تكريت مدينةٌ بلا متحف … ذاكرةٌ أزلية تنتظر من يصونها

إبراهيم فاضل الناصري

تكريت مدينةٌ بلا متحف…ذاكرةٌ أزلية تنتظر من يصونها

يقينًا أقول: إن المتاحفَ المحلية ليست جدرانًا تُؤطِّر الماضي، ولا صناديقَ زجاجية تُجمِّد الزمن، بل هي ذاكرةُ المجتمعاتِ والشعوبِ في أبهى تجلّياتها، ومرآةُ الحضاراتِ والمدنيّاتِ التي مرّت، وتركت خلفها أثرًا لا يُقاس بثمن.

فحين تغيب، لا يغيب الحجر أو الفخّار، بل تغيب الرواية، وتُغلَق نافذةُ التأمّل في الذات والتاريخ.
وفي المدن التي تنهض على إرثٍ عميق، يصبح المتحف ضرورةً ثقافية، لا مَعلَمًا سياحيًّا فحسب.
وفي العراق، حيث كل مدينة تكاد تكون فصلًا من كتاب الحضارة، يغدو غياب المتحف علامةَ استفهامٍ لا تخصّ الثقافة وحدها، بل تخصّ الوعي الجمعي.
ومن بين تلك المدن التي تصرخ في صمتها، وتنتظر من يُنصف ذاكرتها… تبرز تكريت، منجمُ الخبر والأثر، والرموزُ الغرر؛ مدينةٌ بلا متحف…! وذاكرةٌ تنتظر من يصونها.
فتكريت، المدينة العتيقة التي نقشَت اسمها في سجلّات المدنية منذ فجر وادي الرافدين، ومرورًا بعصور الإسلام الزاهرة، حتى نهاية العصر العباسي، ما تزال حتى اليوم بلا متحفٍ يضمّ شواهد تاريخها العريق.
مدينةٌ تنام في ثراها كنوزٌ أثريةٌ نادرة، لكنها تواجه صمتًا ثقافيًا يُثير من الأسئلة أكثر مما يُقدّم من إجابات.

وتكريت الحاضرة، ليست مدينةً غابت عنها ذاكرةُ التاريخ، بل غاب عنها الإطارُ الذي يجمع هذه الذاكرة ويوثّقها.
فالأرض التي خُصّصت قبل عقودٍ لبناء متحف، شهدت في أواخر تسعينيات القرن الماضي تشييد مبنىً متكامل، غير أنّه ظلّ مغلق الأبواب، لم يُفتتح قطّ.
ثم جاء عام 2003 بالغزو الأمريكي، ليحسم مصير المشروع بالعدوان، أعقبه دمارٌ كامل، ويبقى المكان، إلى اليوم، ساحةً خاوية، حسبُها أنها شاهدةٌ صامتة على مشروعٍ ثقافيٍّ وُئدته الحربُ الغاشمة قبل أن يرى النور.
ولتكريت تاريخٌ يمتدّ من أعماق حضارات الرافدين إلى صُلب التحوّلات الكبرى في التاريخ الإسلامي.
مدينةٌ لم تكن عابرةً في كتب السرد، بل كانت فصلًا ماثلًا من فصوله. وقد كشفت أرضها، بين خرائبها وبيوتها القديمة، عن لُقىً وقطعٍ أثريةٍ نادرة، تشهد ببلاغةٍ على عمقها الحضاري.
لكنها – للأسف – ما زالت متناثرةً، محرومةً من الإطار الجامع، الذي يُحوّلها إلى مادةٍ للدرس والتأمل، وأفقٍ للوعي والانتماء.
إنّ غياب المتحف في تكريت لا يعني فقط غياب مبنى، بل غياب الذاكرة الموثّقة، وغياب الحاضنة التي تُحوّل التاريخ من أرشيفٍ صامت إلى تجربةٍ حيّة.
فالمتحف ليس مستودعًا للقطع الأثرية، بل هو فضاءٌ معرفيّ وتربويّ، يُحرّر الذاكرة من أسر النسيان، ويحوّلها إلى وعيٍ جمعيّ.
إنه مدرسةٌ تتوارثها الأجيال، ومنارةٌ يهتدي بها الباحثون، ومَعلَمٌ سياحيّ يرسّخ حضور المدينة في خارطة الثقافة الوطنية.
من هنا، فإنني أرفع مطالبةً بنداء إلى الهيئة العامة للآثار، لا سيّما قسم المتاحف، لإعادة إحياء مشروع متحف تكريت، وإدراجه ضمن أولويّاتها الملحّة.
فقيام هذا المتحف لن يكون مجرد خدمة لأبناء المدينة، بل سيكون منارةً علمية وثقافية وسياحية، تُنصف المدينة، وتُعيد إليها بعضًا من اعتبارها، باعتبارها واحدةً من الحواضن التاريخية التي أغنت الذاكرة العراقية بمآثرها الخالدة.
وتكريت، اليوم، لا تطلب الكثير؛ فقط أن تُمدّ لها يد الوفاء، لتنهض بذاكرتها عبر متحفٍ يليق بتاريخها.
فهل ترى هيئة الآثار في هذا النداء دعوةً مستحقّة لإنصاف مدينةٍ ما زالت تحتضن تاريخها بصبرٍ وشغف؟
أم سيظلّ المشروع مؤجّلًا إلى إشعارٍ آخر، لا يُعرَف متى يحلّ؟
إن تكريت تحتاج متحفًا يليق بتاريخها، يوثّق ذاكرتها الغنية، ويمنح حاضرها ما يستحقّ من إنصافٍ رمزي وثقافي، ويُعيدها إلى موقعها الحقيقي في سجلّ المدن الخالدة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

678 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع