بسام شكري
قصص من الحرب المنسية الجغرافيا الحيوية لأرض المعركة
لقد ذكرت في معظم القصص التي كتبتها عن الحرب المنسية والمعارك التي جرت "خلال فترة وجودي في الخطوط الامامية للجبهة وهي خمس سنوات " الاحداث التي جرت لكني لم اذكر تفاصيل طبيعة الأرض والحيوانات والنباتات التي كانت في ارض المعركة وما الت اليه المنطقة الحدودية بعد انتهاء الحرب لذلك اخوض الان في هذا الموضوع لكي يستفيد منه أنصار حماية البيئة والعسكريين وسكان المناطق الحدودية بين العراق وإيران في ان معا ويأخذ القارئ فكرة موجزة عن طبيعة المناطق الحدودية بين العراق وإيران وما فيها من تضاريس وحيوانات وما خلفته الحرب من اثار.
لقد خدمت في القاطع الجبهة الأوسط وقاطع بنجوين, والقاطع الأوسط بشكل عام ارض قليلة الصخور كثيرة التلال الكلسية ومعظمها متوسطة الحجم, فيها وديان عميقة و وديان صغيرة واهم وديانها العميقة التي مررت بها وشاهدتها هو وادي الكنكوش وفيها الكثير من الأنهار الصغيرة التي تصب في العراق وهي ارض جرداء ملحية جافة ليس فيها نبات او شجر في التلال خالية تقريبا من القرى في الجانب العراقي وفيها عدد كبير من القرى في الجانب الإيراني بسبب توفر المياه وخصوبة التربة والبيوت الريفية هناك في ايران مبنية من الطين اللبن وهم يبنون بيوتهم متباعدة عكس سكان الأرياف العراقيين حيث يبنون بيوتهم جنبا الى جنب بحيث تتمكن من التعرف على القرى من مسافات بعيدة, وقد دخلت في احدى الاكواخ الطينية فكان عبارة عن حجرة واحدة في وسطها كانون النار المصنوع من مادة الفافون الشبيهة بالألمنيوم مستطيل الشكل وفي اعلاه عمود لتسريب الدخان خارج الكوخ ومكان الكانون شاهدت حوله من جهة اليسار اواني الطبخ المختلفة ورأيت في احدى الزوايا ماكنة خياطة يدوية والبيت مفروش بالسجاد الصوفي اليدوي وفوق السجاد مراتب ومخدات للنوم بالوان مزركشة وبعض الاغطية الصوفية الخشنة والحطب له ركن يقع في غرب البيت من الخارج في مخزن هو جزء من جدار الكوخ وقد تم بناء مستطيل طيني يخرج بعيدا عن حافة الكوخ بمسافة متر ونصف تقريبا ويتم رص الحطب وتغطيته بقطع نايلون حمايه له من رشقات المطر, وفي الكوخ شباكين من كلا الاتجاهين وسقف الكوخ من الخشب وعليه طبقة من الطين المخلوط بالتبن ورأيت حادلة من الصخر الصلب عرضها اقل من متر مع حبلها الطويل في مخزن الحطب, وتستعمل الحادلة لحدل السقف قبل موسم هطول الامطار لكي يقاوم الامطار, وحظائر الحيوانات مبنية من الطين اللبن المخلوط بالتبن وهي واسعة المساحة مرتفعة السقوف وبدون شبابيك وانما كوه مربعة صغيرة في اعلى الجدران في كل الاتجاهات, وقد رأيت في القاطع الاوسط من الحيوانات ذئاب وكان لونها رمادي وتتحرك على شكل قطيع وحركتها ليلا فقط ولم اشاهدها خلال النهار وفي بعض الأحيان كانت تظهر وقت الغروب, وفي القاطع الأوسط من الجبهة تعيش أنواع الثعالب مثل الحصيني الصغير الحجم الجميل اللون الطويل الذنب وابن أوى والثعلب الأكبر حجما ولها الوان مختلفة وأنواع الثعالب تعيش في الكهوف والمغاور ويعيش كذلك الدعلج وحجمه بحجم خروف متوسط الحجم وله وجه اسود قريب على وجه الانسان وهو سريع الحركة ويعيش في حفر تحت الأرض وكل جلده اشواك بيضاء وسوداء حجم الشوكة الواحدة بين العشرة سنتمتر والخمسة عشر واما الافاعي فهناك الحية المخططة بالطول والحية البنية اللون وهي سميكة الحجم طولها يتجاوز المتر والحية ذات اللون الأصفر الفاتح وهي الأكثر عددا التي قد شاهدتها, لم اشاهد هذا التنوع والكم من الافاعي في حياتي لأني أعيش في بغداد حيث المدنية والتطور لكن المقاتلين القادمين من الأرياف يعرفون الافاعي وفي اول مرة اشاهد افعى في الجبهة في كهف دخلنا اليه قمت بضربها بإطلاقة من كلاشنكوف فلم تمت وانما قطع الجزء الخلفي منها وقد اخبرني زملائي بان الافعى لن تتركك حتى تقتلك لانك لم تقتلها نهائيا فضحتك عليكم وفي اليوم التالي كنا في نفس الكهف وكان عددنا يزيد على أربعة عشر مقاتلا فظهرت تلك الافعى وبدون خوف اتجهت نحوي فبادرها اول مقاتل فضرب راسها باخمص البندقية وقتلها ومنذ تلك اللحظة اصبحت حذرا من الافاعي وقد تعلمت مقولة تراثية من زملائي المقاتلين ان الافعى عندما تظهر تقول رحم الله من راني وقتلني لأنها لا تقترب من الانسان او تظهر امامه الا اذا جاء اجلها وتريد ان تموت, وهناك الثعابين السوداء اللون وقد رأيت ثعبانا كبير الحجم لم أرى بحياتي بحجمه وكان قويا جدا وقد حاول احد المقاتلين قتله بعمود خشبي كبير فدفع العمود واسقط المقاتل على الارض من شدة قوته فتكالب عليه اربع مقاتلين وقتلوه بالحجارة والمعاول, ومن الزواحف الارول وفيه احجام مختلفة تبدا من حجم اليد وتصل الى متر وربع والكبير منها فاقع الألوان بين الأحمر والاصفر والبنفسجي واذا ما اقتربت منه ينفخ نفسه فيتضاعف حجمه لكي يدافع عن نفسه بإخافتك منه وينفخ في اتجاهك وهو بطيء الحركة بعكس بقية الأنواع التي لا تتمكن من الاقتراب منها فتهرب بسرعة كبير, والارول من الزواحف يشبه التمساح وكل أنواعه يكسوها جلد محبب من نفس لون جلده وهناك كذلك الارنب البري ويعيش في حفر تحت الأرض وهو على لونين الأبيض والبني وحجمه اكبر من حجم الديك الرومي قليلا واما العقارب فهي نوعين السوداء والصفراء وتكثر في قاطع الجبهة القريب من مدينتي بدرة وجصان في الجانبين العراقي والإيراني وقد كنا نصب الماء في الحفر الصغيرة في الأرض حيث بيوتها فتخرج العقارب فنقتلها ونجمعها في حفرة عميقة نحرقها وندفنها لكي نتمكن من النوم على الأرض بعد تنظيفها من بيوت العقارب, تلال القاطع الاوسط كلسية جرداء وكانت درجة الحرارة فيها في شهر اب تتجاوز الستين درجة في الظل وكنا نضع الماء في جرة بلاستيكية تسع عشرة لترات من الماء ونغلف الجرة بالخيش ونبلل قطعة الخيش بالماء وندفن الجرة تحت الأرض حتى يبقى الماء محافظا على درجة حرارته وكنا اذا تركنا الماء في الاواني المعدنية ( الجليكانات ) فان الماء يتبخر من شدة الحرارة, وبشكل عام فان الامطار قليلة نسبيا في القاطع الأوسط وهي قليلة الرياح صيفا شديدة الرياح باردة شتاء .
النباتات هناك نادرة الا في الوديان التي تمر منها جداول المياه حيث يكثر القصب والشجيرات الصغيرة, واما وادي الكنكوش الأكبر الذي رايته فهو وادي عميق وعظيم تمر منه كميات كبيرة من المياه ولو وقفت فوق التلة المشرفة على الوادي لا تتمكن من سماع صوت زميلك الذي يقف الى جانبك من قوة صوت الماء, وتعيش على اطراف الوادي الارانب والثعالب والغزلان وعلى التلال حيث الأرض الجرداء تعيش الزواحف, تتغير طبيعة الأرض كلما تقدمنا نحو الشمال فقد شاهدت خضرة كثيرة في مدينة ميدان في الطريق من خانقين باتجاه سد دربنديخان وكلما اتجهنا نحو الشمال كلما تغيرت طبيعة الأرض فتصبح جبلية صلبة وفيها من الخضرة ما يعطيها صفة خصوبة التربة بعد ان كانت في مناطق هيلة وخضر وزين القوس ونفطخانة منطقة جرداء قاحلة تفوح من بعض وديانها رائحة الكبريت العفنة, والطيور في تلك المنطقة قليلة جدا باستثناء الوديان العميقة التي تجري فيها المياه وقد شاهدت طيور القطا بكميات لا باس بها وأنواع من صقور الفئران الرمادية اللون وأنواع مختلفة من العصافير الصغيرة الحجم, عندما كنا في داخل الأراضي الإيرانية شاهدت بلبل يشبه البلبل العراقي لكن كانت مؤخرته برتقالية وليست صفراء مثل البلبل العراقي وكان حجمه اكبر قليلا.
ان من الظواهر الغريبة التي شاهدتها هي كثرة وسرعة تكاثر الفئران الصغيرة في ملاجئنا وفي بداية تمركزنا في الجبهة لم نكن نعلم بخطورة ترك الاكل مكشوف او رمي بقايا الاكل قريب من ملاجئنا الا بعد ان شاهدنا ازدياد الفئران بأعداد كبيرة في ملاجئنا واتذكر انه عدد الفئران قد ازداد في احدى المرات بحيث لم نكن نتمكن من النوم مكشوفي الوجه لكي لا تهاجمنا الفئران وكانت الفئران تعض أصابع ارجل المقاتلين اذا ناموا بدون تغطية ارجلها وقد أحدثت بيننا فزعا واشمئزاز عندما اخذت تعض أصابع ارجلنا ونحن نائمين او جالسين نتحدث وقد غافلتنا وكانت تسرق من أيدينا الطعام لدرجة اننا تركنا ملاجئنا واخذنا ننام في العراء الى ان تم التخلص من الفئران ورمي بقايا الأطعمة في مكانات بعيدة عن ملاجئنا, وفي المناطق التي فيها قليلا من الرمال كان هناك الجرذ الكبير الذي تشبه نهاية ذيلة المقشة وهو نوع من الجرابيع وكان حجمه كبيرا يصل الى ثلاثين سنتمترا وهو يعيش في حفر تحت الأرض وهو سريع الحركة.
القاطع الشمالي وقاطع بنجوين مختلف كليا من حيث التضاريس والنباتات والحيوانات فهي منطقة وعرة للغاية وقد اتجهنا الى احدى قمقم الجبال وكان الى يمننا جبل حديد ويقابله جبل هرزلة امامنا حيث يتمدد بالعرض, والجبل الذي اتخذناه موضعا لنا كان على الحدود الدولية مع ايران على ما اتذكر وقد راينا احد البيوت الريفية العراقية في الجبل وكان البيت مبني من الصخور الصلبة وعرض الحائط فيه تقريبا نصف متر او اكثر والبيت طابقين الطابق الأرضي كان مقسم الى قسمين الأول للحيوانات وهو واسع وله شبابيك عالية لكنها صغيرة الحجم والقسم الثاني مخزن للحبوب وقد راينا في ذلك المخزن براميل منحوتة من الصخور ومليئة بالحبوب ولها اغطية من عيدان الأشجار والقش, والطابق الأعلى هو للسكن حيث ان كل الغرف تحتوي على مدفأة حطب اما في وسط الغرف او في زاوية الغرف وجميعها لها انابيب ممتدة لكي تشع الحرارة على الغرفة إضافة الى النار الاصلية التي في اسفل الموقد وغرف النوم تحتوي على شبابيك صغيرة نسبيا في كافة الاتجاهات والسقوف من الحصران المصنوعة من اغصان الأشجار فوقها أعمدة ضخمة من الخشب او الأشجار وفوقها طبقة من النايلون ثم الطين الممزوج مع التبن وفوقه كمية من شظايا الاحجار, اغرب شيء رايته هناك هو مخازن الحطب المعلقة الموجودة في الغابات الجبلية والتي لم أرى مثلها في حياتي من قبل, حيث كانت هناك بعض الأشجار الضخمة قد تم قص معظم اغصانها الداخلية وتم عملها مثل الكأس وقد وضع في داخلها كميات كبيرة من الحطب وربطت بنفس عيدان الحطب وأصبحت تشبه باقة الورد الضخمة وتقريبا كل اربعة أشجار في المنطقة المحيطة بالبيت الذي رايته تكون الخامسة مخزن معلق للحطب, واشجار تلك المنطقة هي البلوط والكستناء والجوز والمنطقة بكر حيث لم يدخلها انسان قبلنا سوى سكان ذلك البيت الذي دخلناه, لم نقم بالسكن في ذلك البيت الكبير خوفا من استهدافه من قبل المدفعية الإيرانية وقد سكنا في ملاجئ قمنا بحفرها في الأرض الصخرية بواسطة المطارق الكبيرة والازاميل حيث نحتنا كل ملجأ بدقة متناهية ولم نأخذ حبة واحدة من الحبوب الموجودة في مخازن الحبوب تلك المنازل الجبلية ولم نمس أي من حاجيات البيت في الطابقين الأسفل والاعلى.
الجبال الوعرة في منطقة بنجوين مليئة بالأشجار المثمرة وقد نمت معظمها لوحدها دون تدخل الانسان فيها, وارض الجبال أينما حفرت تجد مياه جوفية قريبة من سطح الأرض وكنا نحفر في بعض المناطق المرتفعة في الجبال اقل من نصف متر فنحصل على ماء عذب نظيف وبارد.
حيوانات تلك المنطقة التي شاهدتها هي الدب بني اللون وحجمه بحجم بقرة صغيرة وهو سريع ويركض مسافة ثم يقف على رجليه ليرى بشكل افضل للمسافات البعيدة وقد ضربه احد المقاتلين بعدة طلقات من رشاشة الكلاشنكوف لمسافة 300 متر تقريبا لكن الدب لم يتأثر وكأننا ضربناه بحجارة وليس رصاص وهاج من الألم واتجه نحونا يركض بسرعة كبيرة فهربنا الى مكان مرتفع وقد اخبرنا احد المقاتلين الاكراد الذين كانوا معنا عن الحيوانات التي في الجبل فاخبرونا ان الدب الذي لا يمكن قتله الا اذا تمت اصابته في راسه وهو مسالم الا اذا تعرضنا له فيصبح عدواني وقد راينا الذئب الرمادي يعيش في قطيع وما ان بدأت المنطقة تشهد تراشقا بالمدفعية حتى هربت الحيوانات من المنطقة, وقد شاهدت في الجبال المرتفعة الشاهين ذو اللون البني الفاتح ذو الراس الملكي وأنواع من الصقور الجارحة وكذلك نوع من الحمام كبير الحجم بعضه بطوق اسود والبعض الاخر بصدر ابيض.
القاطع الأوسط للجبهة وحسب ما رايته قبل وبعد انسحاب الجيش العراقي الى الحدود الدولية بعد ان احتل مدن عديدة داخل ايران مثل قصر شيرين وأجزاء من كيلان وديسفول هو مجموعة تلال معظمها كلسي نادرة المياه سوى في الوديان العميقة وفيها الكثير من الكهوف وقد شاهدت مقبرة في داخل كهف كبيرا في هضبة مرتفعة في داخل الأراضي الإيرانية وكان عدد القبور يزيد على العشرين قبرا واعتقد بانها مقبرة لسكان المنطقة من الرعاة, وقد ترك الجيش العراقي الاف الملاجئ المحصنة خلفة في فترتي الانسحاب من الأراضي الإيرانية الى الحدود الدولية, وبعد انتهاء الحرب وهي مبنية من أكياس الرمل او محفورة تحت الأرض وسقوفها من قطع الاسبست والالمنيوم والحديد والخشب وقد ترك الجيش العراقي وراءه في داخل الأراضي الإيرانية كذلك كميات كبيرة من الذخائر والاعتدة, وعلى طول الحدود هناك ملايين الألغام المزروعة بنوعيها المضادة للدروع وللبشر لم يتم تنظيفها بسبب انشغال البلدين في حروب خارجية وداخلية بعد انتهاء الحرب بينهما مباشرة, وان تقادم الزمن والامطار والسيول التي حصلت خصوصا وان منطقة الحدود الإيرانية مرتفعة عن الأراضي العراقية مما يتسبب سنويا بجريان السيول باتجاه العراق وقد جرف الغاما لا يمكن التعرف عليها بالعين المجردة لأنها أصبحت مطمورة تحت الأرض ولغاية اليوم يتم الإعلان بين حين واخر عن قيام المياه بجرف جثث لجنود عراقيين الى داخل الأراضي العراقية من خطوط الجبهة وخصوصا في القاطع الجنوبي, لقد قام الانسان بتخريب الطبيعة ودمر الأرض واضر بالحيوانات وجعل المنطقة خطرة على من يمر بها لما تحتويه من الغام وذخائر غير منفلقة, هذا ما تسببه الحرب التي تسببت بدمار الانسان والطبيعة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1328 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع