سمير عبد الحميد
خطط بغداد العباسية في رحلة ابن جبير
ولد ابن جبير سنة 539هـ وتوفي سنة 614هـ. وهوأبو الحسين محمد بن احمد بن جبير الكناني،الاندلسي،ولد في بلنسية، وسمع العلوم من ابيه في شاطبة.كان من علماء الاندلس في الفقه والحديث ،وكانت له مشاركة في الاداب.وصفه لسان الدين بن الخطيب في كتابه (الإحاطة في اخبار غرناطة)بأنه :((كان اديبا بارعا،شاعرا مجيدا،سري النفس ،كريم الاخلاق ))الا ان شهرته لم تقم الا على كتابه المعروف (برحلة ابن جبير))وهي رحلة قد جاب بها معظم بلدان العرب، وما يهمنا هو زيارته الى دار السلام في شهر صفر سنة 580هـ والتي لم تستغرق سوى عشرين يوما حيث وصفها بانها مدينة عتيقة،وانها لم تزل حضرة الخلافة العباسية،ومثابة الدعوة الامامية القرشية الهاشمية. واول من شاهده مجلس الشيخ الامام رضي الدين القزويني رئيس الشافعية،وفقيه المدرسة النظامية.
والمدرسة النظامية:قد ذكرها الدكتور مصطفى جواد رحمه الله في كتابه دليل خارطة بغداد بقوله:( وفي أوائل القرن الرابع الهجري اقام الأمير مؤنس المظفر دار فخمة عظيمة على دجلة في شمال قصور الخلفاء ،وفي قسم من هذه الدار أنشئت فيما بعد المدرسة النظامية على عهد السلاطين السلاجقة،ويقول أيضا في مكان اخر (ومن الأبنية المهمة الأخرى التي أنشئت أيضا المدرسة النظامية التي كانت في محلة الحظائر القديمة في اخر سوق الثلاثاء....ومن الغريب ان كي لسترانج عين موضع المدرسة في جنوب قصور الخلفاء -لان الدكتور قد حدد موقع المدرسة شمال دور الخلافة في كل مقالاته وبحوثه-...وقد سميت المدرسة بالنظامية نسبة الى نظام الملك وزير الب أرسلان وابنه ملكشاه ،وقد أسست في سنة 457هـ ثم فتحت أبوابها للتلاميذ بعد ذلك بسنتين.)
ولمناقشة موضع المدرسة النظامية من الناحية الخططية كونها تقع جنوب قصور الخلفاء او شمالها ؟ قال الدكتور في شرح خارطة بغداد الصفحة 149:(وفي سنة 383هـ عقد بهاء الدولة البويهي جسرا بين مشرعة القطانين ومصب نهر عيسى من الجانب الغربي وبين سوق الثلاثاء من الجانب الشرقي.وقال في الهامش معقبا :(مشرعة القطانين تقابل اليوم شريعة بيت الايلجي قرب دار النواب على شاطيء دجلة الغربي ،وعلى هذا يكون الطرف الشرقي للجسر في شارع المحاكم المدنية المعروف بشارع المتنبي)اهـ.واما ابن الجوزي فقد قال عن الجسر:(وفي يوم الأربعاء لاربع بقين من جمادى الأولى وقع الفراغ من الجسر الذي عمله بهاء الدولة في مشرعة القطانين بحضرة دار مؤنس ،واجتاز عليه من الغد ماشيا وقد زين بالمطارد) وبذا تكون المدرسة النظامية واقعة في شارع المتنبي اما موقع المدرسة بالنسبة الى دار الخلافة فقد ذكر ابن الجوزي بالكتاب ذاته في حوادث سنة 510هـ(انه وقعت النار في حضائر الحطب ،ودكاكين الحطب التي على دجلة ،واكلت النار الاعواد الكبار وجذوع النخل ،وتطاير النار الى دروب باب المراتب فاحرق كنائبها،واحترقت الدور التي بدرب السلسلة ،والدور الشارعة على دجلة من جملتها دار نور الهدى ابي طالب الحسين بن محمد الزينبي ،ورباط بهروز الذي بناه للصوفية ،ودار الكتب التي بالنظامية الا ان الكتب سلمت،وحملها الفقهاء الى مكان يؤمن فيه من النار ،وهذا الحريق كان بين العشائين.) من هذا نرى ان النظامية ودرب السلسلة وباب المراتب تقع في مكان واحد وبما ان باب المراتب هوالباب الجنوبي لدار الخلافة وان المدرسة النظامية تقع في شارع المتنبي فان دار الخلافة تقع شمال المدرسة النظامية وبذا يكون لسترنج محقا كون النظامية تقع جنوب قصور الخلفاء .ونعود الى رحلة ابن جبير حيث يقول:(ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه،الامام الأوحد ،جمال الدين ابي الفضائل بن علي بن الجوزي،بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي اخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية اخر أبواب الجانب الشرقي).الحقيقة انها ليست دار ابن الجوزي بل هي مدرسةإ يقول ابن الجوزي في المنتظم:(وفي يوم الخميس خامس عشرين شعبان :سلمت الي المدرسة التي كانت دار لنظام الدين ابي نصر بن جهير وكانت قد وصلت ملكيتها الى الجهة المسماة بنفشة فجعلتها مدرسة ...فألقيت يومئذ دروس كثيرة من الأصول والفروع ).
قصور الخليفة:لقد ذكرت سابقا موقع دور الخلافة كونها في وزارة الدفاع القديمة في الباب المعظم، محصورة بين المكتبة المركزية الى شط دجلة شمالا وبين بناية امانة العاصمة السابقة (امام باب القشلة الحالي )جنوبا وهناك دور للخلافة تقع في المنطقة المحصورة بين جامع سيد سلطان علي ومدرسة ابن الجوزي باتجاه باب كلواذى، وعلى ضفاف نهر دجلة الشرقية محاطة بسور وقد سميت المنطقة بالزندورد وهي جزء من محلة باب الازج .يقول الدكتور مصطفى في شرح الخارطة:(وقد شيد الخليفة الأمين قصرا قرب موضع هذا الدير ولعله الحق قسما من بساتين الدير بالقصر كما انشا جسرين على نهر دجلة في جوار هذا القصر للتنقل بين قصره في الجانب الغربي وقصر الزندورد هذا الذي أقامه بالجانب الشرقي).وقدذكر ياقوت في معجمه عن باب الخاصة قائلا:(كان احد أبواب دار الخلافةالمعظمة ببغداد،احدثه الطائع لله -الصحيح المطيع وليس الطائع- تجاه دار الفيل وباب كلواذا ،واتخذ عليه منظرة تشرف على دار الفيل وبراح واسع ،واتفق ان كان الطائع يوما في هذه المنظرة فجوزت عليه جنازة ابي بكر عبد العزيز بن جعفر الزاهد المعروف بغلاو الخلال ،فرأى الطائع منها ما اعجبه ،فتقدم بدفنه في ذلك البراح الذي تجاه المنظرة،وجعل دار الفيل وقفا عليه،)اما ابن الساعي فقد أورد القصة في كتاب المقابروالمشاهدبجانب دار السلام كما يلي:
(فمنها مقبرة الفيل وتعرف بمقبرة الخلال ،انه لما مات عبد العزيز غلام الخلالوكان من اعيان الحنابلة وزهادهم ،اختلف اهل باب الازج في موضع دفنه،فقال بعضهم :في مقابر الامام احمد،وقال الباقون :بل يدفن عندنا هنا ،وجردوا السيوف ،فثارت الفتنة. فامر الامام المطيع لله ان بدفن في دار الفيل .وهو موضع مقابل دار الخلافة في اول شارع البصلية ولم يكن دفن هناك احد ،فهو اول من دفن فيه في سنة ثلاث وستون وثلاثمائة .وصار الموضع مقبرة سابلة يقصدها الناس بموتاهم طلبا لمجاورة غلام الخلال.) ويقول الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(ان المعتمد والمعتضد والمكتفي ماتو بالقصور من الزندورد) وقال المنصور الايوبي في كتابه مضمار الحقائق صفحة81:(ولقب داود((بكمال الدين)) ونقل الى دار في القرية المعروفة بقصر الخلافة)المعروف ان هناك قريتان الأولى سكنها ابن جبير في الجانب الغربي من دجلة والاخري داخل محرمات قصور الخلافة بالزندوردعلى الضفة الشرقية من دجلة بباب الازج.
باب البصلية لم يذكر أي من المؤرخين المختصين بخطط بغداد العباسية بابا باسم باب البصلية سوى ابن جبير هذا ،الذي زار بغداد سنة580هـ وانه مر ببغداد مرورا عابرا وهو ليس مؤرخا وليس من اهل بغداد لكي يعرف المواضع والامكنة باسمائها الحقيقية ،يقول ياقوت في معجمه:(البصلية:محلة في طرف بغداد الجنوبي ومن الجانب الشرقي متصلة بباب كلواذى) ويقول كي لسترانج في كتابه بغداد في عهد الخلافة العباسية ترجمة بشير فرنسيس :(وفي الحقيقة ان اسم باب البصلية لم يرد لافي ياقوت ولا في الروايات الفارسية عن الحصار المغولي ،غير ان باب كلواذى الذي يؤكد ياقوت عنه،يقع بجوار محلة البصلية .
ثم يصف ابن جبير القرية كونها: ( من اكبر محلات الجانب الغربي وهي التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعةعلى شط دجلة بمقربة من الجسر،فحملته دجلة بمدها السيلي،فعاد الناس يعبرون بالزوارق ....والعادة ان يكون لها جسران :احدهما مما يقرب من دور الخليفةوالاخر فوقه) .والمعلوم ان ابن جبير قد حط رحاله في بغداد سنة 580هـ وسكن بربض من محلة القرية يعرف بالمربعةومنها قد ابصر(( الخليفة ابو العباس احمد الناصر لدين الله -في الجانب الغربي امام منظرته، وقد انحدر صاعدا في الزورق الى قصره باعلى الجانب الشرقي على الشط. وهو فتاء في سنه اشقر اللحية صغيرها كما اجتمع بها وجهه ،حسن الشكل ،جميل المنظر ابيض اللون،معتدل القامة ،رائق الرواء، سنه نحو الخمس وعشرين سنة،لابسا ثوبا ابيض شبه القباء برسوم ذهب فيه وعلى راسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر اسود من الاوبار الغالية القيمة المتخذة للباس المملوك مما هو متعمدا بذلك زي الاتراك تعمية لشانه لكن الشمس لاتخفى وان سترت وذلك يوم السبت السادس لصفر سنة ثمانين وابصرناه ايضا عشي يوم الاحد بعده متطلعا من منظرته المذكورة بالشط الغربي وكنا نسكن بمقربة منها وقد يظهر الخليفة قي بعض الاحيان بدجلة راكبا في زورق وهو يحب الظهور للعامة ويؤثر التحبب لهم وهو ميمون النقيبة عندهم قد استسعدوا بايامه رخاء وعدلا وطيب عيش فالكبير والصغير منهم داع له ،وفي الجانب الشرقي من بغداد تقع دور الخلافة وكفاها بذلك شرفا واحتفالا وقد اتخذ الخليفة فيها المناظر المشرفة والقصور الرائقة والبساتين الانيقة)).
ولكن ما مدلول قول ابن جبير :(والعادة ان يكون لها جسران احدهما مما يقرب من دور الخلافةوالاخر فوقه) هل اراد ان يقول كيف يكون في عهد هذا الخليفة جسر واحد متهالك يحمله السيل و المشهور عن الخليفة الناصر كثرة البنيان والمشاريع وان يكون مما سبقه قد بنو اكثر من جسر لراحة الناس. ولايجاد تفسيرا مرضيا للمسالة علينا العودة للمدلولات الخططية في بغداد قبل دخول ابن جبير لبغداد واثناء وجوده ،اما الجسر الذي ذكره ابن جبيروالقريب من سكنه، فهو جسر بهاء الدولة البويهي والذي عقده سنة 383 هـ عند مشرعة القطانين في الجانب الغربي من بغداد وعند حضرة دار مؤنس المظفر في الجانب الشرقي. وحسب قول الدكتور مصطفى جواد في كتاب شرح خارطة بغدادكما ذكرنا سابقا عند دار النواب في الكرخ وشارع المتنبي في الرصافة، ولما كان سكن ابن جبير بالقرب من الجسر فيكون سكنه في مكان ما قرب ثانوية الكرخ للبناةولكي يكون على اتصال بصري مع الخليفة الناصر في منظرته وجب ان تكون المنظرة في مكان ما من اعدادية الكرخ للبنين وكما قال ابن جبير في اعلاه:(.ابصرنا الخليفة ابو العباس احمد الناصر لدين الله -في الجانب الغربي امام منظرته وقد انحدر صاعدا في الزورق الى قصره باعلى الجانب الشرقي على الشط) يقصد ابن جبير( قصر دار المسناة) الخاص بالخليفة فبالرجوع الى كتاب مضمار الحقائق وسر الخلائق لمحمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه الايوبي 567-617 هـــــــجري الصفحة88 من تحقيق الدكتور حسن حبشي الصادر عن عالم الكتب في القاهرة عام 1968 حوادث سنة 578 هجري يقول :((وفيها كان الفراغ من بناء دار المسناة التي على شاطئ دجلة وكان المتولي عمارتها الحاجب الاعز وهي اول دار شرع الخليفة في عمارتها للتنزه والفرجة وهي اول دار فرشت طوابيق ملونة ازرق واحمر وسائر الالوان وكان الخليفة كثير الملازمة لها والحضور فيها وهي من الدور المستحسنة بنيت على طرف السور مما يلي دجلة قد غرم عليها اموالا جمة ولما تم عملها نقل اليها فرشا كثيرة وانية من ذهب وفضة ورتب فيها جماعة من المماليك والخدم لحفظها وحراستها يلازمون الخدمة فيها دائما والى الان فأن كان راكبا في دجلة او على ظهر واراد الدخول اليها تكون مهياة للقعود فيها والسكنى بها وجعل لهذه الدار حرمة قاطعة كحرمة التاج الشريف بحيث لايقدر احد يقعد تحتها ولايدنو منها الا ان كان سائرا في سفينة فحسب). فاذا اراد الخليفة الركوب بالزورق والذهاب الى دار المسناة من المنظرة سيعاق الزورق بوجود جسر بنفشة ، يقول ابن الجوزي في المنتظم حوادث سنة570 :(وفي يوم الجمعة ثاني عشرين المحرم نصب جسر جديد امرت بعمله جهة من جهات المستضئء بامر الله تلقب بنفشة وكتبت اسمها على حديدة في سلسلة،وجعل تحت الرقة مكان الجسر العتيق وحمل الجسر العتيق الى نهر عيسى وكان صاحب كتاب خلاصة الذهب المسبوك اكثر وضوحا في تحديد موقع جسر بنفشة قال:((وفي أيامه -الخليفة المستضيء-عمل جسر ومدعلى دجلة مضافا الى الجسر العتيق ونصب من الدواليب بباب الغربة الى الرقة وذلك سنة سبعين وخمسمائة(أي مقابل المكتبة المركزية في الرصافة وحديقة محلة خضر الياس في الكرخ).فمن الناحية الخططية ،وجب على الخليفة اذا اراد ان ينحدرمن منظرته صعودا الى قصره دار المسناة بدون عائق، عليه ان يزيل جسر بنفشة ويبقي جسرا واحدا وهو جسرمشرعة القطانين وهو جسر ابن جبير الذي سكن بقربه .
693 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع