانون الرعاية الاجتماعية رقم (126) لسنة 1980 ما نصه: تحرم الأسرة بقرار من لجنة رعاية الأسرة من راتب الرعاية أذا فقد أحد شروط الاستحقاق، واذا مارس أحد أفرادها (التسول) بقرار من المحكمة المختصة.
أما اليوم بحاجة الى معالجة مشكلة الفقر وتحقيق نسبة من العدالة الاجتماعية، وانتشال المعوزين من واقعهم المزرى ووضع أسس تحقيق العدالة الاجتماعية، ومهنة التسول أصبحت رائجة كثيرا، فلا يخلو أي تقاطع للشوارع من متسولات وأطفالهن، يتظاهرن بممارسة العمل وهن يتسولن في الحقيقة.
المصدر: بغداديات ـ عزيز الحجية.
2238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع