د .محمد عياش الكبيسي
لم يكن العرب في تلك الحقبة من التاريخ يعرفون شيئاً عن الجرائم والمكائد السياسية إلا بحدود ضيقة جداً، ولم يكونوا يعرفون كذلك ما يسمى بحرب الوكالة وإن كانوا حطبها في شام الغساسنة وعراق المناذرة، حيث كانوا يتقاتلون نيابة عن القوتين العظيمتين (فارس والروم) اللتين تعلمتا بمرور الزمن كيف تتلافيان الصدام المباشر، وكيف تدبران المكائد بمختلف الأدوات والواجهات.
هناك نقطة ثالثة لا تقل خطورة عن النقطتين السابقتين وهي الوعي بما يمكن أن يسببه فراغ السلطة المفاجئ لأية دولة مهما كانت قوية ومتماسكة، وهذا ما كان يدركه الفرس والروم بحكم تجاربهم السياسية العريقة وخبرتهم في الحكم وإدارة الدول والإمبراطوريات المتباعدة الأطراف، أما العرب فلا شك أنهم كانوا يفتقرون لهذه الخبرة حتى بعد اندفاعهم مجاهدين وفاتحين في شرق الأرض وغربها.
نعم هناك حوادث جزئية حصلت في هذا السياق مبكرا، بيد أن هذه الحوادث لم ترق إلى مستوى تشكيل الخبرة والوعي اللازمين لمواجهة مثل هذه التحديات، فقد حاول بنو النضير اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حكم عليهم الرسول بالجلاء وهو لا شك علاج سياسي يتناسب مع جريمة سياسية بهذا الحجم، ولم يتعامل الرسول معها قضائيا كجريمة جنائية شخصية، وهذه سابقة في غاية الأهمية، وكان من الممكن أن تشكل مثالا يحتذى في الكثير من الحوادث التي حصلت فيما بعد خاصة تلك التي استهدفت مركز القرار في الدولة الإسلامية.
تذكر بعض الروايات أيضاً أن عمر بن الخطاب كان قد هم بقيادة معركة القادسية بنفسه بعد أن بلغه مستوى الإعداد العالي والحشد الكبير لجيش الفرس إلا أن علياً وهو وزيره الأمين قد أقنعه بالعدول لأن الفرس سيكونون أكثر استماتة لقتل (رأس العرب) وإنهاء الدولة الإسلامية، وهذا يؤكد وجود مستوى من الوعي بأهمية الحفاظ على مركز القرار خاصة في أيام الأزمات والتحديات الخارجية، لكن الذي يظهر من مجريات الأمور فيما بعد أن هذا الوعي لم يترسخ في الأمة بصورة منهجية وعملية تناسب حالة الاصطدام المباشر مع إمبراطوريتين عظيمتين كانتا تقتسمان الهيمنة على أغلب المسكون من الأرض.
ماذا يعني أن الخلفاء الراشدين لم يسلم منهم إلا الصديق –رضي الله عنهم أجمعين- بينهما قضى الثلاثة الآخرون عمر وعثمان وعلي غيلة وغدراً الواحد تلو الآخر؟! وهذه قضية أكبر من كل القضايا، ومسألة تحتاج إلى وقفة طويلة وجادة، لكن هذا لم يحصل وإلى اليوم! حيث تعامل معها المسلمون كحوادث مجزأة ومقطعة وكأنها جنايات شخصية لا أكثر، يدل على هذا تعامل المسلمين مع القتلة، ويكفي هنا الاستشهاد بوصية الخليفة الرابع بعد أن ضربه ابن ملجم على رأسه وهو متوجه لصلاة الفجر فقال: (إن بقيت فأنا ولي أمري، وإن قضيت فضربة كضربتي) ولا شك أن هذا هو أسمى حالات التجرد والبعد عن حظوظ النفس، وهو ما نفخر به بلا شك، لكن هل الذي قتل عليا كان عبدالرحمن بن ملجم؟ وهل الذي قتل عمر هو أبولؤلؤة؟ هل كانت كل هذه الجرائم المتتابعة والتي تستهدف رأس الدولة مجرد عداوات ونزاعات شخصية؟ حتى يخضع القاتل لواحد من الأحكام الثلاثة (القصاص أو الدية أو العفو)! ثم ينتهي الأمر! لقد عاقب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بني النضير جميعاً حينما حاول واحد منهم وهو عمرو بن جحاش قتله، وهؤلاء خلفاء الرسول وقادة الأمة من بعده واستهدافهم لا يختلف كثيراً عن استهدافه هو –عليه الصلاة والسلام- وقد كان من الممكن إجراء تحقيقات شاملة ودقيقة للتوصل إلى المجرم الحقيقي، حقيقة أني لم أجد تفسيراً مقنعاً سوى حالة التجرد والورع والتواضع التي كان يتميز بها الخلفاء الراشدون، وربما أنهم لم يشاؤوا أن يضفوا على أنفسهم اعتبارات القيادة والرمزية والموقع المحوري في الأمة وهم قريبون من لقاء الله، لكن الأمة كان عليها أن تقوم بهذا الدور، فحق الأمة أو الحق العام في هذه الجرائم حاضر وظاهر أكثر بكثير من الحق الشخصي، لكن الأمة على ما يبدو لم تكن قد تشكلت عندها ثقافة الجريمة السياسية وسبل التعامل معها، حيث كان المجتمع البدوي يميل بطبعه إلى الوضوح والصراحة والمواجهة بدل الأساليب الأخرى والتي انتعشت في الحواضر والدول المتقدمة والصراعات الخفية والعلنية على السلطة.
حقيقة أن أبا لؤلؤة وابن ملجم والشمر لا يختلفون عن عمرو بن جحاش، فلماذا حفظنا أسماءهم ونسينا الرابع؟ لأننا تعاملنا معهم بمنظور الجنايات الشخصية، بينما تعامل رسول الله مع الأخير بمنظور الجريمة السياسية التي تتعدى الشخص المنفذ للجريمة إلى الجهة التي دفعته. إننا لا ننطلق من (عقدة المؤامرة) والتي أصبحت سلاحا ذا حدّين، وكلاهما يقتلان روح البحث العلمي والموضوعي، الأول في تبسيط الأمور وتسطيحها وتقطيعها بطريقة تفقد الباحث القدرة على الربط والتحليل والاستنباط العميق مما يوحي بتبرئة الخصوم من أية مكيدة أو مؤامرة وهذا يصادم المنطق والواقع بلا شك، والثاني في تعقيد الأمور وترسيخ ثقافة الشك والخوف من المجهول، وكأننا نعيش في عالم محكوم بالقوى الخفية من مردة الجن أو الإنس إلى الدرجة التي قد تصيبنا بالشلل وفقدان القدرة والرغبة في الدفع أو التغيير.
إن التحقيق في اغتيال ثلاثة خلفاء وبالتتابع وما تبعه من حوادث جسام ومنها مقتل الحسين -رضي الله عنه- والتي ما زالت الأمة تئن تحت وطأتها وإلى اليوم لهو أكبر من مقالة أو بحث أو أي جهد فردي مهما كان، وعلى العلماء وكل التخصصات ذات الصلة والمؤسسات المعنية أن تولي هذا الموضوع الأهمية التي يستحق، ليس من أجل محاكمة الجناة، بل لتحصين الأمة وتلافي التداعيات الخطيرة والمستمرة وعلى مختلف الصعد والاعتبارات.
لقد اختارت الأمة موقفا سلبيا ضعيفا حيث آثرت السكوت عن كل ما جرى، وانتشرت قولة من قال:
ونسكت عن حرب الصحابة فالذي *** جرى بينهم كان اجتهاداً مجرداً
والحق أن الذي جرى بينهم ليس بالضرورة أن يكون اجتهاداً مجرداً، فهم لم يكونوا وحدهم في الساحة، فهناك المنافقون الذين كانوا يكيدون للإسلام وأهله من أيام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهناك المرتدون وهذا ملف آخر لم يحظ بالدراسة الكافية، فالمرتدون هؤلاء قد انخرطوا في جيوش المسلمين بعد القضاء على قادتهم، وليس من المنطقي تبرئتهم تماما مما حصل حتى بعد إعلان توبتهم، كيف وقد انشق على علي وهو الخليفة الشرعي أكثر من عشرة آلاف مقاتل في يوم واحد؟
ثم إن هذا السكوت لم يكن ملزما للآخرين، فقاموا بتقديم قراءة جديدة لكل ذلك التاريخ تعتمد على فرضية أخطر بكثير من الجريمة نفسها، وهي فرضية تآمر الأمة نفسها على دينها وعلى قادتها وعلى أهل بيت نبيها! مما يمهد لاختطاف هذه الرموز لصناعة أمة بديلة وبهوية جديدة، ثم الانتقام من الأمة الأصيلة بعد تجريمها وتحميلها كل ما جرى
1491 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع