الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
زرياب الموصلِيّ.. الجزء الأول
اشتهرت الموصل عبر تاريخها الطوال بأسماء لامعة في مجال الموسيقى والغناء، منهم إبراهيم الموصلِيّ وابنه إسحق الموصلِيّ، وزرياب الموصلِيّ، وملا عثمان الموصلِيّ، وسيد أحمد الموصلِيّ، وزكي مراد والد ليلى مراد وعبد الرزاق القبانجي والد محمد القبانجي، وسيد إسماعيل الفحام وغيرهم.
زرياب الموصلِيّ (789-857م) شخصية أسطورية متعددة المواهب يمثل حلقة وصل مهمة في نقل مظاهر الحضارة الإسلامية والشرقية إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا والعالم أجمع. وهو عالِم وموسيقار ومطرب تناقلت الأجيال سيرته العذبة، وكانت له إسهامات كبيرة وعديدة وبارزة في الموسيقى العربية والشرقية، كما أنه مبتكر فن الذوق العام والذي يسمى اليوم بـ (الإتيكيت).
هو أبو الحسن علي بن نافع الموصلِيّ، موسيقي ومطرب عذب الصوت من بلاد الرافدين، لُقِّب بـزرياب لعذوبة صوته وفصاحة لسانه وللون بشرته القاتم الداكن، وزرياب هو اسم لطائر أسود اللون عذب الصوت يعرف (بالشحرور).
يمثل زرياب حلقة وصل هامة في نقل مظاهر الحضارة الاسلامية والشرقية من بغداد إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا والعالم أجمع. وقد ظلم التاريخ الإسلامي زرياب لعدم إعطائه الموقع الذي يستحقه، بينما اهتم التاريخ الغربي بزرياب أكثر ليستفيد من تجربته وآثاره وما قدّمه للعالم أجمع.
لقد أقيم لزرياب نصب تذكاري في قرطبة بإسبانيا تخليدا لذكراه واعترافا بآثاره الخالدة التي تركها في إسبانيا وأوربا والعالم أجمع، ألا يجدر أن يكون لزرياب الموصلِيّ تمثالا في مدينة الموصل التي يحمل اسمه اسمها على غرار تمثال المُلا عثمان الموصلِيّ؟
ولد زرياب في الموصل ونشأ في بغداد وتتلمذ على يد إسحاق الموصلِيّ وأصبح من ألمع تلاميذه. وكانت بغداد منارة للعلم والحضارة، تشع ازدهارا وإبداعا وفنا، وشهد البلاط العباسي تطورا كبيرا على المستوى العلمي والفني والثقافي.
يقول مدير التوثيق الموسيقي في الأندلس الدكتور “رينالدو مانزانو”: كانت بغداد في فترة مزدهرة، فهناك قصص ألف ليلة وليلة، وبيت الحكمة الذي ترجمت فيه أهم الكتب اليونانية وغيرها إلى العربية، ودخول الأرقام الهندية عن طريق الخوارزمي.
في أحد الأيام طلب الخليفة هارون الرشيد من إسحاق الموصلِيّ أن يأتي معه بمغنٍ جديد يجيد الغناء، فأحضر إسحاق الموصلِيّ زرياب.
سأل الرشيد زرياب عن معرفته بالغناء، فقال: نعم أحسن منه ما يحسنه الناس، وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه، ممّا لا يحسن إلّا عندك ولا يدّخر إلّا لك، فإن أذنتَ غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك.
فأمر الرشيد بإحضار عود أستاذه إسحاق فلم يقبل تناوله، وقال: لي عود نحتّه بيدي، وأرهفته بإحكامي، ولا أرتضي غيره، وهو بالباب، فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه.
فأمر الرشيد بإدخال العود، فلمّا تأمّله الرشيد وكان شبيها بعود أستاذه، فقال له: ما منعك أن تستعمل عود أستاذك؟ فقال زرياب: إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده، وإن كان يرغب في غنائي فلا بدّ لي من عودي. فقال له: ما أراهما إلّا واحدا، فقال: صدقت يا مولاي، ولا يؤدّي النظر غير ذلك، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثة ورخاوة، وبمّها ومثلثها اتّخذتهما من مصران شبل أسد، فلها في الترنّم والصفاء والجهارة والحدّة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها، فأعجب الرشيد بوصف زرياب وأمره بالغناء، فغنّى للرشيد:
يا أيها الملك الميمون طائره ... هارون راح إليك الناس وابتكروا
إلى أن أكمل نوبته، فطار الرشيد فرحا وتعجب منه كثيراً وطلب من أستاذه إسحاق أن يعتز به.
إلا أن إسحاق داخله الحسد والحقد فهدد زرياب وخيره إما أن يخرج من بغداد أو أن يغتاله، فقرر زرياب الخروج من بغداد فخرج وتوجه إلى بلاد الشام ثم إلى القيروان في شمال إفريقيا. ولم يستطع زرياب من المكوث في القيروان سوى ثلاثة أيام، لأنه غنى لأميرها أبياتا لعنترة، فاعتبر الأمير ذلك إساءة له، ويقال أن زرياب واجه معارضة شديدة في القيروان من قبل علماء الدين الذين خافوا أن تنتشر الموسيقى في المدينة.
لقد كانت قرطبة الوجهة التالية لزرياب، فقد بعث خطابا لأميرها الحكم بن هشام يعرض عليه خدماته، فوافق الأمير على الفور. وحين وصل زرياب إلى الأندلس كان أمير قرطبة قد مات وأصبح محله ابنه عبد الرحمن الثاني الذي حكم للفترة (206-238هـ/822-852م).
أخذ زرياب طريقه إلى الأندلس، ونزل في ميناء الجزيرة الخضراء، وكان زرياب قد جاوز الثلاثين. وجاءه رسول الأمير الجديد عبد الرحمن الثاني يخبره أن الأمير منفذ لوعد أبيه، فواصل زرياب رحلته إلى قرطبة ووصلها سنة 822م، واستقبله الأمير عبد الرحمن بالترحاب والإجلال، ومنحه إقطاعا ذا غلة وافرة، وقربه من نفسه وجعله من خاصته. وقد بقي زرياب هناك حتى وفاته سنة 857م، وقد فرض نفسه على المجتمع الأندلسي؛ وذلك بفضل فنه وذكائه وجميل عاداته.
وبعد أن دخل زرياب بلاط أمير قرطبة أصبح من حاشيته وغنى بحضرته، فشغف به وقربه إليه وأصبح نديمه ومن أقرب الناس إليه. وخصص أمير قرطبة قصراً وراتباً شهرياً قدره مائتي دينار لزرياب.
لقد اشتهر زرياب في الأندلس وتمركز بها ولُقب بالقرطبي. وأسس زرياب في مدينة قرطبة (دار المدنيات) للغناء وللموسيقى يضم أبناءه الثمانية وابنتيه فضلاً عن عدد آخر من المغنين، وتعدُّ هذه أول مدرسة أُسست لتعليم علم الموسيقى والغناء وأساليبها وقواعدها.
من آثاره في مجال الموسيقى والغناء:
لقد ورث زرياب إرثا نفيسا من أستاذه إسحاق الموصلِيّ الذي ورثه عن أبيه إبراهيم الموصلِيّ. واخترع زرياب بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، بدلاً من مرهف الخشب، وأبدع في تنسيق الألحان.
لقد نقل زرياب من بغداد إلى الأندلس طريقتين في الغناء والموسيقى هما: طريقة الغناء على أصول النوبة، وطريقة تطبيق الإيقاع الغنائي مع الإيقاع الشعري.
وزاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه، فزاد عليها وتراً آخر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطَفَ معنى وأكمل فائدة.
ويعتبر زرياب هو السبب في اختراع الموشح لأنه عمم طريقة الغناء على أصول النوبة، وكانت هذه الطريقة هي السبب في اختراع الموشح. وقد أدخل زرياب على فن الغناء والموسيقى في الأندلس تحسينات كثيرة، ومن أهم هذه التحسينات:
1. جعل أوتار العود خمسة بعد أن كانت أربعة أوتار.
2. أدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله.
3. جعل مضراب العود من ريش النسر بدلاً من الخشب.
4. افتتاح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر، كما أنه أول من وضع قواعد لتعليم الغناء للمبتدئين وأهمها:
• يتعلم المبتدئ ميزان الشعر ويقرأ الأشعار على نقر الدف ليتعلم الميزان الغنائي.
• يعطى اللحن للمبتدئ ساذجا خاليا من كل زخرفة.
• يتعلم المبتدئ الزخرفة والتغني في الألحان مع الضروب بعد تعلمه الميزان والضرب واللحن.
كما وضع زرياب أسسا وقواعد لفحص المبتدئين قبل قبولهم: حيث كان يجلس المبتدئ في مكان عال ثم يوعز إليه بأن يصبح بجواب صوته ثم ينزل تدريجيا إلى قراره، وبهذه الطريقة كان يعرف مدى صوته وحلاوته.
https://www.youtube.com/watch?v=5dEerDeUutk&t=8s
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
المصادر: مواقع إلكترونية متعددة.
1267 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع