الدكتور رعد البيدر
الرواتب التقاعُدية أزمة شهرية ... تَبحثُ عن حلولٍ دائميّة
ما بين استلام راتب تولى ، ووجَل انتظار راتب قادم ، يبقى المتقاعد العراقي مهموماً بسبب التزام مفقود وحرب إشاعات مستمرة - إذ تبدأ حكاية المتقاعد مع أول يوم من كل شهر، حيث يتحوّل تقويم حياته إلى عدّاد للقلق ، ينتظر فيه وصول راتبه الذي يفترض أن يمثل استحقاقه بكرامة عن خدمة أنهاها بعد عطاءٍ طويل من سنين عمره .
على الرغم من كون الراتب التقاعدي لا يُمَّكِن أغلب المتقاعدين من تجاوز حدود خط الفقر في ظل حالة التضخم النقدي المتصاعد، لكنه يمثل مصدر العيش الوحيد لملايين العائلات العراقية ؛ لذا فمن المؤسف عدم وجود التزام شهري ثابت بصرف رواتب المتقاعُدين . بالمقابل فإن الحقيقة التي يتغافل عنها اشخاص يمثلون جهة رسمية معنية بالصرف – يتناسون ان الراتب التقاعدي هو استحقاق ( دونَ تفضلٍ او مِنَّة - حكومية أو شخصية ) حتى أضحى ملموساً تكرار التشَدُق بتحميل الآلة (الأخطاء الفنية للأنظمة الإلكترونية ) تبريرات تأخر صرف الراتب التقاعدي مُتغافلين عن الإخفاقات الإدارية للعنصر البشري أياً كان دورة و في أية وزارة أو دائرة كان.
لم يكن ما حدث في شهري أيلول وتشرين الأول 2025 حالة استثناءً بل رُبما يصح أن توصف بكونها نهجاً مؤسفاً يُظهر هشاشة العلاقة بين المواطن والدولة . ففي شهر أيلول 2025، تأخر المتقاعدون عن استلام رواتبهم - رغم إعلان هيئة التقاعد الوطنية عن استكمال جميع الإجراءات على لسان أحد مسؤوليها المخولين بالتصريح ، في حين ظلّت عملية التمويل حبيسة الأروقة الإدارية لوزارة المالية، متأخرةً لعدة أيام عن الموعد المقرر في اليوم الأول من الشهر. ورغم نفي الوزارة المتكرر لوجود (عجز في السيولة ) وإصرارها على أن السبب مجرد (إجراءات فنية ) إلا أن التأخير يُتَرجَم بكونه عرقلة لحياة المتقاعد الذي ينتظر استلام الراتب لتسديد ديونه وشراء علاجاته وتأمين بقية متطلبات ضرورات حياته .
في بلدٍ نفطي كالعراق لا يُقبلُ اي تذبذب في موعد الصرف حتى لو كان تأخيراً بسيطاً كالذي حدث في تشرين الأول 2025 حيث تم الإعلان عن الصرف في الأول من الشهر؛ لكون التذبذب يجعَل المتقاعد في حالة ترقب وقلق مستمرين ، كونه لا يعرف متى ستقرر ( الفنيات – الأنظمة الإلكترونية ) تُعطّل أو إطلاق راتبه الشهري .
و بعد أن اصبح فضاء وسائل التواصل الاجتماعي واسعاً ، أكتوي المتقاعد من لهيب الزيف الإعلامي ؛ بسبب سرعة انتشار الإشاعات - التي تتفاقم في ظل غياب المعلومة الرسمية الصريحة والسريعة. فبمجرد أن يتأخر الصرف لمدة يوم واحد، تنطلق موجة الأخبار المُغرضة التي تستهدِف أحدى الغايتين - إما افتعال حالة من الذُعر ، أو استغلال نتائج الإحباط الناشئ من تضارب الأخبار . وفي هذا الخصوص يزداد وقع الإشاعة على نفوس المتقاعدين خصوصاً إذا تضمنت مزاعم ( إفلاس ) صندوق التقاعد ، أو (عجز) الحكومة عن صرف الرواتب . ووفق لتجارب ما حصل ؛ فغالباً ما يتبع هكذا أخبار تكذيب رسمي لاحق من قبل مسؤولين في هيئة التقاعد. بالنتيجة تعتبر تلك الاخبار قد نجحت إذا حققت حالة من الفزع الاجتماعي .
على جانبٍ آخر من الوصف والتحليل البسيط لمجل الظاهرة ، تنتشر أكاذيب معاكسة لا تقل ضرراً عما سبق ذكره - تزعُم ( حصول الموافقة على زيادة فورية وكبيرة ، أو صرف راتبين معاً ) مما يدفع بآلاف البسطاء من المتقاعدين بسرعة التوجه نحو المصارف ( الرافدين والرشيد ) ومكاتب منافذ الصرف الإلكتروني بلا جدوى ، بذلك يضيع وقت وجهد المتقاعد في انتظار أمل كاذب .
نتيجة الأمل والوهم يتحول الفضاء الاجتماعي إلى منصة للغضب، إذ يستغل السياسيون أو وسائل إعلام محسوبة على أطراف معينة أزمة التأخير لتوجيه النقد السياسي الحاد ضد الحكومة ووزارة المالية، فيضخموا حجم المشكلة لأهداف تنصب في مرامي سياسية. في حالة كهذه يتحول المتقاعد من مواطن ينتظر استلام استحقاقاته المالية إلى ورقة ضغط سياسية، يدفع ثمنها من راحته واستقراه النفسي وأمانه المعيشي.
معاناة المتقاعد العراقي في استلام رواتبه بشكل غير منتظم تعني كونها قصة غياب الالتزام الحكومي المطلق ، وعدم اتباع قواعد الشفافية الفورية . فالرواتب مؤمنة في الموازنة المُقرة سلفاً ، لكن الخلل في الآلية الإدارية لصرفها ؛ كونها بطيئة بل مُتَعَثرة ، مما يفتح الأبواب على مصاريعها لحرب إشاعات مضللة تتسبب برعب وفزَع المتقاعد - شهرياً .
في ظل غياب القواعد الدقيقة و الثابتة بصرف رواتب المتقاعدين ، قد يكون من بين المقترحات المنطقية للتعامل مع ظاهرة تأخر صرف رواتب - هو توحيد رأي ومضمون تصريح الجهات الحكومة المعنية بصرف رواتب المتقاعدين ، وانتقالها من سياسة الرد والتبرير بالتصريحات الفورية إلى نهج الشفافية الاستباقية . وعلى سبيل المثال وليس الحصر - ان تقوم هيئة التقاعد الوطنية بإصدار بياناً مُمَنهَج يوم 28 من كل شهر تؤكد فيه اكتمال التمويل ، وعدم وجود تأخير في الصرف الذي سيتم بموعده المقرر يوم 1 من الشهر القادم ، أو لتحديد الموعد الجديد بدقة وتبريره بوضوح قبل حدوث التأخير؛ لأجل تحصين المتقاعدين من سموم الإشاعات ، وحماية كرامة المتقاعد من الترَّقُب والقلق الشهري المُهين.
أخيراً – ما بينَ راتب تقاعدي يُصرِفَ بأيام ، وراتب قادم ينتظرهُ المتقاعد لمدة شهر أو أكثر ... سيبقى السؤال المُقلِق الذي يبحث عن جواب - مُعَلَقاً في أذهان كل المتقاعدين :
هل سأستلم راتبي في هذا الشهر بموعدة المعروف، أم سأكون ضحية لخبر كاذب جديد؟
806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع