المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
كلية الشرطة وذكرياتي فيها
كنت أنا أحد طلاب الدورة (الوجبة) (23) في كلية الشرطة وكان عددنا مائة طالب بالإضافة الى طالبين أحدهما من المغرب والآخر من اليمن وباشرنا الدوام في (15 تشرين الأول من عام 1966) وكنا خليط من جميع المحافظات العراقية مع فوارق في نسبة القبول من محافظة الى أخرىٰ وحسب الحجم السكاني للمحافظة والنفوذ السياسي لأبنائها في السلطة المركزية فكانت أكبر حصة لطلاب العاصمة بغداد وبعدهم طلاب محافظة الموصل وكانت الدراسة في كلية الشرطة لثلاثة سنوات وثلاثة مراحل المستجد والمتوسط والمتقدم وكانت اصعب مرحلة من المراحل الثلاثة هي مرحلة المستجد وخاصة في الشهرين الأولين من الدوام حيث التدريب المكثف والمعاملة القاسية من قبل إدارة الكلية وضباطها بالإضافة الىٰ المعاملة الجافة من قبل طلاب مرحلتي المتوسط والمتقدم وكثيرا ما يضطر بعض الطلبة الى ترك الدراسة في الكلية لصعوبة الاستمرار في الدوام فيها وصعوبة التأقلم مع الوضع الجديد الذي يفاجئ به البعض من الطلبة وخاصة من الذين لم يعتادوا على هكذا نمط من العيش والدراسة الداخلية، كان الهيكل التنظيمي للكلية مقسم الىٰ ثلاث سرايا وحسب كل مرحلة والسرية الواحدة الىٰ فصائل وكان لكل سرية آمرها والفصيل كذلك بالإضافة رئيس عرفاء للسرية وعريف للفصيل من طلبة المرحلة المتقدمة وكان عريف فصيلنا ( منذر كمال التكريتي)
وقوفا الثالث من اليمين العريف الطالب منذر كمال التكريتي وجلوسا الرابع من اليمين كاتب المقال
وكان شخصاً هادئاً ومؤدباً إلا أنه كان يتعامل معي بكل قسوة ومشكلتي معه في مسألة حِلاقة الوجه فكان يحضر صباحاً قبل التدريب ويقوم بالتفتيش المعتاد علىٰ القيافة وحِلاقة الوجه ومن ثم يعود في تدريب الرياضة عصراً ليفتشنا مرة أخرىٰ مستعملا قطعة من الورق السميك (المقوىٰ) ويمسح به وجهي وهو يقول...محي الدين ليش ما مزين وأقسم له بأنني قد حلقت وجهي صباح هذا اليوم فيرد عليَّ قائلاً – آني ما عليه أنت مزين الصبح المهم هسه أنت ما مزين وكان يسجل اسمي مع المخالفين ويتم إخراجي معهم ليلاً للتدريب الإضافي الشاق وللتخلص مما أنا فيه من عذاب قررت حِلاقة وجهي في اليوم الواحد مرتين قبل التدريب الصباحي والتدريب المسائي ولم تكن أمواس الحلاقة في تلك الفترة جيدة كما هو الحال في الوقت الحاضر وكنت استعمل أجودها وهي من ماركة (ناسيت) إلا أن تكرار الحلاقة اليومية ولمرتين في اليوم الواحد سبب لي تقرحات وجروح في وجهي وعند عودتي الىٰ أهلي وكنا نسكن محافظة بغداد لاحظ والدي عدم ارتياحي وضجري مستفسرا مني عن سبب ذلك فأخبرته عن معاناتي مع عريف الفصيل (منذر التكريتي)
شفرات ناسيت
ومن أنني قد قررت ترك الدوام في هذه الكلية لصعوبة استمراري على هذي الحال إلّا أن والدي أخذ يهدئني ويطلب مني رفع معنوياتي واصــبر وأتحمل المصاعب التي تواجهني في سبيل بناء مستقبلي وبأنه سيعالج المشكلة وعندما استفســرت منه عــن كيفيــة معالجتهــا طــلب مني الاسـتراحـة وفـي المساء سـيأخذني مـعه الـى دار العقيــد (داود التكريتي / أبو ناهض) فـي منطقة (اليرموك – حي الضباط) ولا بد من إيجاد حل لهذه المشكلة وبالمناسبة كنت على الدوام أردد هذا الدعاء ((ربي اجعل رزقي وفيراً كوفرة شعر لحيتي))،
وفي المسـاء اصطحبني والدي الـى بيـت (أبو ناهض) والذي كانت تربطه به علاقة قديمة مـن أيـام العمل واستقبَلنا اسـتقبالاً حاراً وديا مـن قِبله ومن ِقبل (أم ناهض) وعند جلوسنا استفسرت مني عن أسباب حلاقة شعر رأسي بهذا الشكل فأجابها والدي أن ولدي (محي الدين) طالب في كلية الشرطة وهو يريد ترك الدراسة فيها بسبب مضايقة عريف تلميذ من تكريت، عندها استفسرت عن اسمه فقلت لها اسمه (منذر كمال التكريتي) فأخذت تضحك وهي تقول بسيطة (منذر) ابن أختي هسه راح يجي عدنا، بس ما راح أساعدك اذا ما تحجي عليه من يجي. أجبتها خالة آني ما حاجي عليه وما مخلص من شره وإذا حجيت عليه شراح يسوي بيه ردت آني ما عليه هذا شَرطي للتوسط وحل مشكلتك، بعدين گلي شنو المشكلة فأخبرتها بتفاصيل ذلك وقصة لحيتي ومعاناتي معها، لم تمضي إلا دقائق معدودة حيث حضر العريف (مــنذر) وبعــد السلام تفـاجئ بوجودي جالساً وقــال ها (محي الدين) هاي شتسوي هنا، فاجبته على الفور وبعصبية وأنت شعليك، هاي شبيك شلون تحجي، أي احجي ليش هنا الكلية حتىٰ تكشخ برأسي، كانت (أم ناهض) تشجعني على الكلام معه بهذا الأسلوب بإشارة من يدها وهي تضحك ومن ثم خاطبته... أبني (منذر) هـــذا (محي الدين) هم ابنا أنت ليش تتعامل وياه بهذا الشكل القاسي ويريد يترك الكلية بسببك والله (منذر) اذا ما تغير معاملتك وياه راح أزعل منك وما اصير خالتك وبعد ما احجي وياك عندها قال العريف (منذر) خاله والله آني أحبه، وهو خوش ولد ومعاملتي وياه مثل باقي الطلبة وعندها عاتبته (أم ناهض)... (منذر) عيني شوف لحيته ووجهه صايره كلها جروح من الحِلاقة أكو واحد يزين باليوم مرتين، عندها توجه نحوي العريف (منذر) قائلاً...أخي منا وغاد زين باليوم مرة وحدة فنهضت من مكاني واتجهت نحوه وتعانقنا وبهذا انتهت معاناتي ومشكلتي مع حِلاقة لحيتي، ومن الطريف لابد لي أن أذكر من أنه بعد فترة وأثناء قيامه بتفتيشي خاطبني قائلاً... ها محي الدين اشگد صار لك ما مزين هاي شنو لحيتك أجبته بهدوء وبصوت منخفض... تروح لو أشتكي عَليك... وهاي حالنا أحنا العراقيين.
والآن حان الحديث عن زميلي ورفيق دراستي في كلية الشرطة المرحوم (كريم كاظم داغر) حيث كانت علاقتي به منذ مباشرتنا الدوام تقوم على أواصر المحبة والوئام لسمو أخلاقه وحلو معشره كان بدينا ويفضل أغلب الزملاء الطلبة ممازحته وربما كانت هذه الممازحة تتحول بينه وبين البعض من الطلبة الذين يجاوزون حدودها واصولها الى شجار وسوء تفاهم وكنت الوحيد الذي يرتاح الى مرافقتي والمزاح معه الى حدود معقولة لا تسبب له الضجر وعدم الارتياح، جاءني في أحد الأيام وهو يشكو المرض وطلب مني مرافقته الىٰ مستشفىٰ الشرطة بعد أن ننظم ورقة عيادة وموافقة الخروج من الكلية الىٰ المستشفىٰ، اعتذرت منه قائلاً... أخ كريم آني ما بي شي ومو مريض شلون أجي وياك أجابني...أخي بسيطة أدعي المرض ونروح سوية وهَم نخلص من سجن الكلية جَم ساعة بَره، إلحاحه أجبرني علىٰ مسايرته ومراجعة الكاتب المسؤول عن تنظيم العيادات وفعلاً نظم لنا عيادتين وخصص لنا سيارة أقلتنا الىٰ مستشفىٰ الشرطة وأمام غرفة الطبيب المعالج كانت المشاهد التالية:
في أول الأمر دخل زميلي (كريم) على الطبيب وأدىٰ مراسيم التحية العسكرية بكل قوة ونشاط حيث صوت استعداده سمع علىٰ بعد عدة أمتار
فخاطبه الطبيب: ها شبيك
كريم: سيدي أشكو آلام في كافة أنحاء جسمي.
الطبيب: راح أكتبلك نوعين من الحبوب تأخذها وتصير زين
كريم: سيدي وأريد تكتبلي استراحة جَم يوم
الطبيب: ماكو داعي للاستراحة مابيك شي
كريم: سيدي: ضروري تمنحني الاستراحة
الطبيب: أگلك ماكو داعي
الصف الأول من اليمين الخامس كريم كاظم وكاتب المقال الثالث في يوم تخرج الدورة 8 شباط 1969
خرج زميلي من عند الطبيب وتهيأت للدخول عليه وانا اصطنع المرض وسوء الحال والتحرك صوبه بكل صعوبة وإلغاء مراسيم التحية العسكرية.
الطبيب: ها يابا هاي شبيك
أنا: سيدي من البارحة بالليل وآني ما نايم من اضطرابات شديدة في معدتي من جراء تسممي في وجبة العشاء وحالتي حيل مو طبيعية الله يخليك سويلي جَاره.
الطبيب: راح أكتب هاي الادوية استعملها وتصير زين وراح أنطيك ثلاثة أيام استراحة وإذا ما صرت أحسن راجعني.
من اليسار جلوسا الأول كاتب المقال والثاني كريم كاظم وفي الوسط وقوفا منذر كمال وعلى يمينه الطالب المغربي
خرجت من مواجهة الطبيب وزميلي (كريم) يستفسر مني ها الطبيب شكتبلك وكانت مفاجئة عندما أخبرته...
كتبلي أدوية واستراحة ثلاثة أيام، رد غاضبا صدك هذا الطبيب زمال ما يفتهم شي... آني مريض ما ينطيني استراحة وأنت سليم ينطيك ثلاثة أيام استراحة فأجبته لا والله أنت ذاك الشي ما تفتهم تدعي المرض وتؤدي التحية العسكرية بكل هذا النشاط أمام الطبيب وتضرب رجلك بالگاع شلعت الكاشي، عدنا الى الكلية فانصرفت الىٰ أهلي للتمتع بثلاثة أيام استراحة على حساب زميلي (كريم) والذي كنا نناديه ((KKD اختصاراً لاسمه (كريم كاظم داغر) وفاتني أن أذكر من أنه وعند توديعي له عند عودتنا الى الكلية خاطبني قائلاً:
(محي.. الأكراد ناس فقره ومساكين... شو أنته شيطان مو مثلهم عليمن طالع) أخي كريم آني عايش وياكم طالع عليكم.
لم ينعم صديقي بحياته فقد تورط في مشكلة تسببت في جعله ميؤوس الحال وفاقد الأمل في المستقبل الذي بناه وتعب من أجل الوصول إليه فلم تمض سوىٰ سنتان على تخرجه في كلية الشرطة وكان منتسبا لأحدىٰ وحدات القوة السيارة على الحدود السعودية في نهاية عام (1971) وكان مقره في مخفر حدودي بسيط وصغير وقديم ويعيش معه في نفس المخفر وفي نفس الغرفة المفوض (كريم) من الشرطة المحلية لكون البناية لا توجد فيها سوىٰ غرفتين غرفة للمذكورين وغرفة أخرىٰ كبيرة للشرطة الذين يعملون بأمرة كريم الضابط وكريم المفوض وما حل بهما في هذه الواقعة المرة التي فحواها من أنه في أحدىٰ الليالي خرج الملازم (كريم) مع أفراد فصيله بالواجب ونصب كميناً في احدىٰ النقاط الحدودية مع السعودية لغرض المراقبة وضبط المتسللين ومع بداية الضياء الأول لليوم الثاني انسحب الى المخفر بعد انتهاء واجبه ومن الضروري أن أحدثكم عن طبائع المذكورين فقد كان الملازم (كريم) شخصا متدينا الى ابعد الحدود متمسك بالواجبات والشعائر الإسلامية من صلاة وصوم ومخافة الله بينما كان المفوض (كريم) على عكس منه فقد كان مولعاً بشرب المسكرات على الدوام وتشغيل جهاز المسجل بصوت عالٍ بالأغاني العراقية الريفية، عند عَودة الملازم (كريم) قام بمستلزمات الوضوء وصلىٰ صلاة الصبح ومن ثم طلب من المفوض (كريم) والذي كان جالساً وهو يشرب أن يخفض صوت جهاز المسجل لكي ينام ويرتاح من أتعاب الليلة الماضية، كانت إجابة المفوض (كريم) مخيبة للآمال:
نام أنت شعليك بالمسجل
أجابه ملازم كريم: شلون أنام وأنت مصعد صوت المسجل تنزل الصوت لو أكسر المسجل هسه
أجابه مفوض كريم: اشحدك نام ولا تطولها
عندها أخرج الملازم (كريم) مسدسه وموجها فوهته نحو المفوض (كريم) وهو يقول: تنزل صوت المسجل لو أفرغ طلقات هذا المسدس بيك.
أجابه المفوض كريم: وهو غير مبالٍ بتهديده وكان في حالة سكر شديدة جراء تناوله المسكرات طيلة الليلة الماضية بدون توقف...دروح نام ليش أنت رجال حتىٰ تفرغ المسدس بيه.
وما إن انتهىٰ من كلامه إلاّ وقام الملازم (كريم) بإفراغ سبع إطلاقات من مسدسه في جسم المفوض (كريم) وهو كل الإطلاقات التي كانت في المسدس وعلىٰ أثر صوت الإطلاقات هرع أفراد الشرطة ومن هول الصدمة وسقوط المفوض (كريم) ميتاً مضرجاً بدمه أخذ الملازم (كريم) يخاطبهم...تعالوا شيلوا ودفنوا.
تم توقيف الملازم (كريم) على ذمة هذه القضية وبدأت فيها الإجراءات التحقيقية اللازمة وقدم والده طلبا يدعي فيه بعدم كمال ولده لقواه العقلية ويطلب عرضه على لجنة طبية متخصصة وفعلاً عرض علىٰ لجنة طبية في مستشفىٰ الرشيد العسكري والتي قررت بعد فحصه إصابته بخلل عقلي لا يقدر عاقبة تصرفاته الخارجة عن إرادته، اعترض ذوي المفوض المقتول (كريم) على هذا القرار فأحيل القاتل الى لجنة طبية أخرىٰ في مستشفىٰ مدينة الطب والتي توصلت الىٰ قرار بأن المذكور سليم ولا يعاني من أية أمراض ونواقص عقلية ويقدر نتيجة أعماله، أعترض والد الملازم (كريم) علىٰ هذه النتيجة فتمت إحالته الىٰ مستشفىٰ الأمراض العقلية (الشماعية) للفحص من خلال وضعه تحت المراقبة لمدة شهر كامل وفعلاً أحيل الىٰ هذه المستشفىٰ موقوفاً والتي كانت تقع بمسافة قريبة من نهايات مدينة الثورة (الصدر حالياً) أي بالقرب من دار والد الملازم (كريم) الذي كان يسكن في المدينة المذكورة وفي نهاياتها وكانت بصحبته زوجته (أم كريم) بزيارة المستشفىٰ في كل يوم مساء وهم محملين بكافة أنواع الأطعمة والفواكه والحلويات ويجلسون مع (كريم) في حديقة المستشفىٰ وهكذا إلىٰ أن أنتهىٰ الشهر وصدر قرار اللجنة في المستشفىٰ المذكورة وهو يتضمن سلامة ابنهما (كريم) من كل الأمراض وخاصة العقلية ويمكن محاكمته عن هذه القضية وفي الأخير لم يبق إلاّ أن نذكر لكم عتاب الوالد لأبنه (كريم)... إبني كريم هاي هَم ما دبرتها إبني جان تحارشتلك بممرضة وبستها لو ضربتلك طبيب فد راجدي وجَم جلاق لو كاسرلك فد جهاز طبي... وكان رد الملازم (كريم) يابه هو أنت وأمي خليتوني أتخبل يوميه جايين يمي وجايبين كل هل غراض وگاعدين ويايا.
وهنا لابد أن أذكر نتيجة هذه القضية حيث صدر الحكم على صىديقي ( كريم) بالسجن لمدة خمسة عشر عاما وبعد انتهاء مدة الحكم تم تعينه موظفا في وزارة الري.
انتهت ذكرياتي عن الذوات (منذر كمال التكريتي) و (كريم كاظم داغر) الى هذا الحد وأرجو أن تكون هذه الذكريات مثار أعجابكم وراقت لكم.
1186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع