جابر رسول الجابري
*الحلم الإمبراطوري*تحليل أسباب فشل الدين في اندماجه مع السياسة
المقدمة :
حياة الإنسان على الأرض على شكل عصور ولكل عصر ظروفه تعيش فيه امة تجتمع على قبلة تجمع أفرادها وتوحد مواقفهم ، وقد تكن تلك الأمة شعب واحد أو من عدة شعوب لكن الجميع يسكن في رقعة جغرافية واحدة أو موزعين على بقاع الارض ،
ولكل أمة روابط يرتبط بها المنتمي لها ، ولكل أمة بوصلة توجه تفكيرهم باتجاه قبلة الأمة ،
الوطن العربي يمتلك أمتين :
*امة اللسان الناطق باللغة العربية
دفع اختلاف الدين و المذاهب وإختلاف الانتماء العرقي فيها إلى صراعات لكنهم يرضخون جميعاً لتسمية الامة العربية أو السير مجتمعاً لتحقيق حلم الإمبراطورية العربية .
*أمة الدين الإسلامي
وهي أمة مشتتة و مجزأة إلى نحل وملل وشيع و قد نشأ عن ذلك صراعات لكنهم أيضا جميعهم يرضخون للعيش تحت خيمة الدين الإسلامي أو السير لتحقيق حلم الإمبراطورية الاسلامية ،
دفع وجود الأمتين في الوطن العربي إلى نشوء تناقضات و صراعات سياسية على زعامة هذه الأمة وكلٌ منهم يسعى لتحقيق حلمهُ كما يراه هو ويريد من الآخرين أن يروا ما يراه والا هم خارج الأمة .
الموضوع :
ما أن بزغ فجر العرب بعد ظهور الرسالة الإسلامية حتى راح يظهر للوجود حلم تكوين إمبراطورية عربية تيمناً بنموذج الإمبراطورية الفارسية أو البيزنطية اللتان كانتا يحكمان العالم انذاك ، راح ذلك الحلم يدغدغ عقول وتطلعات بعض القادة العرب وخاصة بعد أن نجحوا في دحر الإمبراطورية الفارسية والاستيلاء على إرثها وضم مستعمراتها تحت نفوذ الخلافة الإسلامية ،
ومن جهة اخرى تم ثلم نفوذ الإمبراطورية البيزنطية في الشام و بسط نفوذ الخلافة الاسلامية ،
كانت فكرة الرسول (ص) إرسال رسل لحاكم الإمبراطورية هو الدعوة لاعتناق الشعب عقيدة الإسلام وليست لإستبدال الحاكم وتغيير النظام ،
لذلك امتطى بعض القادة العرب أنذاك فكرة الدعوة الى الرسالة الإسلامية فاستخدموها كوسيلة لتنفيذ مشروع الحلم الإمبراطوري العربي ،
واجه مشروع الحلم عقبات أهمها أن الرسول (ص) نهى الخوض في هذا المضمار لأسباب منها ان ذلك سيؤدي إلى حرف هدف الرسالة السماوية لأنه يندرج تحت مسمى وسواس النفس أي نزغ النفس للتسلط والسيادة وتنعم الحاكم بالمال العام في حين ان الإسلام يدعو للتواضع والتقشف وتحريم استخدام المال العام في خدمة شخصية ، كذلك أشار إلى كراهة تردد عالم الدين أو الفقيه على أبواب السلطان تجنباً لانجراف الدين تحت سلطة فساد السلطان ،
تركزت سيرة حياة الرسول (ص) على الدعوة والتبليغ ( فذكر إنما أنت مذكر *لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر )
أي أنت لست عليهم بحاكم انما انت مصلح وهدى للناس واستنكار الضلالة و الجهل و ظلم وإضطهاد الحاكم أما من تولى وكفر فأترك امره لحساب الله ،
لهذا إنشغل طيلة وجوده في المدينة المنورة بتوطين العقيدة وأداء مناسكها (سن السنن العبادية) وخلق جيل مؤمن ضماناً لاستمرار وجود العقيدة ، فلم يذكر التاريخ أن الرسول (ص) كان يصرف وقته وجهده في تاسيس دولة ورسم هيكل حكم سياسي وتثبيت وتسمية مناصب ووظائف دائمية للحكم لكن سيرته وصفت لنا مثلا أن مناصب قيادة الجيش أو مناصب الرسل أو تعيين السفراء لم يتم تسميتها مسبقاً بل كان الاختيار آني وقتي و حسب الحاجة بل أنه ترك الباب مفتوحاً لإختيار خليفة له فجعلها شورى بين المسلمين بدلاً من وصية أو تسمية .
إن أول بوادر تأسيس الدولة العربية الاسلامية بدأ بالظهور للعلن بعد إنتهاء عصر الخلفاء الراشدين عندما جنح الحاكم الإسلامي أنذاك إلى نهج السلطنة والملكية ( المُلك العضوض)،
حيث راح الحاكم العربي الى تأسيس سلالة ملكية عربية تحت مظلة إسلامية وذلك من خلال توريث الحكم ضارباً بذلك عرض الحائط سُنة الرسول (ص) و سُنة الخلافة الراشدة ( الشورى في اختيار خليفة المسلمين ) ،
يعتبر معاوية ابن ابي سفيان اول حاكم إسلامي يخرج عن نمط نهج الشورى في الخلافة ويلجأ بقوة السيف إلى سلوك نهج توريث الحكم إضافة إلى أنه أول من ابتدع منصب ولي العهد في نظام حكم الدولة العربية الإسلامية ، حيث قام معاوية بتنصيب ابنه يزيد ولياً للعهد ليكون خليفته من بعده في قيادة الدولة الاموية .
استمر نهج توريث سلالة الحاكم طيلة وجود فترة الحكم الاموي للدولة العربية الإسلامية لكنهم فشلوا في تحقيق الحلم ،
ظهرت بعدها الدولة العربية العباسية وبانت للوجود على أنقاض الدولة الأموية فورثت عنها ما كانت عليه سواء المستعمرات و دواوين الحكم أو الهيكل التنظيمي الملكي ،
لذلك نهجت دولة بني العباس نفس نهج توريث الحكم لسلالة الحاكم و اعتماد منصب ولي العهد ،
إنتقل موروث الحلم العربي لإنشاء إمبراطورية من الفكر السياسي الأموي إلى الفكر السياسي العباسي ،
بعد مرور قرن من الزمن على استقرار نظام الحكم العباسي وبعد أن تيسرت له بيئة سياسية وظروف ساعدته لتحقيق الحلم العربي فقامت أول إمبراطورية عربية اسلامية في بغداد تحاكي شكلٍ الإمبراطوريتان اللتان عشعشت صورتهما في العقل العربي ، فكانت الإمبراطورية العباسية قد نشرت نفوذها شرقاً وغرباً على الكرة الأرضية ،
لكن ما لبث ان تمزق حلم الامبراطورية بعد سقوط الدولة العباسية وتقاسم مستعمراتها فنشأت بعدها إمارات إسلامية صغيرة متناحرة لا ترتقي حتى لمستوى مملكة وبان عجزها عن توليد ظروف سياسية و بيئة شعبية كي تخطو نحو تحقيق الحلم الامبراطوري مجددا ،
دفع الوهن السائد عند العرب بالشعوب الاسلامية الغير عربية لركوب سفينة الحلم الإمبراطوري ،
ففي القرن الثالث عشر ميلادي استطاع زعيم قبيلة تركمانية (عثمان الاول ابن أرطغرل) أن يوحد القبائل التركمانية ويتربع على سلطة المملكة بعد معارك قبلية في أواسط آسيا وهضبة الأناضول ، وبعد استلام مقاليد الحكم راوده حلم تاسيس امبراطورية تركمانية إسلامية على نهج الإمبراطورية العربية الإسلامية بعد أن وسوست له حاشيته بإقتراح توسيع سلطته ومد نفوذه لتشمل كل تركة الإمبراطورية العباسية فكانت تلك هي الخطوة الاولى لتأسيس الإمبراطورية التركمانية الإسلامية والتي سُميت لاحقاً باسم الإمبراطورية العثمانية والتي إستمر وجودها حوالي ستمائة عام ،
بعد خسارة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الاولى أدت تلك الخسارة إلى سقوط عرش الإمبراطورية وتقاسمت الدول المنتصرة في الحرب إرث العثمانيين ومستعمراتهم ،
إستغل قائد الثورة العربية الكبرى الشريف حسين فوز حليفه الغربي على العثمانيين فطلب من الحلفاء السماح له بتنفيذ الحلم الإمبراطوري العربي إلا ان دول الحلفاء وبخته وطردته من الجزيرة العربية ونفته خارجها ليموت الحلم عند العرب في رحم أمه ،
مما دفع بالحلم الإمبراطوري أن يغادر فكر الحاكم ليلجأ الى فكر أحزاب وإيديولوجيات قومية عربية وأخرى أحزاب إسلامية لكنها كانت كلها تشترك بهدف واحد ألا وهو حلم تحقيق صورة الماضي التي سحقها الزمن ونقلها إلى الحاضر .
تلك الاحزاب سواء ذات الطابع القومي أم ذات الطابع الديني هي في الحقيقة لا تمتلك سوى حلم بناء صرح إمبراطوري في التاريخ لكنها بواقع الحال هي خالية الوفاض لا تملك إلا ذلك الحلم وليست لديها القدرة أو الوسائل التي تمكنها من بناء بنية سياسية وتخلق لها ظروف تستطيع فيها تنفيذ ذلك الحلم ،
لقد انحسرت رؤيتها فقط بوصف خيال لصورة حلم تاريخي عاش في غابر الزمن المندثر وتحت ركام أطلال التاريخ لكنها لم تمتلك الوسيلة أو القدرة أو القوة التي تمكنها من نقل ركام خيال الماضي وجعله فاعلاً حياً يعيش في حاضر الامة ،
وهذا محال أن تُعيد الماضي أو تُعيد كتابة التاريخ حيث لابد من صياغة حلم جديد يتماشى مع عصر الامة الحالي ،
أن الزمن تغير وأن اللاعبين الدوليين قد تغيروا ايضا
كما وأن البيئة والحاضنة قد تغيرت فأصبحت مشتتة متفرقة وأيضا أن أحلام الشعوب المكونة للامة الحالية قد تغيرت هذا إضافة إلى عدم امتلاك الامة ناصية العلم التي تساعدها بالوقوف او المسير في طريق تنفيذ الحلم العربي،
فشلت الاحزاب الاسلامية فشلا ذريعا في الوصول إلى معنى الدولة في عصرنا الحالي لانها تقف في الحاضر لكن عقلها مربوط بأحداث التاريخ كما حدث للثورة الإيرانية التي خاضت حروب وصراعات مع بيئتها ودخلت في حفرة الفتن فكانت مُخربة مُبددة لوحدة الأمة بدلا من اصلاح الأمة وتوحيدها ،
كما وأيضاً فشلت الاحزاب القومية في الاستمرار بقيادة الدولة نحو الحلم وذلك لأنها خلقت لها عداء في بيئتها القومية لذلك فقدت فاعليتها في القيادة وراحت تتأرجح متخبطة ما بين مسالك السياسة والدبلوماسية والمعاهدات الدولية من جانب وبين الفكر الثوري الشعبوي الراديكالي الذي يقود مسيرتها من جانب آخر , ثم حاولت ان تركب مركب عقيدة الاسلام التي كانت هي ضده وضد فكره فانهارت وأفلّت .
الشعوب عاشت مرارة الحروب ومغامرات الفكر الراديكالي الثوري في القرن الماضي و عاشت وعانت من الصراع الدموي بين أطراف البيئة العربية التي كانت تسعى لقيادة الامة ،
أن الزمن قد تغير وان الرؤى الشعبية قد تغيرت أيضاً وأن القوى الدولية الفاعلة في رسم حياة الناس قد تغيرت ايضا ،
فليس بالضرورة ان يعيش الأبناء أو الأحفاد حياتهم وأحلامهم على نفس نمط وسلوك وظروف وأحلام آبائهم و أجدادهم و لا يمكن للزمن أن يستنسخ في كل حقبة زمنية نسخة مطابقة عن الحقبة التي سبقتها .
أخيراً لابد للأمة أن تختار حلم آخر يتناسب مع الظروف السياسية للعصر الحالي لتصنع منه امام يقود فكرها ونهجها نحو لم الشمل وتحقيق أحلام الشعب وليس إعادة وتكرار حلم الحاكم .
المملكة المتحدة - الرابع من تشرين الاول عام 2024
تنويه:
حاولت جاهدا ان أتجاوز كل نقاط الاختلافات الموجودة في السرد التاريخيّ واتخذ الحيادية في وصف الأحداث بهدف توضيح الحقيقة وصولا لهدف التأويل وهو الوقوف على حقيقة هذا الحلم .
المصادر :
١- الدين و السياسة في التاريخ الإسلامي / عبد الرحمن شلقم
٢- الفرق الإسلامية وحق الأمة السياسة / محمد إبراهيم الفيومي
٣- الدولة المستحيلة / وائل حلاق
٤- رؤية الكاتب من خلال دراسته السيرة النبوية والقران والحديث وسيرة الخلفاء الراشدين والدولة الاموية والعباسية وما تلاها.
1238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع