البروفيسورة كوندوليزا رايس
وزيرة خارجية الولايات المتحدة بين عامي 2005 و2009
بينما كنت أقف أنا وبوتين في مكتبه بالقصر الرئاسي في موسكو أواخر 2004، أطل علينا فجأة رجل من غرفة خلفية. قال لي بوتين «أُعرفك بفيكتور يانوكوفيتش مرشح الرئاسة في أوكرانيا». هكذا قدم لي بوتين رئيس أوكرانيا يانوكوفيتش، وكان واضحا حينها أن بوتين يريد تمرير رسالة مفادها أن يانوكوفيتش هو رجلنا، وأن أوكرانيا هي الفناء الخلفي لروسيا - ولا تنسوا ذلك.
منذ ذلك الحين والمشكلة الأوكرانية آخذة في التبلور بين الغرب وروسيا، فحاولت الولايات المتحدة وأوروبا بعد الثورة البرتقالية إقناع روسيا بألا تتحول أراضي أوكرانيا المترامية الأطراف إلى بيدق في رقعة الصراع بين القوى الكبرى، بل عليها أن تبقى بلدا مستقلا قادرا على تقرير مصيره بنفسه. بيد أن بوتين كانت له حسابات أخرى، فتقارب كييف مع الغرب بالنسبة له كان بمثابة إهانة لروسيا في معادلة صفرية لا تقبل غير الولاء التام من بلدان الإمبراطورية السابقة. وقد كان الاجتياح الأخير لشبه جزيرة القرم واحتمال ضمها إلى روسيا بحجة واهية تتعلق بحماية الناطقين بالروسية، رد بوتين على الغرب.
ولذا تبقى الأولوية في الوقت الراهن لروسيا هي أن أي تحركات جديدة في أوكرانيا لن يتم التساهل بشأنها، وأن سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها أمر مقدس لا يمكن تجاوزه. ومن ثم فإن فرض قرارات مثل العزلة الدبلوماسية وتجميد الأصول وحظر السفر على طبقة رجال الأعمال المرتبطين بالكرملين يعد أمرا مناسبا. كما سيعمل الإعلان عن إجراء مناورات جوية مشتركة مع دول البلطيق، وتحرك مدمرة أميركية إلى البحر الأسود، على طمأنة حلفائنا، بالإضافة إلى مساعدات اقتصادية لأوكرانيا وقادتها الجدد الذين يتعين عليهم في ظل هذه الظروف العصيبة تنحية خلافاتهم والتركيز على إدارة البلد.
وتظل مهمتنا على المدى الطويل هي التصدي للنظرة التي يتبناها بوتين بشأن مستقبل أوروبا ما بعد الحرب الباردة. فهو يقول إن أوكرانيا لن تمتلك الحرية مطلقا لاتخاذ خياراتها الخاصة - رسالة تتجاوز أوكرانيا إلى باقي أوروبا الشرقية ودول البلطيق - وأن لروسيا مصالح خاصة ستحميها مهما كلف الأمر. ولأن الحرب الباردة انتهت على نحو مأساوي بالنسبة لبوتين، فهو يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال الترهيب واستخدام القوة العسكرية، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية، ما دام العجز الغربي يسمح له بذلك.
جدير بالذكر أنه عندما غزت روسيا الأراضي الجورجية في 2008 أرسلت الولايات المتحدة بوارجها إلى البحر الأسود، كما نقلت الوحدات الجورجية في العراق إلى قواعدها في أرض الوطن وأرسلت أيضا مساعدات إنسانية. وهكذا حرمت موسكو من هدفها المتمثل في الإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا، وهو الاعتراف الذي صرح لي به وزير الخارجية الروسي. ولم تستطع الولايات المتحدة وأوروبا سوى اتخاذ خطوات متواضعة لعزل روسيا سياسيا.
بيد أن تلك الخطوات المتواضعة لم تستمر، فرغم استمرار الاحتلال الروسي لإقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، تلاشت العزلة الدبلوماسية المفروضة على روسيا. ثم جاءت بعدها سياسة أوباما القائمة على إعادة إصلاح العلاقة مع موسكو والتي أدت إلى مراجعة مفاجئة لخطط نشر صواريخ دفاعية في جمهورية التشيك وبولندا، وتوقف الحديث عن انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي.. الأمر الذين أبهج روسيا.
هذه المرة ينبغي أن يكون الوضع مختلفا، فبوتين يراهن على المدى البعيد من خلال استغلاله الذكي لكل فرصة متاحة، ولذا يجب علينا التحلي بالصبر الاستراتيجي إذا أردنا وقفه، لا سيما أن موسكو ليست محصنة من الضغوط. نحن لسنا في عام 1968 وروسيا ليست الاتحاد السوفياتي، فالروس بحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية، ورجال الأعمال المرتبطون بالنظام يحبون السفر إلى باريس ولندن. كما أن هناك قدرا ضخما من الأموال التي تم الحصول عليها بصورة غير مشروعة مودعة في البنوك الأجنبية. ولا ننسى أيضا أن روسيا لا تتحمل انخفاضا كبيرا في أسعار النفط، خاصة أن طفرة النفط والغاز في أميركا الشمالية ستضعف قدرات موسكو الإنتاجية، ومن شأن الترخيص بمد أنبوب الغاز «كيستون إكي إل» ودعم صادرات الغاز الأميركية، أن يبعث بالرسالة المناسبة لبوتين بقدرة أوروبا على تنويع مصادر الطاقة ومد أنابيب لنقل الغاز لا تمر عبر روسيا.
ومن الواضح أن الكثير من أفراد الشرائح الأكثر إنتاجا ضمن الشعب الروسي، وهم الشباب المتعلم، ليسوا على وفاق مع الكرملين، لأنهم يعرفون أن بلدهم ليس مجرد مكان لاستخراج الموارد من قبل الشركات العملاقة، بل يحتاج إلى مزيد من الحريات السياسية والاقتصادية والقدرة على الابتكار والمساهمة في الاقتصاد القائم على المعرفة، ومن ثم يجب علينا التواصل مع الشباب الروسي، خاصة الطلبة والمهنيين الذين يدرس العديد منهم في الجامعات الأميركية ويعملون مع شركات غربية. فالقوى الديمقراطية داخل روسيا تحتاج إلى سماع الدعم الأميركي لطموحاتها، لأنهم هم، لا بوتين، مستقبل روسيا.
ويأتي على رأس ذلك ضرورة استعادة الولايات المتحدة مكانتها ضمن المجتمع الدولي بعد أن تقوضت بسبب المبالغة في مد يد الصداقة إلى خصومنا، والتي تكون أحيانا على حساب أصدقائنا. فعدم تحركنا في سوريا الذي عزز الحضور الروسي في الشرق الأوسط والانطباع بأننا متلهفون على اتفاق نووي مع إيران، لا يمكن فصله عن تحركات بوتين الأخيرة.
كما أن خفض موازنة الدفاع الأميركية يوحي بأنه لم تعد لدينا النية ولا الرغبة في التأثير في النظام الدولي، كما هو الحال بالنسبة لحديثنا عن الانسحاب من أفغانستان سواء أكان الوضع الأمني يسمح بذلك أم لا. ينبغي ألا نفشل، كما فعلنا في العراق، في أن نترك خلفا وجودا عسكريا. وأي وجود عسكري يقل عن 10.000 جندي سيعني أننا غير جادين بشأن المساعدة في استقرار تلك الدولة.
وعندما جرى الحديث عن فكرة الانسحاب الأميركي وخفض الصوت المدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان اعتقد المراقبون أن الفراغ سيملأه الحلفاء الديمقراطيون والدول الصديقة والمعايير الدولية، لكننا شهدنا بدلا من ذلك كيف قفزت القوى المتطرفة، مثل «القاعدة» التي أطلت برأسها مجددا في العراق وسوريا، أو الأنظمة الديكتاتورية مثل نظام الأسد الذي لا يتوانى في قتل شعبه بمؤازرة من روسيا وإيران أو حتى من قبل الأصوات القومية الصادرة عن بكين وأمثال بوتين الذي يعي جيدا أن القوة الصلبة ما زالت مهمة في عالمنا، لملء الفراغ.
واللافت أن هذه التطورات لم تأتِ كرد فعل على السياسة الخارجية الأميركية القائمة على القوة، بل لأن الرسائل التي تبعث بها الولايات المتحدة تنم عن الإرهاق وعدم الاهتمام، ولذا تمثل الأحداث الأخيرة في أوكرانيا دعوة تحذيرية للنخب الأميركية في الحزبين معا ممن يعتقدون أن أميركا تستطيع التخلي عن مسؤوليتها الدولية في القيادة، فإذا لم ننتبه إلى هذا التحذير فإننا نجازف بتقوية المتطرفين والمستبدين حول العالم، وسينتهي بنا المطاف إلى دفع ثمن باهظ من مصالحنا وقيمنا التي ستداس من قبل هؤلاء.
«واشنطن بوست»
1946 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع