الدكتور مليح صالح شكر/ نيويورك
نجاتي من غضب صالح مهدي عماش
صالح مهدي عماش
تمهيد
هذه قصة من قصص الحياة الصحفية في العراق والمتاعب التي يتعرض الصحفي لها دون أن يتوقع ردود الفعل الحكومية على التصرف الصحفي.
وفي كل الأحوال ليس صحيحاً الإدعاء من قبل البعض بأن الدولة أوشكت على أعدام هذا الصحفي أو ذاك بسبب نشر خبر لم يرضِ الحكومة.
ولم يحصل ذلك في العراق بكل عهوده السياسية ولا في أي بلدٍ آخر من بلدان العالم.
#######
الحكاية وقعت في 15 تموز 1970 حين بدأ حفر أول بئر نفطي في حقل شمالي الرميلة جنوب العراق وحضر حفل الافتتاح صالح مهدي عماش نائب رئيس الجمهورية ووضع حجر الأساس لبناء مصفى البصرة.
ودعت وزارة الاعلام المراسلين الصحفيين للمشاركة في جولة يقوم بها نائب رئيس الجمهورية صالح مهدي عماش إلى جنوب العراق، وتحديداً محافظة البصرة ومشاريعها النفطية والصناعية.
وإشتركت في هذه الرحلة بصفتي مراسلاً للوكالة العربية السورية للأنباء، سانا، سوية مع أنس جاد الحق مدير مكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية، وإثنان من وكالة شينخوا الصينية، يتحدثان العربية بطلاقة، ، ومراسل لرويترز بالإضافة لإثنين من وكالة الانباء العراقية، أحدهما فتحي الأسدي، وكانا من مكتب واع في البصرة ، ومصور واع حمزة جاسم.
زار الفريق عماش ووفده حقولاً نفطية، وعقد لنا لقاءً صحفياً حول طاولة دائرية بفندق شرط العرب بالبصرة، وتحدث لنا عن المشاريع الوطنية للصناعة النفطية ، وهاجم الاحتكارات النفطية، وكان متفائلاً ومنفتحاً، حتى إستمع إلى سؤالي.
كانت اللغة الصحفية السارية تلك الأيام تتحدث عن (التشريع من جانب واحد) لوصف الإجراءات الليبية في السيطرة على صناعتها النفطية من جانب واحد ، ولم أكن حينها ملماً بالشؤون النفطية ، وكل ما قمت به هو إستعارة المصطلح لأسأل الفريق عماش حول نوايا الحكومة العراقية بإتباع نفس الأسلوب الليبي، والتشريع من جانب واحد لوضع الصناعة النفطية العراقية تحت الادارة الوطنية.
وأشتعل الفريق عماش غضباً، وإرتعبت أنا وإرتعب زملائي، حين راح يوجه اللوم لي لمحاولتي( الإساءة) الى نظام الحكم الوطني،وغيرها من الإتهامات وبصوت مرتفع، وإمتلكني الخوف من غضب نائب رئيس الجهورية.
ولم يترك لأي منا مجالاً للحديث او للتهدئة، وحاولت أنا ( لا تظلمني سيادة الفريق فأنا إبن هذا البلد)، فإنفجر يشتم صلتي بالعراق، وكان يتصور بأنني غير عراقي، حتى سألني سؤالاً مباشراً عن الجهة التي أمثلها، فقلت له وكالة سانا السورية.
وإزداد غضبه،( أنت أكيد أحد المنشقين) ( وأنت مرتبط بمن هم وراء الشط )!
وصفة المنشقين كانت تطلق على اعضاء الجناح اليساري للبعث، وأما( وراء الشط) فكان عماش يقصد بها ، وراء شط العرب ( أي إيران)!
ولم يهدأ ، وفض اللقاء الصحفي، لكني وقعت في ورطة كبرى، وأنا أرى زملائي الصحفيين وقد إنقطعت بهم سبل تهدئة الفريق عماش، وأرى على مقربة منا رجال حمايته، ورجال أمن البصرة، وقد سمعوا كل ما قاله عني.
إذن ، اصبحت على وشك الوقوع في أيدي رجال الأمن، أمن البصرة، وليس بغداد حيث يمكن أن يمكن أن يكونوا أكثر فهماً لعملي الصحفي. وفي البصرة سيكون التحقيق مع طرف واحد فقط ،هو انا دون ان يتمكن رجال الامن من معرفة وجهة نظر الطرف الثاني، نائب رئيس الجمهورية، سوى ما سمعوه عن بعد.
ونهض الجميع لمواصلة الرحلة الى قضاء الزبير،وما أن هممت على مغادرة باب فندق شط العرب، حتى إنقض عليّ إثنان من رجال الأمن ، وأمسك كل واحد منهما بكتفي الأيمن والأيسر، وبدون إرادة وضعت يدي فوراً على كتف أنس جاد الحق الذي كان أمامي مباشرة، وألتفت ليرى أنني قد أصبحت معتقلاً!
قفز أنس خطوتين ، وفي الثالثة ، أصبح وجهاً لوجه مع الفريق عماش الذي كان على وشك دخول سيارته، وقال له بصوت مرتفع ( سيادة الفريق،نحن الصحفيون لن نواصل الرحلة ما لم يواصلها زميلنا مليح معنا أيضاً)
سأله الفريق عماش( هل أنتم مصرون؟)
أجاب أنس ( نعم سيادة الفريق) .
فهز الفريق عماش برأسه في إشارة أن يتركني رجال الأمن ، فرفع الاثنان يداهما عندي.
لقد كان أنس جاد الحق رحمة الله على روحه ، صديقاً جرئياً فعلاً وهو يدافع عني أمام نائب رئيس الجمهورية، وأنقذني من اعتقال جديد. وواصلت الرحلة، ولكني كنت أجلس في الصفوف الخلفية بعيداً عن أنظار الفريق عماش.
وفي اليوم التالي ونحن ( سلامات ) في بغداد ، تبين لي أن قصتي مع نائب رئيس الجهورية أصبحت (حديث المدينة) ويعلم بها الكثير من زملائي الصحفيين ، في واع وفي الصحف وفي النقابة، وفي المقاهي ، والبارات التي أعتاد الصحفيون اللقاء فيها، وإنتشرت الرواية بين الصحفيين خارج واع ، وتبين لي أن حمزة جاسم، مصور واع البارع قد تحدث لزملائه في الوكالة بما حصل لي في البصرة، فأنتشرت بين الصحفيين ، إضافة لما تحدث أنس به لزملائنا.
وقد ألتقيت سجاد الغازي ومعه عطا شهاب وطه عارف مساء اليوم نفسه وأستفسر الغازي مني عن التفاصيل فشرحت للحاضرين تفاصيل ما تعرضت له في البصرة.
وكان سجاد الغازي آنذاك نائباً لرئيس أتحاد الصحفيين العرب بينما كان عطا شهاب يصدر صحيفة ( النصر) ببغداد.
ومن القصص الموثقة لديّ عن الفريق عماش يرحمه الله قصته مع الصحفي اللبناني جان عبيد الذي أثار غضبه عندما كتب في مجلة الصياد اللبنانية ما يشير الى أن الرئيس أحمد حسن البكر أوفد عماش مبعوثاً الى دول الخليج العربي لقربه من( الأفكار الرجعية) لحكام تلك الدول.
يؤكد وزير الإعلام صلاح عمر العلي في تواصل إلكتروني بيننا أنه رحمه الله ذهب ذات مرة الى مكتب وزير الداخلية صالح مهدي عماش في قضية مشتركة بينهما ، وعند مكتب سكرتير الوزير سمع صراخاً من الداخل فأضطر الى أن يقتحم الباب ليجد الفريق عماش وهو يهم بضرب جان عبيد بيده، فتدخل وأوقفه.
وبعد حين أقنع العلي رفيقه عماش بخطأ ما قام به ونصحه بالاعتذار من الصحفي اللبناني وهو ما حصل فعلاً.
وتحسنت الظروف لاحقاً أمام جان عبيد ليصبح نائباً ووزيراً في لبنان ورشح لانتخابات الرئاسة اللبنانية ذات مرة.
1224 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع