د. علي محمد فخرو
هل كان فهمنا لتاريخ النضال ضد المستعمر في أرض العرب فهماً صحيحاً؟ لقد فهمناه على أنه كان رفضاً مطلقاً للعبودية والاستغلال وأنه كان عطشاً مطلقاً للحرية والكرامة. ومن المؤكد أننا لم نفهمه فقط كنضال ضد أناس أغراب، لا يتكلمون لغتنا، ولا يحملون ثقافتنا، وبالتالي لا يحق لهم أن يحتلوا أرضنا ويمارسوا نهب ثرواتنا ويستبيحوا كرامتنا الانسانية.
لكن الآن، وبعد مرور العقود من السنين على تحرير أوطاننا وشعوبنا من دنس الاستعمار الخارجي والمستعمرين الأغراب، نحتاج أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: هل كان نضالنا ضد الاستعمار حباً في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، أم كان كرهاً في حكم الأغراب؟
نطرح هذا السؤال لنعرف ان كان الموضوع بالنسبة للشعوب العربية، قديماً وحديثاً هو مفاضلة بين الخارج والداخل وانتصار للداخل (أنا وابن عمي على الغريب) أم أن الموضوع هو ايمان عميق وتمسك لا يهتز ولا يضعف ولا يساوم بقيم سماوية وانسانية تضع الكرامة الانسانية وحرية البشر والقسط والميزان وعدالة الأنظمة والمساواة في الحقوق والمواطنة فوق كل شيء آخر، بما في ذلك الحياة اذا كانت تحت العبودية بكل أنواعها.
اذا كان الموضوع هو اعلاء القيم السماوية والانسانية الكبرى فان المنطق يقول بأن نضالات الشعوب من أجل تحقيق تلك القيم في الواقع المعاش لا يهمها ان كانت الجهة التي تعتدي على تلك القيم هي من الخارج الاستعماري أم كانت من الداخل الاستبدادي الاستغلالي. ان الظلم هو الظلم سواء أمارسه الحاكم الانجليزي أو الفرنسي أم مارسته قبيلة متسلطة، أم مارسه مذهب طائفي متخلف أم عساكر سارقون للسلطة والحكم.
نعود اذن فنطرح السؤال: هل كان فهمنا لتاريخ نضالنا ضد الاستعمار خاطئاً؟ لن يكون الجواب سهلاً ولا قاطعاً. لكن لنلاحظ الآتي:
- ان شعوباً ضحت بالملايين من الشهداء والجرحى والمسجونين والمنفيين عبر العديد من سنوات الصراع المر ضد المستعمر الأجنبي لا يمكن الا أن تكون قد وصلت الى عدم القابلية للتنازل عن حقوقها الأساسية الكبرى في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الانسانية، أياً كانت الجهة التي ستسلبها تلك الحقوق، وتحت أي غطاء خادع يتم ذلك الاستلاب.
لكن تلك النتيجة البديهية لم تتحقق في الواقع العربي. فعبر ستة عقود من الاستقلال الوطني تعايشت شعوب الأمة بهدوء وقبول محير مع كل أنواع الظلم والاستبداد الداخلي. هل كان ذلك بسبب تاريخها الطويل تحت كل أطياف الملك العضوض الذي باع واشترى العباد ورسخ خوفاً مرضياً في النفوس، أم كان بسبب عادة الانغلاق الثقافي اللا عقلاني المتزمت لمفاهيم القبيلة والمذهب والدين وايديولوجيات الآخرين المستعارة والمشوهة؟ المهم أن كل ذلك قد أوجد لنا مجتمعات لا تعرف كيف تحسم الأمور وتعيش في عالم الثنائيات المفتعلة العبثية المتعارضة دوماً، وبالتالي لا تستطيع تقديم الأولويات والأصول على الفروع والهوامش.
لكن جاء مد الربيع العربي المبهر وقال الكثيرون بأن جدار الخوف التاريخي قد حطمه شباب الثورات والحراكات، وأن أولوية الأولويات للأمة قد اتضحت تماماً للجميع: انها الانتقال الى الديموقراطية الانسانية في السياسة والاقتصاد والاجتماع كشرط وجودي لأمة لم تذق طعم مثل تلك الديموقراطية عبر القرون الطويلة الموحشة. لقد ظننا بأن تضحيات شباب الأمة من أجل هذه الديموقراطية لن تهدر في هذه المرة مثلما أهدرت سابقاً تضحيات الأمة كلها من أجل حرية الأوطان وساكني الأوطان لتنتهي في عبثيات حكم الاستقلال.
لكن الهدر لتلك التضحيات القديمة والحديثة يحدث اليوم أمام أعيننا بصورة مفجعة حتى في الأقطار التي فجرت ثورات الربيع العربي. مرة أخرى يضحي بالمبادئ والشعارات والأهداف التي رفعتها ثورات وحراكات الربيع العربي في صخب صراعات الثنائيات الذي لا يهدأ: الدين أم العلمانية، الحكم المدني أم العسكري، البطل القائد القوي أم جميع الناس وهي تجرب وتتعلم، التضحية بالاقتصاد أم التضحية بالسياسة الخ.... من جدل عقيم يصرخ به اعلاميون مجانين ليل نهار.
انظر الى مصر، هل خرج الثلاثون مليون في 30 يونية لممارسة الانتقام والتهميش والاستئصال لهذه الجماعة أو تلك، أم لتعديل مسارحكم ارتكب الكثير من الأخطاء والخطايا ومن ثم الرجوع الى شعارات وأهداف ثورة 25 يناير من أجل الحرية والديموقراطية الحقة والكرامة والعدالة؟ هل أن الجموع خرجت لادخال مصر في دوامة سجالات الثنائيات وعبثية المقارنات بين أفضال هذا الحكم أو ذاك في التاريخ وفي الحاضر؟ وابان ذلك الصخب ينسى الناس الديموقراطية وينشغلون بالسيسي ومرسي.
انظر الى تونس. هل مشكلتها الملحة هي في كيفية تقسيم كعكة الثورة بين حزب النهضة وباقي الأحزاب والنقابات أم في كيفية انقاذ الديموقراطية من خطر تشويهها وتدمير روحها على أيدي الطغاة من قبل والآن على أيدي قوى سلفية متزمتة تمارس العنف وتريد أن تتحكم في حريات العباد؟
انظر الى سورية وكيف انتهت ثورتها من أجل الديموقراطية لتكون رهينة في يد جيوش من التكفيريين الجهلة الذين يرتكبون أفظع الخطايا باسم قرآن الرحمة ورسالة محمد الانسانية.
أنظر الى ليبيا واليمن والعراق ولبنان والسودان ودول مجلس التعاون والجزائر. لقد ضاعت أحلام الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة في جحيم الصراعات العبثية الممجوجة.
هل ينطبق علينا قول بطل العبثية في رواية كافكا الشهيرة (المحاكمة) من أنه كثيراً ما يكون القيد أفضل للانسان من الحرية؟ أمن أجل الوصول الى مثل هذا الوضع العربي استشهد وضحى ملايين العرب؟
1484 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع