قصة (غريب) الجزء الثاني

بقلم احمد فخري

قصة (غريب) الجزء الثاني

جلس احمد او (اغريب) في الخلاء وهو يراقب الشياه التي كان يرعاها فاسحاً لها المجال كي تأكل الاعشاب على رسلها. اخرج عبوة (الثرمس) من جعبته وصب لنفسه كأساً من الشاي الغامق وراح يتأمل المرعى الاخضر الجميل المترامي الاطراف. ظل يتسائل عن اسمه. اجل، فاسمه الآن هو غريب آمنت بالله، لكن ذلك هو الاسم الذي منحته له تلك المرأة الطيبة ام مقداد عندما نسي اسمه. يا ترى ماذا كان اسمه الحقيقي؟ سمير، فادي، سعيد، فؤاد، جمعة؟ من هم اهله واين كان يسكن؟ هناك حدس ينبئه بانه اما من البصرة او انه سيذهب اليها لان اسم البصرة ما فتِئ يرن بأذنيه كثيراً وكأنه ناقوس كنيسة. الا ان كلمة (بصرة) بحد ذاتها كانت مقترنة بالطين في ذهنه. فما علاقة الطين بالبصرة يا ترى؟ ربما هو حقاً من البصرة او من ضواحيها. ربما سوف لن ترجع له الذاكرة ابداً فيصبح مزارع وراعي غنم لدى ام مقداد. تلك السيدة الكريمة التي آوته وضمدت جراحه، اطعمته واسكنته في يتها. ماذا افعل يا ربي؟ انا حائر بهويتي واصلي ومنشأي.

بقي يشرب اقداح الشاي الواحد تلو الآخر وينتظر شياهه ترعى في حقل كبير مترامي الاطراف حتى بدأ الظلام يسود رويداً رويدا حين هبطت الشمس لتتوارى في مستقر لها. حمل عصاه وبدأ يجمع الخراف فيقودها ليعود بها الى المزرعة. وعندما ادخلها الحضيرة ودخل البيت رأى ام مقداد تمسك بورقة مطبوعة والقلق بادياً عليها سألها،

احمد : ما خطبكِ يا خالتي؟ تبدين قلقة! ما هذه الورقة التي بيدك؟

ام مقداد : لقد حضر اليوم ساعي البريد فاعطاني ظرفاً فيه هذه الورقة وقال انها مهمة للغاية. اخشى ان تكون امراً جلل.

احمد : يا ترى ماذا مكتوب فيها يا خالة؟

ام مقداد : لا اعلم فانا كما تعلم امية ولكن لا عليك ساخذها الى ابو غريب غداً واطلب من احدهم كي يقرأها لي.

احمد : دعيني اراها لو سمحتِ.

ام مقداد : وهل تجيد القراءة والكتابة يا غريب؟ يا الهي، لم يخطر ببالي ابداً انك قادر على القرائة.

احمد : اجل، بامكاني القراءة. دعيني اراها.

اعطت الورقة لاحمد فامسك بها وشرع بقرائتها ثم قال،

احمد : لا تقلقي يا خالة. انها مجرد اعلان عن اجتماع في ابو غريب لغرض التحضير للانتخابات.

ام مقداد : وما هي الانتخابات يا غريب؟

احمد : انه حدث لاختيار لص جديد بدل اللص القديم الذي من المفترض ان يمثل الناس بالمنطقة. فالسياسيون جميعهم لصوص، يحاولون ان يوهموا الشعب بانهم قادرون على الدفاع عنه وتحسين اوضاعه المعيشية لكن الوعود كلها تتلاشى فور نجاح السياسي وتسلمه المليارات وجلوسه على منصبه الذي لا يستحقه.

ام مقداد : وماذا يحصل لو لم أذهب لأنتخب؟

احمد : لا شيء ابداً.

ام مقداد : إذاً سوف لن اذهب.

باليوم التالي خرج احمد مع الاغنام لكنه اختار مساحة خضراء جديدة كي يرعى فيها اغنامه لانها تبدوا اكثر خضرة من سابقتها. جلس في ظل شجرة مورقة وفتح جعبته فأخرج حاوية الثرمس وصب لنفسه قدحاً غامقاً من الشاي المحلى بالكثير من السكر فراح يشرب وينظر الى الاغنام تلتهم العشب. فهو يشعر بفخر واعتزاز لانه يؤدي خدمة كبيرة لتلك السيدة التي آوته وضمدت جراحه وسمحت له ان يسكن في بيتها بعد ان كان يسكن... يسكن... يا ترى اين كان يسكن قبل مجيئه اليها؟ حاول جاهداً ان يتذكر. اغمض عينيه واراد ان يحفز ذاكرته ولكن دون جدوى. وبينما هو يشرب القدح السابع استفاق من غفلته وانتفظ واقفاً وقال بقلق، "يا الهي لقد اخذني الوقت، يجب ان اعود بالاغنام الى المزرعة". حمل عصاه وصار يهش بها الغنم ويجمع الخراف بمكان واحد من كل صوب لكنه عندما بدأ يحصيها اكتشف ان العدد ينقصه خروف واحد. ترى اين ذهب ذلك الكبش الصغير المشاغب. بدأ يروم المكان باحثاً عنه لكن دون جدوى. ابتعد عن القطيع وصار يبحث حتى وصل الى حطام سيارة قد تفحمت وسبق ان اكلتها النيران. كان منظر السيارة مألوفاً لديه. كيف واين ومتى شاهده يا ترى؟ متى ولماذا؟ لم يتمكن من الاجابة. بدأ يلتف حول الحطام ويتفحصه من الخارج حتى رأى شيئاً ذهبياً صغيراً يلمع بداخله. دخل الحطام ومد يده ليلتقط مفتاحاً مربوطأ بسلسلة وبآخره حاوية معدنية صفراء تحتوي على قرآن ورقي بداخلها.

 فتح الحاوية واخرج القرآن من الحاوية فعلم ان النيران لم تصل الى اوراق الكتاب ففتحه على احدى الصفحات لا على التعيين ليقرأ. قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ.

بقيت الآية ترن بذهنه وهو صاغر ينظر اليها. كيف احترقت السيارة وتفحمت وبقي هذا القرآن صامداً بصفحاته الورقية دون ان يحترق؟ فجأة بدأت صورة مشوشة تدخل رأسه فرأى رجلاً مسناً يقول له، (اشبك مفتاح السيارة بهذا القرآن يا ولدي كي يحفظك من السوء). يا الهي الرجل قال، (يا ولدي) فهل كان يتحدث معي لاني ابنه ام لانه يقول ذلك ويعتبرني مثل ابنه؟ لماذا لا استطيع ان اتحقق من تقاطيع وجهه؟ وكأنه يرتدي قناعاً شفافاً. من هو يا ترى؟ خرج من حطام السيارة فرأى الكبش الصغير واقفاً امامه. امسك به وقبله ثم ارجعه الى باقي القطيع وصار يقودهم جميعاً للعودة الى المزرعة. وعندما وصل هناك رأى ام مقداد تحمل سطلاً ازرقاً مليئاً بالحليب قالت،

ام مقداد : حمداً لله لانك عدت. فقد قلقت عليك.

احمد : لا تقلقي يا خالتي. لقد وجدت شيئاً عجيباً في حطام سيارة قديمة محروقة.

اخرج السلسلة من جيبه وعرضها على ام مقداد فقبلت القرآن وقالت،

ام مقداد : ابشر يا ولدي، هذه رسالة من عند الله.

<<<<<< في بغداد <<<<

قرر فالح في ذلك اليوم ان يتصل بمؤيد ليقف على مدى استعداده لتقديم المساعدة. طلب رقمه على تطبيق واتساب فسمع الهاتف يرن ثم اجاب قائلاً،

مؤيد : السلام عليكم استاذ فالح. لقد توقعتك ان تتصل بي قبل ذلك. فلماذا تأخرت؟

فالح : بالحقيقة، شعرت بالاحراج من الاتصال بك لانني لم اشأ ان اشغلك بتلك الاوقات الثمينة التي تمر بها مع خطيبتك. فانت باقي هنا لاجل محدد.

مؤيد : لا تقلق يا استاذ فالح. هل تود ان اناديك استاذ فالح؟

فالح : كما تشاء. لكن الجميع يناديني ابو قيس.

مؤيد : حسناً، متى نلتقي يا ابو قيس؟

فالح : ما رأيك ان نلتقي اليوم؟

مؤيد : ممتاز جداً. متى واين؟

فالح : سابعث لك الموقع بعد ساعة من الآن. هل يناسبك ذلك؟

مؤيد : اجل، اجل. ساكون معك حينها.

انهى فالح المكالمة مع مؤيد لكنه لم يشأ ان يخبر زوجته بما دار بينه وبين مؤيد لانه يعلم جيداً انها ستحبط عزيمته كما فعلت في السابق. ارتدى ملابسه وخرج فسألته،

بلقيس : الى اين العزم؟

فالح : لدي مهمة اود قضائها.

بلقيس : وهل هي مهمة سرية ام انك تريد اخباري عنها؟

فالح : لا، لا سرية ولا بطيخ. اريد فقط ان اقوم بها وحدي.

بلقيس : حسناً. اخرج يا رجل فقد اصبحت مملاً جداً لانك تلازم البيت طوال اليوم ولا تتحدث معي ابداً.

خرج فالح من بيته وكان يحرصاً على ان لا يصل متأخراً على موعده كي لا يثير امتعاض مؤيد فيحجم عن تقديم المساعدة. وصل فالح بالوقت المحدد وبقي ينتظر حتى وقفت سيارة اجرة لينزل منها مؤيد. تصافح الرجلان ومشيا باتجاه مقهى لطيف اعتاد فالح الجلوس فيه. وبعد ان طلبا القهوة بدأ فالح بالحديث إذ قال،

فالح : انا سعيد جداً لانك لبيت دعوتي اليوم.

مؤيد : انه لشرف لي ان اقابل انسان مثقف مثلك يا ابو قيس. كيف استطيع خدمتك؟

فالح : بما انك تعمل كمحقق لدى شرطة الدنمارك، اردت ان استشيرك بامر يقلقني لاكثر من ستة اشهر. انه يتعلق باختفاء ابني. فقد خرج ابني احمد ذو الـ 17 عاماً من البيت راكباً سيارتي ولم يعود حتى الآن. اتصلت بالشرطة وقتها وطلبت منهم البحث عنه لكنهم لم يعثروا عليه. ربما لانني لا انتمي لاي حزب من الاحزاب التي ظهرت على السطح مؤخراً او لانني لا املك المال الكافي لاقوم برشوتهم. لذا لم يولوا الامر اهمية كبيرة. وكلما سألتهم عن تطور القضية، يخبروني بان البحث مازال جارياً عنه.

مؤيد : اجل فهمت هذه المعاملة الباردة. فالانسان بنظرهم لا يكون ذا اهمية الا اذا كانت ورائها منفعة شخصية. وهذا ما جعلني اترك العراق واهاجر. ولكن، كيف استطيع مساعدتك؟ فانا لا املك اي صفة رسمية هنا لعدة اسباب، اولها انني غريب عن هذه الديار الآن ولا انتمي لسلك الشرطة بالعراق. حتى انني لم امارس مهنة المحاماه منذ امد بعيد.

فالح : على اقل تقدير بامكانك السماع لقصة ابني واسداء النصح كي احاول ان ادفع بالقضية الى منحى جديد لم يفكر به احد.

مؤيد : حسناً اخبرني بجميع ملابسات القضية من الفها ليائها.

بدأ فالح يقص عليه كيف اعطى ابنه مفاتيح سيارته ليخرج ولا يعود بعدها. كذلك حدثه عن تبليغ الشرطة باختفاء ابنه وكيف كانوا غير مبالين بطلبه. وعندما اكمل سرد القصة بكل تفاصيلها سأله مؤيد قائلاً،

مؤيد : الا اعطيتني رقم سيارتك؟

فالح : بكل ممنوية سجل عندك (٨٦٤٤٥ي بغداد خصوصي).

مؤيد : طيب عزيزي ابو قيس ساحاول ان اقوم ببعض الاستفسارات بطريقتي الخاصة. فمازال عندي الكثير من زملاء الجامعة والاقارب من ذوي الاتصال المباشر بالشرطة العراقية.

فالح : انا جداً شاكر لافضالك. وحتى لو لم تتمكن من تقديم اي شيء فانت هنا لكي تتزوج ولست ملزماً ان تعمل ببغداد.

مؤيد : انا جداً متعاطف معك واي شيء استطيع تقديمه سيكون من دواعي سروري.

فالح : انت غمرتني بكرمك اخي مؤيد.

وقف الاثنان وتوادعا فخرج فالح وعاد الى بيته لتقابله زوجته في الباب وتقول بتهكم،

بلقيس : هل حليت ازمة الشرق الاوسط؟

فالح : ارجوكِ يا بلقيس اتركيني بحالي فانا متعب واريد ان انام قليلاً.

بلقيس : انت لم تتناول وجبة الغداء بعد، فلماذا تنام؟

لم يجبها على اسلوبها المج بل اهملها وصعد الى الطابق العلوي لينام. وبعد مرور يومين فقط تسلم مكالمة هاتفية من مؤيد ففتح الهاتف بشغف وقال،

فالح : اهلاً عزيزي مؤيد، هل استجد معك اي شيء؟

مؤيد : اجل يا عمي، لدي اخبار جديدة. هل بامكاننا ان نلتقي ؟

فالح : بالتأكيد. ما رأيك ان نتقابل بنفس المكان؟

مؤيد : وهو كذلك. ساراك هناك مسافة الطريق.

ارتدى فالح ملابسه على عجالة واستغل فرصة انشغال زوجته مع جارتها وهي تستغيب جارة ثالثة في غرفة الاستقبال، فخرج خلسة وانطلق بسيارة اجرة الى الموعد ليجد مؤيد واقفاً في الشارع قبله. صافحه وسأل،

فالح : اخبرني يا مؤيد، ما الامر؟

مؤيد : لدي صديق قديم اسمه سالار تخرج معي من كلية الحقوق. قال ان لديه قريب يعمل بالشرطة فطلب منه بشكل شخصي ان يجري بعض التحريات عن رقم سيارتك التي اعطيتني اياه. قال ان الشرطة عثرت على سيارة بيضاء متفحمة ولديها جزء من الرقم نفسه. الجزء الذي تبقى ولم تصله النيران كان يتطابق مع رقم سيارتك. زودني صاحبي بالإحداثيات وبهذه الصورة انظر.

عرض مؤيد هاتفه لفالح ليرى الصورة.

 

 فالح : يا الهي انه هو. انا متأكد انه نفس رقم سيارتي.

مؤيد : نحن لا نستطيع ان نجزم 100% فالرقم ليس كاملاً. عدد الاحاد الاولي 5 ليس واضحاً. كذلك الياء بالنهاية لسنا متأكدين منها.

فالح : انظر يا اخ مؤيد الترجمة بالاسفل للارقام الانكليزية فهناك الحرف E تحتها.

مؤيد : اجل لديك الحق لكن الرقم خمسة بالبداية لا يظهر بسبب الحرق.

فالح : انت قلت ان لون السيارة المحروقة هو ابيض، وسيارتي ايضاً بيضاء.

مؤيد : اجل هناك آلاف السيارات البيضاء بالعراق لان ذلك اللون مرغوب جداً لدى العراقيين.

فالح : ربما علينا ان نذهب الى هناك ونتأكد بانفسنا. هل اخبرك صديقك عن موقع حطام السيارة؟

مؤيد : اجل، قال انها بالقرب من ابوغريب.

فالح : إذاً ربما كان احمد يريد السفر الى الاردن مع اصدقائه.

مؤيد : لا يا ابو قيس. ابو غَريب ليست ابو غْريب. انها منطقة ريفية بالقرب من الناصرية.

فالح : الناصرية! هل يعقل ذلك؟ وما دخل احمد بالناصرية ولماذا يذهب الى هناك؟

مؤيد : لا اعلم ولكن اول شيء يجب ان نفعله هو الذهاب الى المكان وتفحص الحطام فقد تكون سيارة اخرى غير سيارتك. لا تنسى ان الرقم ٥ لم يكن واضحاً.

فالح : اجل لكننا إن لمسنا الحروف باصابعنا فربما سنتمكن من الاستدلال عليه لان الحروف بارزة.

مؤيد : اجل لديك الحق. دعنا نذهب غداً. ساحاول ان اتسلف سيارة قريبي للذهاب بها الى هناك في الصباح الباكر.

فالح : انا مستعد. هاتفني عندما تحصل على سيارة.

مؤيد : وهو كذلك.

وعندما اسفر الصبح باليوم التالي خرج فالح ومعه المحقق الدنماركي (من اصول عراقية) مؤيد واتجهوا الى الجنوب قاصدين موقع العثور على السيارة المحروقة. في بداية الرحلة سأل مؤيد،

مؤيد : كم ستدوم الرحلة في رأيك؟

فالح : الرحلة الى الناصرية عادة تدوم ثلاث او اربع ساعات لكن موقع الحادث سنصله قبل الناصرية بقليل.

مؤيد : واي المدن سنمر بها في طريقنا؟

فالح : بالبداية سنمر بالاسكندرسة والمحمودية ثم الحلة وبعدها الديوانية لكننا سنصل الى ابو غريب قبل الناصرية بقليل.

مؤيد : برأيك، هل سيعمل نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي اس)؟

فالح : بالتأكيد، لانه مرتبط بالاقمار الصناعية مباشرة.

مؤيد : انا جداً مستبشر لسببين. الاول اننا سنحاول معرفة شيء عن ابنك احمد والثاني هو انني لم يسبق زيارة جنوب العراق من قبل.

مشت السيارة بهم لاكثر من اربع ساعات حتى بدأ جهاز الـ (جي بي اس) ينبئهم بالاقتراب من موقع الحطام. وفجأة بدأ الجهاز يقودهم عبر طريق ترابي بعيداً عن مسار الطريق المعبد. استمروا بالسير وسط غمامة كثيفة من الغبار خلفهم حتى وصلوا الى حطام سيارة متفحمة بالقرب من اشجار برية سوداء. صرخ فالح قائلاً،

فالح : هذه سيارتي، هذه سيارتي، ولكن اين لوحات السيارة؟

مؤيد : من المؤكد ان فريق البحث الجنائي قاموا بازالتها لاجراء المزيد من البحث.

فالح : يا الهي، لقد قتلوا ابني.

مؤيد : تمهل يا عمي تمهل. لا تكن متشائماً لهذا القدر. فالشرطة قد تفحصت الحطام وتأكدوا ان ابنك احمد لم يكن بداخلها عندما أحترقت.

فالح : لا اعلم ماذا حل بي. فشغفي على ابني جعلني لا افكر بشكل منطقي. انا آسف.

مؤيد : دعنا ننزل ونتفحص الحطام عن قرب.

صار مؤيد يدور حول السيارة ويتفحصها من الخارج ثم دخل بداخلها فصرخ فالح قائلاً،

فالح : كن حذراً يا مؤيد، فقد تنهار عليك لانها مهترئة وقد تتهاوى.

مؤيد : لا عليك يا عمي. سالقي نظرة من الداخل.

بقي مؤيد ينظر بالجزء الامامي ثم انتقل الى الجزء الخلفي. بعدها عاد وصار يتفحص ارضية الجزء الامامي حتى اعلن،

مؤيد : ليس هناك شيء يذكر. فقط وجدت هذا المشط الصغير. يبدو لي انه مشط للدمى. لقد وجدته في القسم الخلفي من السيارة.

فالح : اخرج من الحطام يا مؤيد ودعني القي نظرة عليه لو سمحت.

خرج مؤيد من حطام السيارة وبيده المشط. عرضه بيده الى فالح وسأل،

مؤيد : هل سبق لك ان رأيت هذا؟

فالح : اجل، اجل، انه لابني. كان ابني يستعمله في تسريح شاربه.

مؤيد : انه دليل مهم. والآن دعني ابحث عن المزيد من الادلة بداخل الحطام علني اجد شيئاً ينفعنا.

دخل مؤيد الحطام من جديد وصار يستقصي المكان بدقة كبيرة فلم يعثر على اي شيء اضافي. خرج منه وقال،

مؤيد : لقد تأكدنا من الحقائق التالية: اولاً، السيارة هي سيارتك لا جدال في ذلك. ثانياً، اما ان خرج احمد من السيارة قبل احتراقها بارادته او ان شخص او اشخاصاً ما اخرجوه منها عنوة وهذا امر لا نعلمه بعد. ثالثاً، الحريق قد تم بفعل فاعل لان التقرير الجنائي توصل الى ان النار التي احرقت السيارة اشتعلت بوقود الكيروسين والسيارة لا تسير بذلك النوع من الوقود.

فالح : اين ولدي إذاً؟

مؤيد : لا اعلم بعد لكنني سابدأ التحقيق واحاول ان ابذل قصارى جهدي.

فالح : شكراً لك ولافضالك سيد مؤيد.

خرج مؤيد خارج الحطام وصار يتفحص المكان بدقة متناهية. سار بعيداً عن الحطام وبقي ينظر بتروي حتى نادى على فالح وقال،

مؤيد : يا ابو قيس، تعال الى هنا وانظر الى هذه البركة من الطين الجاف. يبدو ان شخصاً ما كان جاثماً بداخلها لانها اخذت شكل جسم انسان باقدامه ويديه. لكنها غير واضحة تماماً ولا يمكننا ان نجزم انها لاحمد. شيء غريب.

فالح : وما الغريب في ذلك؟

مؤيد : تقرير البحث الجنائي لم يذكر اي شيء عن هذه البركة. يبدو انهم لم يلاحضوها. او ربما لانها تبعد حوالي 50 الى 60 متراً عن الحطام.

فالح : وهل هذا امر مهم في نظرك؟

مؤيد : ربما يا عمي ابو قيس. سنرى فيما بعد. دعنا نذهب الى مخفر الشرطة المحلي ونتحدث اليهم.

ركبا السيارة وانطلقا بها الى مركز مدينة ابوغريب بحثا عن مخفر الشرطة فادلوهما فدخلا المخفر وطلبا مقابلة الضابط. ادخلا الى الضابط وحيوه فرحب بهما وقال،

الضابط : كيف استطيع ان خدمتكما؟

فالح : اسمي فالح عبد الباسط من بغداد وهذا هو السيد مؤيد فالح.

الضابط : هل هو ابنك؟

مؤيد : كلا، انه تشابه اسماء فقط. جئناك اليوم لان ابن السيد فالح مفقود منذ اكثر من 6 اشهر ولم تعثر الشرطة عليه. لقد علمنا من تقرير البحث الجنائي انكم قمتم بتفقد مكان جريمة وقعت حيث احرقت سيارة.

الضابط : لم تثبت الابحاث ان جريمةً قد وقعت. ولم يكن لدينا اي دليل يثبت ان احتراق السيارة بفعل فاعل ولم تكن مرتبطة بسيارة الاستاذ فالح.

مؤيد : لكن آثار الحريق تدل على ان النار اضرمت بالكيروسين. وكما تعلم ان السيارة لا تسير بالكيروسين.

الضابط : اجل انت محق ولكن ليس هناك دليل على ان الحريق لم يضرم من قبل شخص آخر كاطفال او عابر سبيل مثلاُ بعد وقوع الحادث. لذلك قيد الحادث انه قضاء وقدر.

مؤيد : اجل ولكن لماذا يضرم عابر سبيل السيارة؟ فهذا كلام غير منطقي. بصراحة انا اعتقد انها جريمة كراهية. لان هناك من اخرج الفتى واوسعه ضرباً ثم رماه ببركة وحل، ظناً منهم ان الفتى قد مات فعلاً ثم قام باضرام النار بالسيارة كي يخفي جميع الآثار.

الضابط : نظرية تستحق التأمل. لكنني لست متأكداً بان ذلك فعلاً ما حصل. والآن دعني اسألك سيد مؤيد كيف تكونت لك كل تلك الافكار والقدرة على التحليل؟

هنا تطوع فالح ليعرف الضابط بمؤهلات مؤيد إذ قال،

فالح : السيد مؤيد هو محقق بشرطة كوبنهاكن بالدنمارك وكذلك يحمل شهادة المحاماة من كلية الحقوق ببغداد.

الضابط : تشرفنا بحضورك معنا. ثق باني ساحاول ان اتعاون معك باي شيء تطلبه للوصول الى حل للقضية والعثور على جثة المجني عليه. إن كان قد قتل.

هنا بدأ فالح يذرف الدموع بصمت فانتبه اليه مؤيد وقام بالطبطبة على كتفه وقال،

مؤيد : لا بأس عليك عمي ابو قيس. دعنا لا نفقد الامل. فربما ابنك مازال على قيد الحياة.

فالح : اتمنى ان نجد رفاته على الاقل حتى نستطيع دفنه فارتاح من الالم واقطع الامل.

مؤيد : كن متفائلاً يا عمي. دعنا لا نستسلم فابحاثنا بدأت للتو.

الضابط : والآن ارجو منكما المعذرة لان لدي اعمال متراكمة منذ الامس.

فالح : شكراً لك حضرة الضابط. لقد اخذنا الكثير من وقتك. سنتصل بك إن احتجنا لاي شيء مستقبلاً.

الضابط : سيكون ذلك من دواعي سروري. رافقتكم السلامة.

فالح : قبل ان نخرج حضرة الضابط، هل تنصحنا بفندق جيد هنا بابو غريب؟

الضابط : اغلب الفنادق هنا ليست بالمستوى اللائق ولكن هناك فندقاً صغيراً يدعى (صباح الخير) بامكانكم المبيت فيه فهو لا بأس به بالمقارنة بباقي الفنادق الاخرى بالمنطقة.

فالح : شكراً لك مرة ثانية، وداعاً.

خرج فالح ومؤيد من مكتب الضابط محملين بالقليل من الامل خصوصاً وانه اعرب عن استعداده الكامل لتقديم العون إن احتاجوا اليه. لم يجدا الكثير من العناء بايجاد الفندق ولا بالحصول على غرفتين فيه خصوصاً وانه كاد ان يكون خالياً من النزلاء.

وفي اليوم التالي التقيا في غرفة فالح وقررا الذهاب للسوق لتناول بعض الطعام هناك قبل ان يواصلا جولتهما الاستقصائية في البحث عن احمد او عن رفاته إن كان ميتاً. وبعد العودة من السوق قررا الذهاب الى مخفر الشرطة للمزيد من الاستفسارات مع ضابط الشرطة المتعاون الذي ابدى استعداداً كاملاً في مساعدتهما للعثور على ضالتهما. دخلا مخفر الشرطة وتوجها مباشرة الى مكتب الضابط فطرقا الباب ودخلا فاستقبلهما استقبالاً لائقاً وطلب لهما قدحان من الشاي فبدأ فالح الحديث إذ قال،

فالح : نحن متأسفون لازعاجك لليوم الثاني على التوالي لكنني اردت ان اعلم إن كان قد استجد معك شيء بخصوص القضية؟

مؤيد : اردنا كذلك ان نعرض عليك دليلاً وجدناه بداخل السيارة. انه مشط صغير كان يستعمله احمد في تسريح شاربه. يبدو ان فريق البحث الجنائي لم يعثر عليه اثناء فحص حطام السيارة.

الضابط : هذا دليل مهم للغاية ويمكننا التأكد من هوية احمد من خلال الحمض النووي الذي على المشط. لذلك سابعث بالمشط الى المختبر وسوف اطلب منهم ان يقوموا بفحص الـ...

بهذه الاثناء وصل ضجيج مدوي يدل على شجار يدور بداخل مخفر الشرطة ولكن خارج غرفة الضابط. فتوقف الضابط عن الكلام واستأذن من ضيفيه فالح ومؤيد وخرج ليرى سبب الضجيج فعلم ان شجاراً قد وقع بين اثنين احضرتهما الشرطة الى المخفر لفض النزاع فسأل،

الضابط : ما الذي يجري هنا يا عريف جبار؟

عريف جبار : سيدي لقد وقع شجار بين رجلين بالسوق اليوم وتطور الى اشتباك بالايدي مما دفع الناس الى طلب النجدة من الشرطة. وعندما وصلنا هناك احضرنا الرجلين الى المخفر.

اقترب الضابط من الرجلين وسأل الاول،

الضابط : ما اسمك؟

چلوب : اسمي چلوب سيدي.

الضابط : اهلاً وسهلاً بچلوب النشال ابو المشاكل. ما هذه الفرصة السعيدة؟ الم تخرج من السجن قبل شهرين؟

چلوب : اجل سيدي. وانا الآن قد تبت عن الحرام واصبحت مواطناً مصلّحاً.

الضابط : مواطناً مصلّحاً يا حمار؟ والله لو كان هناك خمسين ميكانيكياً لا يمكنهم اصلاحك. اسمها مواطناً صالحاً، مواطناً صالحاً يا جحش.

وبهذه الاثناء خرج مؤيد وفالح من مكتب الضابط ليستقصيا الامر بانفسهم فوقفا خلف الضابط يستمعان الحديث. اقترب الضابط من الرجل الثاني وكان شاباً لا يتعدى الثامنة عشرة من العمر فسأله،

الضابط : وانت يا ولد، ما اسمك؟

الولد : انا اسمي غريب سيدي.

الضابط : اعطني اسمك الكامل يا فتى؟

غريب : لا اعرف اسماً غير غريب.

الضابط : هل انت لقيط يا ولد؟ الا تعرف اسم اباك؟ والآن اخبرني لماذا تشاجرت مع چلوب؟

غريب : سيدي انا جئت الى السوق لابيع بعض منتجات المزرعة التي اسكن بها. لكن هذا الرجل اراد ان يسرق مني البضاعة دون ان يدفع ثمنها فامسكت به لكنه اهانني بكلمات نابية فقمت بضربه.

وبهذه الاثناء امسك فالح بالضابط وقال له،

فالح : توقف سيادة الضابط ارجوك توقف.

الضابط : دعني افهم من هذا الغبي سبب الشجار فقد...

قاطعه فالح ثانية وقال باعلى صوته،

فالح : هذا احمد. انه احمد. انه ابني المفقود يا سيادة الضابط انه ابني المفقود يا مؤيد.

مؤيد : اي احمد هذا؟ هل تقصد انه... هل هو ابنك؟ هل انت متأكد؟

فالح : اجل يا مؤيد اجل، هذا هو احمد لحظة واحدة لو سمحت.

ركض فالح الى احمد واحتظنه وصار يقبله ويصرخ حمداً لله، حمداً لله، لقد وجدتك يا ولدي. انت حي يا احمد.

احمد : من هو احمد يا رجل؟ ولماذا تناديني (ولدي)؟

فالح : لانك ولدي وانا ابوك واسمك احمد. لقد اختفيت منذ اكثر من 6 اشهر انا والشرطة نبحث عنك يا حبيبي.

مؤيد : ايعقل ذلك؟ أنصطدم بالفتى عن طريق الصدفة بمخفر الشرطة؟ ما هذه المفارقة العجيبة؟

احمد : لكنني لا اعرفك ولا اتذكرك ابداً. ما اسمك؟

فالح : اسمي فالح عبد الباسط، انا ابوك ونحن نعيش في بغداد. الا تتذكر ذلك؟

احمد : لا اتذكر شيئاً مما تقول. انا اعرف انني اسكن في مزرعة مع ام مقداد وقد جئتها بعد ان اصبت بحادث لكنني لا اتذكر شيئاً الآن.

مؤيد : هذا امر طبيعي فإذا تعرض ابنك لحادث فانه سيصاب بفقدان الذاكرة احياناً. لكنها عادة تخف تدريجياً ويبدأ باستعادة ذاكرته بعد فترة وجيزة. لكن الحادث مضى عليه 6 اشهر. يبدو انه كان حادثاً كبيراً ومؤلماً.

فالح : كل هذا لا يهم. سوف يتذكر كل شيء إن عاد الى بيته وغرفته واصدقائه.

مؤيد : ليست بهذه السهولة يا ابو قيس. فاحياناً يتطلب الامر الى المزيد من الوقت كي يستعيد ذاكرته.

احمد : لكني لا استطيع ان اتي معكما فلدي الكثير من السلع يجب ان ابيعها اليوم بالسوق واعود بعائداتها الى ام مقداد السيدة الطيبة التي آوتني ببيتها وضمدت جراحي وغمرتني بحنانها فعاملتني كما لو كنت ابنها الذي فقدته.

فالح : بارك الله فيك يا ولدي على هذا الولاء الجميل. سنذهب اليها سوية وسنتعرف عليها ونشكرها لحسن صنيعها ولكنك يا ابني يا احمد...

قاطعه احمد قائلاً،

احمد : إذاً اسمي الحقيقي احمد. لم اكن اعرف اسمي حين جئتها لذلك اطلقت علي ام مقداد اسم غريب.

مؤيد : والآن دعنا نعود الى ام مقداد فنتمكن من شكرها بشكل لائق.

احمد : لا، لا يمكنني ذلك. يجب ان ابيع كل سلعتها اولاً ثم اتي معكما.

مؤيد : حسناً سننتظرك حتى تفرغ من بيع السلعة. هل يمكننا اخذ الولد يا حضرة الضابط؟

الضابط : اجل، اجل بالتأكيد فانا اعرف چلوب لانه زبون دائم لدينا. خذ ابنك وارحل من هنا وانا سأتكفل بذلك اللص اللعين.

خرج فالح ومؤيد مع احمد ورجعا الى السوق، وقفا جانباً ينتظران احمد كي يؤدي عمله فدارت بينهما المحادثة التالية،

فالح : اخي مؤيد، انا لا اعرف كيف اشكرك لانك عثرت على ابني. فبعد اليوم انتهت مهمتك وبامكانك العودة الى خطيبتك.

مؤيد : ماذا تتحدث يا عمي؟ مهمتي قد بدأت الآن فقط.

فالح : انا لا افهمك جيداً. لقد عثرنا على احمد. فكيف بدأت مهمتك؟

مؤيد : الا تريد ان تعرف من خطف ابنك وقام بايذائه الى درجة انه افقده الذاكرة؟ يجب ان نقدمه للقضاء.

فالح : قضائنا مسيس مع شديد الاسف ولم يبقى للعراقيين اي حقوق. فانا اتخيل الشعب العراقي كمن يضع شعبا كاملاً في سفينة كبيرة ليس فيه اشرعة او مجاديف ويتركهم بوسط البحر تتلاطمها الامواج فتسير يمين شمال دون هدف ولا حياة حتى.

مؤيد : لا تكن متشائماً بهذه الدرجة يا عمي. على العموم يجب ان نتعرف على الجناة وسبب ارتكابهم لتلك الجريمة. فنحن نعلم انها ليست لغرض السرقة والا لما احرقوا السيارة. ولم يكن لديهم اي غرض آخر سوى ايذائك وايذاء ابنك احمد.

فالح : قسماً برب العزة لو امسكت بهم لقطعتهم ارباً اربا.

مؤيد : سنعمل جاهدين كي نقدمهم للعدالة باي طريقة كانت.

بعد انتظار دام ساعتين كاملتين انتهى احمد من بيع كل سلعته وعاد اليهم وقال،

احمد : دعونا نعود الى المزرعة. رجاءاً اتبعاني.

ركب احمد العربة التي يجرها البغل صابر وقادها الى المزرعة تتبعه سيارة مؤيد وفالح حتى وصلوا جميعاً الى المزرعة بآن واحد. دخل احمد الاسطبل وادخل ابو صابر واعطاه بعض العلف ثم دخل البيت فوجد ام مقداد تنتظره كي يتناولا وجبة الغداء سوية قالت،

ام مقداد : لماذا تأخرت يا غريب؟

احمد : لدي مفاجئة كبيرة يا ام مقداد. اريد ان اعرفكِ على والدي فالح. اتضح ان اسمي الحقيقي هو احمد. وهذا الرجل الطيب اسمه مؤيد. جاء مع والدي ليحاولا العثور عليّ.

ام مقداد : اهلاً وسهلاً بكم جميعاً. كنت متأكدة ان الحق سيظهر يوماً وان غريب سيتعرف على ذويه الحقيقيين. في الواقع كنت مستغربة لانكم تأخرتم ستة اشهر ونيف.

فالح : لديك الحق يا اختي ام مقداد، والحق يقال ان سبب التأخير هو انتظارنا للشرطة كي تودي واجبها حتى تعثر على ابني. لكن الله رزقني بمعرفة هذا الرجل الصالح الذي اعانني في العثور عليه. ورزقنا بك انت التي اعتنيت بابني وآويتيه عندك.

مؤيد : انا سعيد لاننا اخيراً توصلنا اليه ولكن يجب ان لا نتوقف عند هذا الحد فالمجرمين الذين اوصلوه الى هذه الحالة لا يزالون احراراً.

احمد : بالرغم من انني سعيد بلقائكما لكني لا ازال لا اتذكر اي شيء من الماضي ولا اعرف كيف وصلت الى تلك الحالة. كل ما اذكره هو اللحظة التي انتفضت فيها من بركة الطين، بليلة ظلماء ممطرة ومشيت طويلاً حتى وصلت الى بيت الخالة ام مقداد فقامت بتضميد جراحي وكرمتني حتى اعتبرتني بمقام ابنها المرحوم مقداد.

ام مقداد : لا عليك يا ابني. سوف تعود لك الذاكرة ان شاء الله وسوف يغمرك اباك بحنانه فتعود الى بيتك وتفرح بك امك.

فالح : مع شديد الاسف، والدة احمد قد رحلت. وكان له اخ يدعى قيس الا انه رحل هو الآخر. لذلك كنت شديد الحزن على احمد لانه آخر ما تبقى لي بهذه الدنيا. والآن انا متزوجة من امرأة اخرى اسمها بلقيس.

استدعتهم ام مقداد الى الجلوس وتناول الطعام معها فبدأوا يأكلون سوية ثم احضرت الشاي ودار الحديث من جديد حين سأل،

مؤيد : هل تذكرين الملابس التي جاء بها مؤيد عندما دخل عليك اول مرة؟

ام مقداد : اجل، لقد جاء بملابس مقطعة فقمت بغسلها. لكن غريب اقصد احمد لم يشأ ان يرتديها مجدداً وكأنه كان يصب جم غضبه صوب تلك الملابس التي كانت تذكره بالكارثة. انا لازلت احتفظ بتلك الملابس.

مؤيد : هل استطيع ان اراها لو سمحتِ؟

ام مقداد : بالتأكيد يا ولدي. ساحضرها اليك الآن.

دخلت غرفة ملاصقة للاستقبال واحضرت الملابس لتعطيها لمؤيد. بدأ مؤيد يتفحصها بدقة متناهية ثم رفع رأسه وقال،

مؤيد : لاحظوا ان كُمّ اليد اليسرى مقطوع بينما كم اليد اليمنى سليم.

احمد : وماذا يعني ذلك؟

مؤيد : اخبرني العم فالح ان احمد خرج بالسيارة ليقودها بنفسه ويذهب مع اصدقائه في رحلة. فإذا كان هو الذي يقود السيارة وقام زملائه بالاعتداء عليه اثناء ذلك لكان كمه الايمن سيتقطع وليس الايسر.

احمد : وماذا تستنتج من ذلك؟

مؤيد : الاعتداء وقع خارج السيارة وانهم وضعوه في الجزء الخلفي من السيارة وهذا ما يفسر سقوط المشط الصغير منه في الخلف.

فالح : إذا كان احمد في الخلف فمن كان يقود السيارة يا ترى؟

مؤيد : بالتأكيد احد الخاطفين.

هنا ومن دون سابق انذار قال احمد،

احمد : فراس كان يقود السيارة.

مؤيد : من هو فراس؟

احمد : لا اعلم لكنها خرجت مني تلقائياً.

مؤيد : ربما عقلك الباطن استرد جزءاً مما حدث فذكرت اسم الخاطف.

فالح : لحظة، لحظة، لحظة لو سمحتم. انا اذكر ان احمد كان لديه احد الاصدقاء اسمه فراس. لقد وقع خلاف بينه وبين احمد وبقيا متخاصمين لاكثر من سنة. وعندما سألت احمد عن السبب قال بانه يغار مني لان حالنا الاجتماعي جيد بينما كان فراس قد تربى في مأتم.

مؤيد : هل تذكر شيئاً عن بركة من طين يا احمد؟

احمد : اجل وكلما تذكرتها يراودني اسم البصرة.

فالح : وما دخل البصرة في بركة الطين؟

احمد : لا اعلم لكنني ما ان تذكرت الآلام في جسدي وانا جاثم ببركة الطين حتى تذكرت كلمة البصرة وهي مرتبطة بالموت.

فالح : امر محير حقاً.

مؤيد : لحظة يا احمد، لحظة لوسمحت، هل سمعتها اثناء رقودك ببركة الطير ام قبلها؟

احمد : سمعتها اثناء انكفائي بالبركة.

فالح : انا لا افهم اي شيء.

مؤيد : اما انا فقد حللتها. واعرف بالضبط كيف وقع الحادث. هذا ما حصل يا جماعة: خرج احمد من بيتك كي يقابل اصدقائه يوم اختفائه. وعندما التقى بهم نزل ليحييهم فهجموا عليه واوسعوه ضرباً ثم قاموا بتكميمه وربطه ثم زجوه في الجزء الخلفي من السيارة. بعدها قادوه الى ابو غريب فانزلوه من السيارة وقاموا بضربه ضرباً مبرحاً ثم هرب منهم فركضوا ورائه ولما ادركوه عادوا يضربونه حتى سقط ببركة الطين. استمروا بضربه وركله اثناء رقوده بالبركة حتى توقف عن الحركة فظنوا انه مات. وقتها تحدثوا فيما بينهم وذكروا كلمة (البصرة) وقرروا الهروب اليها وعدم العودة الى بغداد. ثم قاموا بعد ذلك بصب الكيروسين على السيارة فحرقوها كي لا يتركوا اي اثر ورائهم.

فالح : اجل ولكن ما الهدف من كل ذلك؟ هل كان الحقد ورائه؟

هنا دخلت ام مقداد على الخط إذ سألت،

ام مقداد : هل قلت يا سيد فالح انك تزوجت من امرأة اخرى بعد وفاة والدة احمد؟

فالح : اجل تزوجت من بلقيس، لكنني لم اشك نهائياً بانها ستقوم بترتيب كل ذلك. لا هذا مستحيل.

ام مقداد : انت لا تعرف عن النساء شيئاً يا ابا احمد. فنحن شريرات وقادرات على فعل ما لن يخطر ببالك ابداً. انا اقول ان زوجتك بلقيس ابنة ابليس هي التي دبرت تلك الجريمة واعطت الاولاد مبلغاً دسماً وطلبت منهم ان يتواروا عن الانظار في البصرة حتى تنسى القضية.

فالح : يا الهي، هذا ما يفسر سحب بلقيس مبلغ 3 مليون دينار من حسابنا المشترك قبل الحادث. يبدو انها اعطته لاصحاب احمد كي يقوموا بقتله ويحرقوا السيارة فلا يتركوا اي دليل خلفهم.

هنا وقف احمد وكأنه يريد ان يقول شيئاً، لكنه بدل من ذلك ركض الى غرفته واحضر السلسلة التي تحتوي على القرآن وعرضها على اباه فالح فقال،

احمد : لقد وجدت هذه السلسلة بداخل حطام سيارة ليس بعيداً من هنا. ربما نفس الحطام الذي تتحدثون عنه.

فالح : اجل، اجل، هذه هي السلسلة التي اعطيتك اياها كي تشبك مفتاح السيارة بها.

مؤيد : إذاً لقد علمنا القصة برمتها. دعونا نعود كلنا الى بغداد ونستجوب زوجتك بلقيس.

ام مقداد : سامحوني يا اعزائي فانا لا يمكنني ان ابرح هذا المكان لان ورائي الكثير من الحيوانات التي تحتاج رعايتي.

فالح : يا اخت ام مقداد، لقد كفيتي ووفيتي باعتنائك بابني كل تلك الفترة. ثقي اننا لن ننسى صنيعك هذا وسنزورك دائماً. وستبقين واحدة منا مستقبلاً.

في طريق الى بغداد جلس الثلاثة في السيارة ودار الحديث بينهم إذ قال،

مؤيد : الآن لدينا اسم احد الجناة وهو فراس. وعلينا ان نبحث عن الاثنان الآخران.

احمد : مازن وزيد.

فالح : عفواً، ماذا قلت يا ولدي؟

احمد : قلت مازن وزيد. لقد تذكرت انهما كانا بالسيارة مع فراس. اجل تذكرت ان من سحبني من الكرسي الخلفي ورماني بالبركة كان مازن. ثم ركلني زيد في خاصرتي. بعدها انضم اليهم فراس فصاروا يكيلون لي الركل الجماعي على كل بقعة من جسدي. وقبل ان يغمى علي سمعت احدهم يقول، "لقد مات يا شباب، دعونا نذهب الى البصرة". اتذكرها بكل وضوح الآن. حاولت ان ارفع رأسي كي انظر اليهم لكنني لم اتمكن من فعل ذلك وغبت عن الوعي بعدها.

مؤيد : إذاً التعليمات كانت واضحة من زوجتك بلقيس. هي التي حرضت اصحابه زيد ومازن وفراس على خطفه وقتله وكافأتهم بالمبلغ الذي سحبته من حسابكم المشترك.

فالح : يا ألهي كم هي شريرة. قالت انها سحبت المبلغ لشراء ملابس جديدة. لا اعلم لماذا اقترنت بها بعد موت ام قيس. الكثير نصحني بعدم الزواج منها لكنني اصرّيت على رأيي وقلت لهم بانها ستعتني باحمد لانه كان صغير السن وقتها. كم كنت غبياً.

احمد : لا تلم نفسك يا... يا... يا بابا فانت لست المسؤول عن افعالها.

مؤيد : بما اننا حصلنا على كل الادلة بايدينا. سنتوجه مباشرة الى مخفر الشرطة فور وصولنا بغداد وسنقدم بلاغ الجريمة كي يقوموا بالقاء القبض عليهم.

<<<<<بعد مرور 30 يوماً <<<<<

انتهت جميع التحقيقات بالقضية وأُحضر المجرمون زيد ومازن وفراس من البصرة بمساعدة شرطة البصرة فأوقفوا مع بلقيس زوجة فالح في قفص الاتهام بالمحكمة. وما هي الا بضع جلسات حين كان المدعي العام يضغط على المتهمين بصورة عنيفة حتى فقد فراس صوابه واعترف امام القاضي بكل شيء إذ قص عليه تفاصيل المؤامرة حين قال،

فراس : قبل 6 شهور اتصلت بنا بلقيس زوجة ابو احمد هاتفياً وقالت بانها تريد التحدث الينا وجهاً لوجه بنفس ذلك اليوم. فذهبنا لمقابلتها دون علم احمد لانها طلبت منا ذلك. وعندما قابلتنا في مقهى بالباب الشرقي قالت انها تريد منا ان نقتل احمد مقابل مبلغ دسم مغري جداً. فسألها مازن عن المبلغ قالت انه مليون دينار. لكن زيد تدخل وسألها، "هل هو مليون دينار لكل واحد منا؟" فقالت نعم ساعطيكم ثلاثة ملايين كي تنفذوا المهمة وتغلقوا جميع الهواتف الذكية ثم تتواروا تماماً عن الانظار. اخبرناها باننا لا نملك هواتف ذكية لاننا فقراء وانها اتصلت بنا عن طريق هاتف احد اصدقائنا من الجيران. فسألتنا بعد ذلك إن كان لدينا معارف يمكننا المكوث عندهم في مكان خارج بغداد بعيداً عن الاعين فاخبرتها بان عندي عمّة تدعى نجية تسكن في البصرة، بامكاننا البقاء ببيتها لفترة طويلة. قالت اريدكم ان تبقوا جميعاً هناك ولا تتصلوا باي احد فوافقنا. وفي يوم الحادث استلمنا المبلغ منها وقررنا تنفيذ المهمة. اتصلنا باحمد هاتفياً وطلبنا منه ان يأتي بسيارة ابيه الى فسحة اعتدنا الذهاب اليها بالقرب من جسر المثنى فوافق. وعلى الحال، قام مازن بسرقة مركبة من نوع كيا تسع لـ 12 راكباً. جاء بها الى مكان الملتقى. وفور وصول احمد بسيارة ابيه وقفنا امامه وطلبنا منه الترجل من السيارة. وقف امامنا مبتسماً ليستفسر عن سبب استدعائه فقمنا وقتها بضربه بقسوة حتى خر على الارض من شدة الالم. ربطناه بعدها بحبال جلبناها معنا ووضعناه مستلقياً على الكرسي الخلفي لسيارة ابيه. بعدها قمت انا بقيادة السيارة بينما تبعنا مازن وهيثم بالكيا. اتجهنا الى الجنوب وبقينا نسير لساعات طوال كي نختار مكاناً معزولاً ننفذ فيه المهمة حتى وصلنا الى الموقع الذي توقفنا فيه بالقرب من ابوغريب. لم يكن هناك احد بالجوار فقررنا ان يكون هذا هو المكان الذي سنقوم بقتله. انزلنا احمد من السيارة وصرنا نضربه بعصي متينة احضرناها معنا ثم انفك وثاقه من اثر الضرب بالعصي لكننا استمرينا بضربه. بعدها تمكن من الهرب فركضنا ورائه، وعندما امسكنا به واصلنا ضربه بالعصي حتى خر وسقط في بركة من طين. صرنا نركله ركلاً شديداً وهو راقد في البركة. بذلك الوقت بدأت السماء تمطر بشدة لكن ذلك لم يثنينا عن مواصلة ركله وضربه على رأسه بالعصي. وكلما رفع رأسه من الطين قمنا بضربه بقوة اكبر. كنا مستغربين لانه بقي حياً لفترة طويلة ولم يمت. ولما توقف اخيراً عن الصراخ والحركة تيقنا تماماً انه مات فعلاً. قمنا وقتها بافراغ جيوبه من كل شيء ورميناها بداخل السيارة. قال لنا مازن، الآن علينا ان نحرق السيارة كي لا نترك اي اثر ورائنا. فقام هو بصب النفط الذي احضرناها معنا على السيارة ثم اشعل النار فيها. بعدها ركبنا جميعاً الكيا وانطلقنا بها الى البصرة تاركين ورائنا ما كنا نعتقد انها جثة هامدة. كنا نتابع خطة بلقيس بشكل دقيق جداً.

القاضي : وماذا حصل بعد ذلك؟

فراس : تركنا الكيا بمكان معزول عن الناس (بالچول) خارج البصرة ثم رجعنا لنستقر ببيت عمتي ومكثنا هناك لاكثر من ستة اشهر لم نبرح باب البيت ابداً. بالبداية كنا سعيدين بذلك البيت نقضي اوقاتاً ممتعة ونحلم بالمبلغ الذي جنيناه من العملية وكيف سنقوم ببذخه على انفسنا. لكن رويداً رويداً صرنا نتشاجر فيما بيننا وصرنا نصرخ على بعضنا البعض وتطور الامر فاصبحنا نتقاتل بالايدي لاتفه الاسباب. وفي يوم من الايام قال زيد بان الساقطة بلقيس قامت بخداعنا بذلك المبلغ التافه. كان الاجدر بها ان تعطينا 10 ملايين لكل واحد منا. وبنفس اليوم قرر زيد ان يتصل بها هاتفياً ليخبرها بانه سيبلغ الشرطة عن خطتها إن لم تمنحنا 30 مليون اضافية. لكن مازن اعترض وقال بان بلقيس حذرتنا من عدم استعمال الهواتف الخلوية لكن زيد اخبره بانها مكالمة واحدة فقط وسيغلق الخط بعد الماكلمة مباشرة. حاول زيد الاتصال بها عدة مرات لكن هاتفها كان مغلقاً بكل مرة ولم تجب على الاتصالات. وفجأة تفاجأنا بنفس اليوم ان دخلت علينا الشرطة واعتقلتنا.

القاضي : كيف عرفت الشرطة بمكان اختبائكم؟

فراس : عندما اراد زيد الاتصال ببلقيس ليطلب منها المزيد من المال، فتح هاتف احمد النقال. وفور فتحه للهاتف ظهر موقعنا على شاشات الشرطة السبرانية في بغداد وتبينت اشارة الهاتف ومن موقعه حددوا مكاننا بدقة فائقة فابلغوا شرطة البصرة باعتقالنا. هذا ما اخبرونا به عندما كانوا يحققون معنا. المهم اخذتنا شرطة البصرة الى مخفر بمنطقة الماجدية للمزيد من التحقيق ثم زجونا بالتوقيف. بعدها نقلونا الى بغداد.

<<<<<<<<<

لم يمر وقت طويل حتى اتخذت المحكمة قرارها بحبس المتهمين الاربعة بالسجن المؤبد. وبعد مرور شهر آخر من انتهاء المحاكمة. بدأت ذاكرة احمد تعود اليه تدريجياً واول شيء عمله هو اجتياز امتحان السياقة ليحصل على رخصة القيادة ثم قدم على الامتحان الوزاري للحصول على البكلوريا وقد اخبر والده انه يرغب بدخول كلة الحقوق. اما والده فقد عاد الى الجامعة وصار يدرس فيها من جديد وقرر عدم الزواج ثانية. اما المحقق مؤيد فتزوج من غادة بعرس كبير حضره فالح واحمد وام مقداد وحشد كبير من اهل العروس. بعدها ببضعة ايام عاد مؤيد وحده الى الدنمارك في امل توثيق زواجه بالدنمارك كي يقوم باجرائات لم الشمل ليجلب زوجته غادة فتعيش معه هناك.

... تمت ...

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1652 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع