د. علي محمد فخرو
أصدرت منذ أسبوعين مؤسسة الفكر العربي العدد السادس من تقريرها التقييمي السنوي عن حال الوضع الثقافي العربي، وقد أظهر التقرير وجود إشكالية في رباعية التعليم والبحث العلمي وسوق العمل والتنمية،
فمستوى التعليم في البلاد العربية يتراجع بشكل مقلق، وهذا بدوره ينعكس سلبا على نوعية وتخصصات ومستويات القوى العاملة العربية التي لا تتلاءم وحاجات سوق العمل، وما يصرف على البحوث في البلاد العربية هو أدنى من المعدل الوسطي العالمي، وبالطبع فان النواقص الثلاثة تجعل التنمية، وعلى الأخص الاقتصادية، متعثرة.
ويخلص التقرير إلى وجود حاجة لإصلاح تلك الرباعية، وهذا استنتاج وصلت إليه العديد من تقارير التنمية العربية عبر العديد من السنين،ومع ذلك ظلت النواقص في ازدياد وتعثرت الكثير من محاولات الإصلاح.
اذن، أين تكمن المشكلة ؟ إنها ليست في وجود مشاكل ونواقص في كل ساحة من الساحات الأربع، وإنما في غياب إرادة وعقلية سياسية وطنية تنموية تربط الساحات الأربع وتجعلها في خدمة بعضها البعض.
دعنا نبين ما نعنيه من خلال سرد لتجربة حدثت في الواقع، في كوريا الجنوبية، وهي تجربة تظهر كيف تؤدي عملية الربط للساحات الأربع إلى نتائج مبهرة، إذا قادتها إرادة سياسية وطنية.
في بداية الستينات من القرن الماضي كانت كوريا الجنوبية بلدا فقيرا متخلفا يعيش على تصدير الأسماك وبعض المعادن وألبسة ذات جودة وقيمة متواضعة، لكن قيادتها السياسية، وكانت آنئذ ديكتاتورية عسكرية، قررت تحويل البلد من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة ومنافسة، كان المدخل لذلك التحول هو العمل في آن واحد، وبترابط وتناغم، على إحداث تغييرات جذرية في ساحات التعليم والبحوث والصناعة.
إصلاح التعليم قاد إلى تهيئة عمالة متميزة في مستواها العلمي والتدريبي، وبالتالي القادرة على الانخراط في خدمة المشاريع الصناعية الكبرى الجديدة من مثل صناعة الصلب والسفن الكبيرة الحديثة في البداية، ومن مثل صناعة الإلكترونيات ذات الجودة العالمية العالية فيما بعد ذلك.
ومن اجل أن تكون تلك الصناعات ذات جودة عالمية وقادرة على المنافسة صرفت الحكومة الكورية الجنوبية مبالغ هائلة من أجل قيام مراكز بحوث مساندة ومطورة ومجددة للصناعة الكورية، وهكذا ترابطت بصورة محكمة عملية إصلاح التعليم مع عملية تطوير البحوث العلمية والتكنولوجية مع عملية إصلاح سوق العمالة، لتصب جميعها في خدمة نهضة صناعية كبرى.
بتلك الإرادة العقلانية السياسية المخططة جرت إصلاحات شاملة في وقت واحد، ومن أجل أهداف تنموية محددة، أدت إلى خروج كوريا الجنوبية من العالم الثالث المتخلف إلى العالم الأول الصناعي المتقدم خلال ثلاثين عاماً،
إذا عدنا إلى الأرض العربية، إلى عشرات التقارير التي تتحدث عن فواجع في ساحات التعليم والبحوث وسوق العمل والتخلف التنموي فان الجواب لن يكون باجراء إصلاح محدد هنا أو تغيير شكلي هناك، وإنما بوجود مشروع وطني ستخدمه تلك الحقول بعد إصلاحها.
قلب الموضوع إذا هو وجود إرادة وطنية تبني مشروعا وطنيا تنمويا يستفيد استفادة إيجابية إبداعية من منتجات التعليم الجيد ومن نتائج البحوث المرتبطة بحاجات المجتمع، وهي إرادة وطنية ستقوم بوضع استراتيجية تؤدي إلى تغييرات كبرى في بنية الاقتصاد ليكون اقتصادا إنتاجيا ومعرفيا وخدميا رفيع المستوى وذا توجه إنساني وغير خاضع لأهواء قلة فاسدة جشعة، وهي إرادة وطنية ستلعب دور المساند والمحفز والحامي لذلك المشروع التنموي الوطني إلى أن يقوم على رجله ويصبح منافساً في ساحات العولمة.
وبالتالي فانها ارادة وطنية لا تخضع لإملاءات مؤسسات الخارج التي تخدم الرأسمالية العولمية المتوحشة حتى ولوجاءت على حساب المصالح الوطنية المشروعة.
هنا، دعنا نكون صريحين فنقول بأن وجود هكذا إرادة وطنية عقلانية مخططة قادرة على الاستفادة من تلك الإصلاحات المطلوبة في رباعية التعليم والبحث وسوق العمل والتنمية،، إن وجود هكذا إرادة غير متوافر حاليا في أرض العرب، لهذا السبب تمر السنون دون أن تجد تقارير التنمية والثقافة من يستفيد منها ويحول توصياتها إلى فعل في الواقع،
لقد توافرت مثل تلك الإرادة بتلك المواصفات، باستراتيجية تنموية واضحة المعالم، في كوريا الجنوبية فنجحت في النهوض، والأمل في أن تنتج ثورات وحراكات الربيع في النهاية مثل هكذا ارادة عربية قادرة على النهوض، إنه أمل يجب أن نعمل من أجله مهما كثرت العقبات والتحديات.
1283 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع