ميّ العيسى أيقونة عراقية في عاصمة الضّباب

 الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل

 

ميّ العيسى أيقونة عراقية في عاصمة الضّباب

ميّ عبد الودود العيسى أيقونة عراقية ونموذج سامي فريد في تعامله وشامخ في سلوكه، وهي المُؤسِسة للدورية التي تصدر في لندن "هَمْسُ الحِوار Whispering Dialogue"، والتي تعني بالأدب والفنون والثقافة عبر العالم.

ميّ العيسى من عائلة بصرية تنتسب الى قبيلة (السبيعي)، جدها الحاج عبد الرزاق العيسى كان رجل أعمال ومن الشخصيات المعروفة في البصرة، وله مساهمته الواضحة في تأسيس كورنيش البصرة في أربعينيات القرن الماضي.

ووالدها المحامي والأديب عبد الودود العيسى (1911-1994)، ولد في البصرة ثم التحق بالجامعة الامريكية في بيروت ثم درس الحقوق؛ ومن ضمنه الفقه؛ في كلية الحقوق جامعة بغداد وتخرج منها عام 1940.

عمل عبد الودود العيسى في المحاماة بعد تخرّجه، ثم انخرط في السلك الحكومي حيث التحق للعمل في شركة نفط البصرة BPC وتدرّج في المناصب حتى شغل منصب مدير الأراضي والحقول فيها حتى بعد تأميم النفط ولغاية تقاعده عام 1980.

لميّ العيسى شقيقان: ثائر؛ وهو مهندس ميكانيك وقُصي؛ وهو عضو هيئة تحرير صحيفة الشرق الأوسط والمُصمم الفنّي فيها.

ولدت ميّ العيسى في كركوك، شمال العراق، وقد اختار لها والدها الأديب اسم (ميّ)، على اسم الأديبة الفلسطينية المعروفة "ميّ زيادة" التي كان يُعقد لها مجلس أدبي (صالون) شهير كل يوم ثلاثاء في القاهرة، وكان يؤممه كبار الأدباء والكُتاب والشّعراء العرب أمثال  عباس محمود العقاد وطه حسين وإسماعيل صبري.

لقد كان صالون ميّ زيادة واسعاً رحباً، وقد اختارتْ أثاثه بنفسها، وعلّقتْ في صدره أبيات من شِعر الإمام الشافعي:
إذا شئتَ أن تحيا سليمًا من الأذى ... وحظُّك مَوفورٌ وعِرضُك صَيِّنُ
لسانَك لا تذكُرْ به عورةَ امرئٍ ... فكلُّك عَوراتٌ، وللناسِ ألْسُنُ
وعينَك إن أبدَتْ إليك مَعايِبًا ... فصُنْها، وقل يا عينُ للناسِ أعينُ
وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ مَنِ اعتدى ... وفارِقْ، ولكنْ بالتي هي أحسنُ

ومن المثير حقا أن "ميّ زيادة" و " ميّ العيسى" تشتركان في الاسم ذاته وفي صفات سامية أخرى، وهذا الاسم من الأسماء العربية العريقة ويعني (الغزالة الصغيرة) ويدل على الفتاة الرقيقة، وفيه قال النابغة الذبياني:
يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ … أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ

وبعد إكمال ميّ العيسى تعليمها الجامعي في كليّة الإدارة والاقتصاد/ جامعة البصرة انتقلت إلى بغداد؛ لتفاقم ظروف الحرب العراقية الإيرانية آنذاك؛ حيث عملت مدرساً مساعداً في معهد الإدارة التقنية في بغداد وقامت بتدريس مادة (علوم الحاسبات وبرمجياتها) بالإضافة إلى مهام إدارية أخرى.

لقد كانت عائلة ميّ العيسى تعشق الأدب، فشبّت ميّ منذ نعومة أظافرها وشغفت بالأدب والشّعر وبتشجيع من والدها الذي كان بيته مركزا أدبياً. وقد نشرتْ ميّ العيسى في عدد من المجلات والصحف المرموقة مقالات أدبية وسياسية واقتصادية؛ منها مجلة سيّدتي وصحيفة الحياة ومجلة كلّ العرب، ولها مساهمات في الجزيرة الرأي؛ فضلا عن صحف ومواقع بريطانية.

في منتصف عام ١٩٩٠ انتقلت ميّ العيسى إلى المملكة المتحدة لإكمال دراستها. ونظراً لظروف الحرب والحصار المُطبّق على العراقيين في داخل البلاد وخارجها، حينئذٍ اضطرت أن تُكمل مشوارها الدراسي وأن تدرس الماجستير في الترجمة واللغويات.

لقد كانت حصيلة دراسة ميّ العيسى للماجستير رائعة حقا، لا سيما عند ترجمتها كتاب الفيلسوف الأمريكي (نعوم تشومسكي) الموسوم: "النظامان العالميان: القديم والجديد"، ليكون هذا الكتاب هو محور رسالة الماجستير مع تحليل ومداخلة سياسية-اقتصادية فضلا عن التحليل اللغوي.

لقد أُعجب تشومسكي نفسه بتحليل ميّ العيسى والذي وصفه "بالتحليل المنير للغاية" في رسالته لها حين أهداها بقية اجزاء الكتاب بطبعته الأحدث.

بعد ذلك نالت ميّ العيسى شهادة الماجستير بالمالية الدَوْلية من لندن وكانت رسالتها عن "التنبؤ بأسعار النفط وتأثريها على الاقتصاد العالمي".

بعدها نالت ميّ العيسى شهادة الماجستير بتخصص (المالية الدَوْلية) من جامعة لندن، وكان عنوان رسالتها: "التنبؤ بأسعار النفط وتأثريها على الاقتصاد العالمي".

كما حصلت ميّ العيسى على شهادة الدبلوم العالي بالكتابة الإبداعية والنقد الأدبي والكتابة للسيناريو والراديو والمسرح. بالإضافة إلى دبلوم بالفلسفة الإبداعية وكلاهما من جامعة كامبردج.

لميّ العيسى كتابان من النصوص الشعرية، آخرهما: "و..همست" عن دار المؤسسة العربية للنشر والتوزيع في 2025؛ وهو حاليا يصول ويجول في معارض الكتب.

ونتيجة لشغف ميّ العيسى وتعلّقها الشديد بالأدب، ونظراً للنقص في الدوريات الثقافية العربية في المملكة المتحدة، وانطلاقا من حرصها على نشر الأدب والثقافة العربية السامية في البلدان الغربية، فقد أسست ميّ العيسى دورية "هَمْسُ الحِوار~Whispering Dialogue" اللندنية لتعني بالأدب والفنون والثقافة عبر العالم.

و" هَمْسُ الحِوار" هي دورية فصلية تصدر باللّغتين العربيّة والإنكليزيّة بالإضافة إلى بعض المقالات والنصوص الشعرية بالفرنسية والإسبانية. علما أن هذه الدورية مُصّدقة من قبل المكتبة البريطانية وتؤرشَف فيها ورقيا وإلكترونيا وتُستخدم مادتها الثقافية المنشورة للدراسات حول العالم. وقد صدر العدد الأول من دورية "هَمْس الحِوار~ Whispering Dialogue" للأدب والفنون والعلوم الإنسانية في كانون الثاني 2018، وهي تسير قُدما بخطى ثابته لاستكمال مسيرتها السامة.

ولميّ العيسى صالون أدبي كان قد توقف برهة من الوقت لظروف خارجة عن الإرادة؛ بما فيها ظروف الحظر بسبب جائحة (كوفيد – 19)، وقد تم الاستمرار في إقامة الجلسات الأدبية من خلال اللقاءات الإلكترونية لمناقشة المواضيع القيّمة وما يُكتب فيها؛ فضلا عن الشّعر والقصة القصيرة، باللغتين العربية والإنكليزية.

والصالون الأدبي لميّ العيسى يحضره المثقف الإنكليزي والإسباني والإيطالي والهندي والأمريكي والعربي، ومن الجلسات ما تتداخل فيها الثقافات، وتتزاحم الآراء، وتتراكم المعارف. ومنها ما تتشابه، أو تتعاكس ليتم نقل خلاصة التجربة الثريّة تلك وزبدتها لاحقاً إلى الدورية الثقافية "هَمْس الحِوار".

الصدفة والتعّرف بميّ العيسى:
للصدفة خصوصية خاصة في حياتي، ومفهوم الصدفة Chance هو حجر الأساس في تخصصي العلمي: العلوم الإحصائية ونظرية الاحتمالات Probability Theory.

يؤكد دونالد نث Donald Knuth، وهو من أكبر علماء الحاسوب في جامعة ستانفورد الأمريكية، إن ما قد يبدو أنه حدث صدفة للبشر قد لا يكون في حقيقته حدث بالمصادفة.

في سنة 2016 تمت إحالتي إلى التقاعد بعد مسيرة حافلة في جامعة الموصل كان من ثمارها تأليف أربعة عشر كتاب علمي وتراثي في مجال الرياضيات والعلوم الإحصائية وعلوم الحاسوب فضلا عن الإشراف على 65 طالب دكتوراه وماجستير.

فكان التقاعد أشبه باستراحة محارب. بعدها بدأتُ بالتوجه نحو الكتابة التي أعشقها منذ نعومة أظافري، وأخذتُ أكتب في المجالات التراثية والتاريخية والأدبية.

في العام 2020 نشرتُ منشوراً عن الشهيدة المعروفة حفصة العُمري (1937-1959) ضمن سلسلة (نساء موصليّات)، وقد تم تحويل هذه السلسلة لاحقا إلى كتاب بالعنوان نفسه وقد نشرته في هذا العام 2025.

لقد رأت ميّ العيسى منشوري هذا في الفيس بوك، فاتصلت بي وطلبت مني كتابة مقالة عن الشهيدة حفصة العُمري لكي تنشرها في دورية "هَمْس الحِوار~ Whispering Dialogue". فقمتُ بالتحرّي عن سكن عائلة الشهيدة في الموصل، ومن حسن الحظ كان شقيقها وشقيقتها يسكنان بالقرب منا في حي مجاور.

ذهبتُ مع زوجتي إلى مسكنهم الكريم، وتم التعارف معهم، وقدّموا لنا التفاصيل الدقيقة عن استشهاد شقيقتهم الشهيدة، كما زودونا بصور وثائقية تاريخية نفيسة تتعلّق بالشهيدة وعائلتها الكريمة.

لم أكتفِ بذلك القدر من المعلومات، بل توسعت بالبحث عن كل ما يتعلق بالشهيدة، منها ما كُتب عنها من قصائد لبدر شاكر السيّاب والشاعر السوري سليمان العيسى.

وهكذا كانت الولادة البكر لأولى مقالاتي في (هَمْس الحِوار): "حفصة العُمَري في الذكرى الستين لاستشهادها" في العام 2019. وفي تلك السنة نفسها انتبهت ميّ العيسى إلى منشور قد نشرته بالفيس بوك عن (سليم علي عبد القادر الخالدي الموصلّي)، وهو والد النحّات الشهير (جواد سليم). فطلبت كتابة مقاله لنشرها على صفحات "هَمْس الحِوار~ Whispering Dialogue". فكانت ولادة المقالة الموسومة "نصب الحرية وجواد سليم".

وهكذا توالت المقالات ذات الطابع الثقافي والديني والتراثي في "هَمْس الحِوار" حتى تجاوزت العشر مقالات.

لا يُخفى أن النافذة الأدبية والثقافية المنوعة التي فتحتها ميّ العيسى قد نجحت وأعطت ثمارها وجذبت أنظار القُرّاء العرب والأجانب في أرجاء المعمورة، وأضحت "هَمْس الحِوار" من النوافذ الثقافية والأدبية التي تتابعها الطبقات المثقفة وتترقب صدورها في مختلف البلدان.

وبالتأكيد فإن من أسباب هذا النجاح الساحق هو الحرص والمتابعة الدقيقة وتفاني ميّ العيسى والعاملين معها في تقديم المميز وبما يتناسب مع متطلبات العصر وبأبهى صورة ممكنة.

دعائنا لهم جميعا بالتوفيق الدائم.. وإلى المزيد من العطاء.

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).ِ

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

810 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع