الطاف عبد الحميد
تعثرت المفاوضات بين الحكومة العراقية والاكراد في عام 1974 بزعامة البرزاني حول الحكم الذاتي للاكراد ...اعطي الاكراد مهلة زمنية لمدة 15 يوما للرد على المقترحات العراقية تنتهي يوم 26 اذار1974 في الساعة الثانية عشرة ليلا كان الفوج1 لمش23 ممسكا بعارضة حرير المشرفة على مدينة شقلاوة السياحية وهي ضمن محافظة اربيل...
امر الفوج وكالة هو الرائد موفق محمد صالح وهو من مدينة الموصل وغير حامل لشهادة الركن...الرجل كان شجاعا ومتطرفا في شجاعته ويملك صفاة قيادية واخلاقية مميزة
الكل ينتظر يوم الرد النهائي على المقترحات العراقية ...في صباح يوم 26/3/1974 طلب الامر من المساعد الرائد مؤيد محمد احمد الطوبجي تهيئة امري السرايا الموجودين مع ضابط الاستخبارات لاصطحابهم الى مدينة شقلاوة...
مدينة شقلاوة بدون مؤسسات ادارية حيث غادرها القائمقام ومديرية الشرطة والتحقوا بالمسلحين بناءا على اوامر صدرت لهم من قيادتهم واقتضى الامر اشغال هذه الدوائر من قبل الجيش لحمايتها من العبث
غادر امر الفوج مع عدد من امري السرايا الموجودين وضابط الاستخبارات الى مقر القائمقامية في المدينة والتقوا بامر السرية الثانية التي كانت تشغل المكان...بين امر الفوج بأن هناك احتمال بأن القيادة الكردية لن توافق على المقترحات العراقية الذي ستنتهي المهلة المقررة لها اليوم ....وأن الموقف سيتحول الى المجابهة مع الجيش ولاحتمال تقرب المتمردين لاحتلال مدينة شقلاوة يتطلب منا ان نستطلع طرق التقرب المحتملة ، طلب من امري السرايا النهوض واستقلوا السيارة وهي من نوع كاز قيادة 69 روسية والمعروفة في الجيش العراقي واتجهوا خارج المدينة باتجاه منطقة خوشناو .. في الطريق اخبر الامر امر سرية الاسناد النقيب محمد سعيد الجادر باخباره عند الوصول الى منطقة(عين ترمة)لتواجد المسلحين الاكراد فيها حسب تقارير الاستخبارات ...اجاب امر السرية قائلا سيدي عين ترمة اصبحت خلفنا ..وهنا اوعز امر الوحدة لسائق العجلة بالتوقف والاستدارة والعودة للمعسكر وحال استدارة السيارة ظهر عدد من المسلحين الاكراد كانوا يختبئون وراء ساتر صخري وشرعوا باطلاق النار على العجلة ... توقفت العجلة لاصابتها في المحرك وترجل الضباط بسرعة منسحبين باستخدام البندقية الوحيدة التي كانت لدى سائق السيارة (يبدوا ان المسلحين لم يكونوا راغبين بقتل من في السيارة) واكملوا المسير نحو المدينة مشيا على الاقدام بعد ان فقدوا امر السرية الثالثة النقيب يعقوب ولم يستطع احد من الضباط تشخيص ماحصل له ولم يكن بالامكان العودة الى نفس المكان لعدم وجود اسلحة مناسبة لديهم..
وصل الامر والضباط الى مقر السرية الثانية في شقلاوة في القائمقامية واتصل امر الفوج بالمساعد النقيب مؤيد واخبره بارسال سرية مشاة مع فصيل الهاون بسرعة الى شقلاوة .. تم ارسال القوة المطلوبة وقام امر الفوج باصطحابها مع فصيل الهاون واتجه الى المكان الذي فتح فيه المسلحين النار لاستعادة النقيب يعقوب ... حصلت مصادمة مع المسلحين الا انهم لم يعثروا له على اثر او معرفة مصيره، قررالامر الاندفاع اكثر ووصل الى مناطق تواجد المسلحين من خلال القصف على مواضعهم باستخدام هاونات الفوج 4/2 الاميريكية انذاك ...وقد جرت كل هذه الاحداث المتسارعة بدون علم مقر اللواء الذي كان يبعد عن مقرنا اقل من كيلو متر واحد ... كان موضع مقر اللواء اقرب الى شقلاوة من مقر الفوج...طغت اصوات الهاون وبقية الاسلحة على الهدوء السائد منذ اسابيع بانتظار الرد من قبل القيادة الكردية واحيط امر اللواء علما بما يجري من قبل هيئة ركنه بعد ان سمعوا اصوات الانفجارات التي تشير الى مالايحمد عقباه ...
اتصل امر اللواء بمقر الفوج عن ماهية الانفجارات التي تحدث قرب مدينة شقلاوة ..اخبره المساعد بتفاصيل اجراءات الامر وانه لايعرف شيئا عنها في الوقت الحالي وقد حاول المساعد الاتصال مع الامر من خلال الجهاز 105 اللاسلكي الا ان مخابر الامر يتعذر بأن الامر بعيد عنه وتركه في مكانه وتبين فيما بعد ان الامر كان يتوقع تلقي امرا برجوعه فورا الى المعسكر من امر اللواء وتجنب استلام الامر مباشرة لانه كان مصرا على استعادة النقيب يعقوب من المتمردين..
في مقر اللواء اصابت امر اللواء موجة غضب عارمة وكان يردد ان الموقف سياسي وليس عسكري واننا بعملنا هذا قد نتهم باننا قد رفضنا التفاهم مع الاكراد وربما ينهار الموقف بسببنا ..ان الدولة وقيادتها بانتظار الرد مساء هذا اليوم...بماذا سوف اخبر قائد الفرقة ؟
وقبل حلول الظلام عادت القوة مع الامر والضباط باستثناء النقيب يعقوب واثنين من المراتب استشهدا خلال العملية وتعذر اخلائهما من منطقة القتال...التقى امر اللواء مع امر الوحدة (حضر امر اللواء الى مقر الفوج قبل وصول الامر) وجرت مناقشة هادئة بينهما .. ثم التقى امر اللواء مع مراتب السرية العائدين من المهمة واثنى على شجاعتهم بتنفيذ الواجب..
وبعد ساعتين طلبنا الامر جميعا الى خيمة بهو الضباط وكان التعب باديا عليه الا انه استدرك الامر بعد ان شاهد الوجوم على وجوه الحاضرين وتبسم وقال لنا (هذه امور بسيطة لاتقلقوا) تناولنا العشاء وبعد تناول الشاي جلب ورق اللعب وطلب من الضباط البدء باللعب وترك الموضوع الا ان مكالمة هاتفية من مقر اللواء طلبوا بموجبها كتابة تقرير مفصل عن الحادث وارساله فورا الى مقر اللواء
اشار الامر الى المساعد بتدوين الملاحظات التي سيمليها عليه وشرع بسرد الاحداث تفصيليا ومن ضمن ماذكره هو فقدانه شخصيا لمحفظة الخرائط مع خريطة الموقف 1/100000مؤشر فيها كافة ربايا اللواء وقوة كل ربية واسلحتها علما بان محفظة الخرائط فقدت من قبل ضابط الاستخبارات مع مسدسه الشخصي خلال المصادمة!!
في الصباح الباكر هبطت طائرة سمتية داخل مقر الفوج مرسلة من قائد الفرقة اللواء الركن طه نوري الشكرجي قائد فرقة المشاة الثامنة ومقرها في اربيل ...وقبل صعوده للطائرة كلف المساعد بتكليف امام مسجد شقلاوة بمحاولة جلب جثتي الشهيدين بتكليف من يراه مناسبا لقاء اي مبلغ من المال وهذا ماحصل فعلا وتم جلب الجثتين ودفنهما في مقر الفوج في اليوم الثاني
كانت وحدات لوائنا محصورة في منطقة شقلاوة لان المتمردين يسيطرون على مرتفعات سبيلك وهذا الوضع مستمر منذ عدة اسابيع واعتمدت الوحدات على مخزونها من المواد الجافة والاغنام الحية وشراء بعض المواد كالخضر من مدينة شقلاوة وقد سمعت اذاعة المسلحين تتحدث عن وحداتنا بانها تأخذ المواد من الاهالي عنوة وهذا لم يحدث قط
نسب مقر اللواء الرائد الركن داؤد سلمان لقيادة الفوج لحين عودة الامر ...بقي الحال على ماهو عليه حتى يوم 17نيسان 1974 حيث قامت احدى تشكيلات الفرقة الثامنة بفتح الطريق الى مدينة شقلاوة..وكأجراء شبه عقابي نسب امر الفوج الرائد موفق محمد صالح الذي كان بأمرة الفرقة منذ ارسل الى مقرها قبل20 يوما الى احد الافواج المحصورة فوق جبل سفين المشرف على مضيق كلي علي بيك حيث كان الفوج يعاني من سقوط عدد من الربايا ..وحال وصوله الى مقر الفوج شرع باعادة تنظيم الفوج واستحدث عدد من الربايا الجديدة والمؤثرة واستطاع الفوج الصمود والحاق اضرار جسيمة بالمسلحين من خلال سلسلة من الهجمات استمرت قرابة شهر كامل..وقد نالت فعاليته القتالية تقدير القيادة العليا وقرر الرئيس احمد حسن البكر في حينه منح الامر وعدد من الضباط رتبة كاملة
واصبح المقدم موفق محمد صالح ضابط يشار له بالبطولة النادرة ثم اصبح امرا للواء نفسه فيما بعد وتحول الحال من حال الى حال
انتهت المعارك في الشمال حال توقيع معاهدة الجزائر عام 1975 وانهار التمرد بشكل غير متوقع وسريع جدا بحيث اندفعت القطعات العراقية بدون اي مقاومة خلال كلي برسليني باتجاه قصري مقر البارزاني ثم الى رايات وحاج عمران على الحدود الايرانية واصبح مفرق ديانا الذي كان يطلق عليه مثلث الموت معسكرا لاحدى القطعات
في منطقة رايات كان هناك سجن يحتوي على عدد من الغرف الواسعة مخصصا للاسرى من الضباط والمراتب ..تمكنت القطعات من انقاذ البعض منهم
قبل توقيع اتفاقية الجزائر بأيام طلب البارزاني من احد اتباعه جلب احد الضباط العراقيين من الاسرى الموجودين في سجن رايات لارساله الى القيادة العراقية لتبليغ رسالة البارزاني اليهم ...في سجن رايات كان احد الضباط العراقيين الاكراد الذي التحق مع المسلحين من الدورة 46 كلية عسكرية مسئولا عن الضباط الاسرى في المعتقل وكان ضمن الاسرى النقيب يعقوب الذي فقد في منطقة شقلاوة وقد وقع عليه الاختيار لحمل رسالة البارزاني للقيادة العراقية
التقيت مع النقيب يعقوب بعد مرور عدة اسابيع في بغداد، فقد كان صديقا لي خلال عملنا في الفوج وروى لي الاحداث مفصلا حيث قال:
عندما فتح المتمردين النار على السيارة التي كنت بها مع الامر والضباط توقفت السيارة لحصول عطل فيها نتيجة الرمي ..ترجلت من السيارة بسرعة الا اني اصبت بالتواء حاد في قدمي ولم اتمكن من النهوض والانسحاب مع الضباط ..اسرت من قبل المسلحين وطلبوا مني المشي معهم الا اني لم استطيع الحركة ..عندها سألوني عن المبلغ الموجود عندي اعطيتهم اياه واشتروا لي حمار من احد الاكراد المارة وركبت عليه واخذوني الى قواعدهم ثم نقلت الى سجن رايات الرهيب..
والسجن يحوي على عدد من الغرف الكبيرة بدون شبابيك نفترش على الارض اكوام من الخبز اليابس وفي الزاوية نفس الغرفة اوعية (تنك) لقضاء الحاجة وكان الباب يغلق علينا لعدة ايام بدون نور على الاطلاق وعندما يفتح الباب يصاب بعضنا بالعمى والاغماء المؤقت
كان المشرف على المعتلين ضابط كردي عراقي من دورتي الدورة 46 وهو يعرفني وقد عاملني بشيء بسيط من التميز حيث كان يتجنب اهانتي اوضربي مثل الاخرين وقد اختارني لمهمة ايصال رسالة البرزاني للقيادة العراقية
في مقر البرزاني او هكذا اتصور أملى علي احد الاكراد رسالة ... قمت بكتابتها من قبلي بعد تزويدي بورقة وقلم ...كان مضمون الرسالة ..تطلب القيادة الكردية من القيادة العراقية عدم اجراء مباحثات مع الايرانيين بخصوص الوضع في شمال العراق وان القيادة الكردية على استعداد لاعادة التفاوض من اجل تحقيق السلام بدون اشراك الايرانيين فيها..طلبوا مني الذهاب الى مقر القيادة لتسليم الرسالة ثم ارتديت ملابس كردية احضرت لي وحزام عريض من القماش حول خصري ووضعت الرسالة داخل الحزام ثم اصطحبوني معهم لمسافة معينة وطلبوا مني المسير باتجاه القطعات العراقية
استمريت بالمشي لساعات طويلة وأنا اعاني الهزال الشديد وفقدان الوزن والحالة النفسية والخوف الممزوج بالامل والنجاة وبعد عدة ساعات شاهدت ربيئة عراقية بدت لي كذلك من اسلوب تحكيمها المعروف لدينا واتجهت باتجهاها وانا الوح بيدي واصيح بأعلى صوتي خوفا من ان يطلق افراد الربيئة النار علي وفعلا فتحت باتجاهي النار ...انبطحت ارضا وتخفيت وراء صخرة لااتحرك وبقيت على هذا الحال واعتقد اني قد فقدت الوعي حينها ونمت نوما عميقا
صحوت على صوت انهض انت منو كاكا ..اجبت على الفور انا لست كرديا انا النقيب يعقوب وقد كنت اسيرا لدى المتمردين وانا الان احمل رسالة لايصالها الى القيادة العراقية والامر مستعجل جدا .. بعد ان تفهموا الامر رحبوا بي واسندوني اليهم واتجهوا بي الى الربيئة واتصلوا بامر الوحدة الذي ارسل سيارة لاصطحابي الى مقر الوحدة ثم ارسلت بنفس الوقت بسيارة خاصة الى مقر القيادة ...وعندما مددت يدي لاخراج الرسالة لم اجدها وتبين لي انني قد فقدتها عندما حملني جنود الربيئة الا اني استدركت الامر واخبرت القائد بأني انا شخصيا من قام بكتابة الرسالة وهي تتضمن جملتين .. ثم جلبوا لي ورقة وقلم وقمت بتدوين الرسالة بشكل مطابق للرسالة الاصلية المفقودة
وفي اليوم الثاني اذيعت الرسالة من اذاعة الجمهورية العراقية والتي رفضتها القيادة العراقية
وبعد اذاعة خبر توقيع معاهدة الجزائر انتهت العمليات القتالية التي استمرت عاما كاملا تكبد فيها الجيش ستة عشر الف اصابة بين شهيد وجريح
تحياتي مع التقدير
2989 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع