أ.د. سيّار الجَميل / بيروت
ليس مألوفا لدى العراقيين ان يكونوا صامتين ساكتين على ما يجري في بلادهم من مآس وكوارث وقتل ودمار ..
الكلّ يدرك ان الفوضى تعمّ كلّ العراق باستثناء الحالة الطبيعية والمستقرّة التي يعيشها اقليم كردستان .. لم يعرف اهل العراق الصمت في يوم من الايام حتى وهم في ذروة الحكم المستبد ، كان الهمس والنظرة والحركة والاشارة لغة كاملة يتبادلها العراقيون حتّى من قبل اولئك الذين يصفقّون في الشوارع ، وحتى من قبل اناس كانوا في قلب النظام .. اليوم ، صمت العراقيين مصدره الاساسي انقسامهم الى قسمين اثنين ، اذ حلّ الانتماء للطائفة والمذهب بديلا عن ايّ انتماء للعراق واصبح كل طرف يفكر بطريقته بعد ان غيّبت تلك الثقة التي كانت تجمع ابناء الشعب الواحد . ثمة اسئلة تطرح نفسها اليوم على العراقيين : اذا كان العالم قد عرفكم انكم لا ترضون عن اي حاكم يحكمكم ، فما الذي يجعلكم تصمتون على فساد " حكومة " يحرّكها حزب واحد بقي يتسيّد حكم العراق قرابة ثمان سنوات ، وان رئيس الحكومة ينوي البقاء في السلطة ، وهو يبذل الغالي والرخيص من اجل ذلك ..
ثمة اسئلة مهمّة تطرح نفسها : لماذا تعّود الناس على اختيار الاسوأ او قبوله ؟ ولماذا يتوّهم البعض انّ من لم يتفّق مع النظام الحالي هو متّهم وهو غير واقعي ، فالواقعيّة عندهم ان تؤمن بهذا الواقع ولا تعمل على تغييره ؟ وانّ كلّ ما يعترض عليه المعارضون هو عندهم خيالي غير واقعي ! واذا كان عموم الناس لا تفقه معنى كفاءة هذا وذاك جرّاء ما يعمّ اغلب العراقيين من تخلّف ، فماذا حدث لنخب العراق من المثقّفين والمتعلّمين والسياسيين الذين تجدهم وقد انقسموا انقسامات متصدّعة اجتماعيا ، ومتخندقة طائفيا ، او متحركة زئبقيا حسب ما تمليه المصالح والمنافع .. ثمّة حالة تطغى بشكل فاضح اليوم ، وهي جزء من تكوين مرض نفسي اجتماعي مزمن ، وهذا ما ينفضح به الالاف من المثقّفين ، فهم يعلنون امامك ويظهرون عكس ما يبطنون في دواخلهم حسبما يقوله علم النفس الاجتماعي .. ان قلوبهم مع ابقاء المأساة ، واصطفافهم مفضوح مع النظام السياسي الحالي، لكنهم يعلنون امامك معارضتهم له وشتائمهم للحكم الديني ولرئيس الحكومة وللوزراء ! ماذا تفسرون هذه " الحالة " الدوغمائية التي تجتاح العراقيين اليوم .. بل وتجعلني اعود مرة اخرى الى تاريخ العراق لأقرأ صفحاته بطريقة اخرى واشكك حتى في تاريخ الحركة الوطنية ، اذ يبدو لي ان الصراع ضد انظمة الحكم سابقا لم يكن من اجل امة او شعب او قضية او تقدّم ، بل انه كان من اجل السلطة لا غير .. ان ترصدا وتدقيقا في تاريخ العراق المعاصر ، سيعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك ، كم اجتاح العراق من كاذبين ومتآمرين ودوغمائيين ومزدوجي الغايات ومن الراقصين على الحبال ، ومن المنافقين والاشباه والمصفقين والرفاق المتحزبين على مدى عقود زمنية مضت ، اليوم ، يتم ادراك الفصل بين من كانت له مصداقيته السياسية او دوغمائيته الوطنية !
لماذا الصمت على الفساد ؟ لماذا يصمتون على صفقات الحكومة ورجال السلطة ؟ لماذا يصمتون ازاء استمرار الارهاب ؟ لماذا يقتنع البعض بأن ما يقوله " دولة الرئيس " هو الصواب مهما كانت له من اخطاء ؟ لماذا الدفاع عن كل الخطايا من اجل ان تبقى مومياءات في الحكم ؟ ليس هناك عقلاء يقبلون ان تبقى مآسي البلاد تتفاقم في اي مكان من العراق .. خصوصا وان كلّ العراقيين قد دفعوا اثمانا باهظة جدا منذ عقود زمنية طوال ، من دون معالجة او تحقيق امن ورخاء واستقرار .. فالبلاد لم تزل في قبضة اناس لا يعرفون شيئا عنها ، ولا يدركون مشكلاتها ، فكيف باستطاعتهم حلها ؟ وليس لديهم الا التهتك السياسي ، والعبث الاجتماعي ، والنهب الاقتصادي المنظم .. وهم مصرّون على البقاء في الحكم واقصائهم المفضوح لكلّ القوى الفاعلة والمؤهلة في المجتمع كله ! والاقصاء منظم وعلني ومقبول من طرف ضد الطرف الاخر ، بل ويسكت اي متحالف سياسي او مثقف دوغمائي ازاء هذا الوضع في حين يلوذ الجميع بالصمت ، ربما خوفا ، او اتقاء للشر ، او تشفيا بالاخر ، او تحقيق غايات ، او تقربا من رأي جمعي ، او لا مبالاة ، او موت شعور ، او مكرا وتزلفا ...
سنوات مضت والارهاب يمزق العراقيين ، من دون معرفة من تكون تلك الاشباح السوداء المنطلقة من مصادر معروفة .. كل يوم يتساقط مئات الابرياء ، في حين يهرب المئات من السجون .. بلاد تعمّها الفوضى والقادة الجدد يتنازعون على السلطة والمال والنفوذ بلا خجل ولا حياء .. وغدوا يختلقون الازمات، من اجل اخفاء المعضلات المتفاقمة ! اذكر ان المجتمع كان متعايشا قبل 2003 حيث بدأ الاحتلال الاميركي يمارس سياسة محاصصة قاتلة ، فوجد البيئة صالحة جدا لمثل تلك الممارسات التي كانت وراء تمزيق العراق اليوم ؟ وعليه ، من خلق روح الكراهية ، وبثّ الاحقاد في بنية العراق الاجتماعية ؟ ما نوع الخطاب الذي استخدم من اجل تأسيس هذا التنافر الطائفي السخيف الذي لا معنى له ابدا ؟ من كان يجرؤ على تصنيف الشعب الى " مكونّات " متشرذمة متصارعة في القرن العشرين ، او حتى يسمّيها بالاسم ؟ من أسسّ هذا الانقسام المريع في التمييز الطائفي العلني ؟ كيف يشعر ايّ عراقي اذا اهينت كرامته علنا ، او سفّه تاريخه ضمنا ، او كيلت له الاتهامات التاريخية او السياسية جزافا ؟ عشر سنوات ونحن ننادي متسائلين : اي عمليّة سياسيّة ستنجح في العراق وهي تعتمد حزبية طائفية متخلفّة؟ اي دستور سينجح اذا بشّر بانفصام الاقاليم وتمزيق العراقيين؟ عشر سنوات والمفخّخات تأكل العراقيين دون اي تعاطف حقيقي بين الطرفين لمعرفة من يطحن العراقيين ؟ هل وجدنا واحدا من المسؤولين يضع المصلحة الوطنية قبل نفسه ، وقبل طائفته ، وقبل مصالح حزبه وميليشياته ؟ هل وجدنا بعد كلّ الاخطاء والمفاسد ان يعلن قيادي واحد اعتذاره لما ارتكبه وجناه بحق العراقيين وارواحهم واموالهم واعز ما يملكون ؟
المتحزبون لا شاغل لهم الا سحق المستقلين .. الطفيليون لا خصم لهم الا النزهاء ! الامن في البلاد غدا مجرد ورقة سياسية يتلاعب بها المسؤولون بمنتهى البشاعة ! آليات القمع تطورت هي الاخرى مع الزمن ، ففي زمن الاستبداد ، كان الخوف يوّحد الناس في بلاد مغلقة ، وتعامل الناس مع سياسته القاسية بإدراكهم حدوده ، ولكننا في ازمان الرعب هذه ، تجد ضياع ما كان يجمع كلّ العراقيين ، فطغت الاكاذيب والالتواءات والمفذلكات المبطنة والتزويرات والمساومات والمهاترات ، والسلطة تدّعي الحريات والديمقراطية ، والعمل بصناديق الاقتراع ، لكنها تقهر المتظاهرين ، وتلاحق المعارضين ، وتقصي الساسة المنتقدين الفاعلين وتسحقهم بالاتهامات ، وتأكل حقوقهم ، وتعبث بوجودهم وامنهم ، وتختلس الوطن وموارده بأساليب مفضوحة..
ان اخطر ما اجده اليوم ان تفبرك قضيّة معينة ضمن اجندة مبيتّة تخلقها اطراف مجهولة ، لتتناقلها الاخبار الى كلّ العالم كونها " حقيقة ثابتة " ، وهي كاذبة جملة وتفصيلا ! الناس لم تعد تسمع للصوت الواحد كما كانت تعرفه وترتجف منه في العهد السابق ، بل اصبحت تستمع لخطاب رأس الحكومة يقسم شعبه طائفيا ! وتسمع لأكاذيب أحد ذيوله ، او تتعجب لهذيان شقي دعي ، او تزييف خرف ضنين ، او تدهشك تفاهات رجل معمم يطالب بأخذ الثارات .. او تجد انحياز شيخ عشيرة مأجور ، او عبث اعلامي دجال بالعقول.. او يرعبك صوت ملثم مسلّح يصرخ امام جماعته مهددا .. او ترى تهورات نائب برلماني موتور .. او تشغل الشعب بلاهة امين عاصمة اصبح اسمه مثار تندر .. او يخفون صفقات فساد بلا اي علاج.. ماذا سيقول التاريخ عن شعب يسكت وهو يرى كيف ينهب ذاته ، ويصمت وهو يشهد كيف تهان نفسه ، ويجرّح ابن وطنه ..
اي بلاد هذه تداس فيها كرامة الانسان على ارضه من قبل جيش البلاد ؟ اي بلاد هذه تسحق فيها الكفاءات على حساب سيادة الجهلاء ؟ اي منطق حداثي معاصر يبنى على الطائفية بإصدار قانون للأحوال الشخصية الجعفرية ؟ وكأننا نقول للعالم كله ان الصراع في بيتنا بين دينين اسلاميين اثنين ! ففي اي عصر يعيش اهل العراق اليوم بعد ان كانوا متعايشين وتتزاوج اطيافهم مع بعضها الاخر وتجمعهم قصص حب عميقة ، وذاكرة صداقات رائعة ، وفرص عمل مشتركة ، وجيرة اجتماعية متآخية ؟ اي بلاد هذه يصبح القضاء فيها اداة بيد حزب او حاكم ؟ اي بلاد هذه تنقسم فيها النخب المثقفة على اساس طائفي معتوه لتكون بيادق مشوهة بلا مبادئ ؟ اي بلاد هذه التي يتشرذم اغلب مثقفيها طائفيا ؟ اي بلاد هذه التي غاصت في الدوغمائيات ؟ اي بلاد هذه ترتعش فيها السايكلوجيات هزا عنيفا لأتفه الاسباب ؟ اي شراكة سياسية في بلاد اختفت منها المواطنة على حساب التمذهب ؟ اي بلاد هذه يتحكم في مصيرها الانقساميون والمتطرفون والمتشددون ؟ اي محنة هذه ان يتهم كل المشاركين والمعارضين معا بتهم قاسية خالية من الاخلاق ؟ ايّ بلاد هذه ، يمنح البعض فيها رواتب ومبالغ مالية تحت مسميات شتّى اختلقوها لهم .. والالاف المؤلفة من الذين خدموا البلاد لا احد يلتفت اليهم ؟ اي بلاد هذه ضاعت فيها المعايير والقيم تماما ، بحيث تبدّدت ثقة الناس ببعضهم ، وبنيت حواجز نفسية وثقافية منيعة بين اي عراقي واخر ؟
خلاصة الامر ، اذا كنّا واقعيين ، علينا تغيير الواقع الحالي ، واذا اردتم القضاء على الارهاب والفساد ، فما على العراقيين الا ان يتخلصوا من اوبئتهم السياسية وامراضهم الاجتماعية ليجربوا حظهم مع مشروع وطني انتقالي وانبثاق دستور مدني يضمن حقوق كل المواطنين وواجباتهم بعيدا عن طائفية هذا الطرف او ذاك .
1397 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع