جابر رسول الجابري
جذور ديكتاتورية الحكم
*المقدمة :
الديكتاتورية مصطلح قديم مشتق من الكلمة اللاتينية (ديكتاتوس) والذي يعني التسلط وفرض رؤية الحاكم (سواء كان الحاكم فرداً أم فئة دينية،فكرية ، قومية) على الشعب وإضطهاد بقية أفراد و فئات الشعب ،
أما مَن يعارض رؤية وسياسة النظام الديكتاتوري فمصيره التغييب و الإقصاء سواء كان ذلك بمحاكمات وهمية تؤدي إلى الإعدام او السجن او هروب المُعارض لخارج سلطة الحكم ( تهجير قسري ) ،
ما قبل التاريخ ولد نظام حكم آخر أطلقوا عليه تسمية النظام الديمقراطي كملاذ شعبي للخلاص من ديكتاتورية الملوك و ضد طغيان وظلم الحاكم المستبد ،
الديمقراطية تعني مشاركة كل فئات الشعب في ادارة الدولة والسلطة وشؤون الحكم وتتم تلك المشاركة عن طريق التصويت لإختيار ممثلين عن كل فئات الشعب لتمكينهم من طرح رؤاهم في مجلس تشريعي ،
المقصود بالتصويت لإختيار نماذج من آراء الشعب دون وجود محاصصة أو تسلط طائفة أو فئة حزبية على بقية الشعب بل هي مشاركة شعبية شمولية من أجل إيجاد أفضل الوسائل لإدارة الدولة وتحقيق الأمن المجتمعي و حفظ حقوق الجميع وتحقيق العدالة في الحكم ،
و يمكن للشعب مراقبة مسار السلطة وتصحيح أي سلوك مُنحرف لها عن طريق مجلس النواب كما و للشعب أيضاً الحق في تنبيه نوابه عن وجود إنحراف أو مستجدات عن طريق المظاهرات السلمية .
**الموضوع:
تم الإعتراف بالعراق الحديث كدولة بعد رسم حدوده من قبل بريطانيا عام ١٩٢١ م
عندها شكلت بريطانيا نظام الحكم الملكي الدستوري وفق مقاييس النظام الملكي البريطاني و كنسخة مشابهة له ،
أولاً : اختارت بريطانيا للعراق نظام الحكم فيه ونصبت عليه ملكاً من خارج بيئته الشعبية (إبن مناصرها حاكم الحجاز ) كأول ملك لدولة العراق مكافأةً على شراكته لها ضد الإمبراطورية العثمانية ،
وهذا يعني بحد ذاته يُعد مُخالفة للسياقات الديمقراطية سواء فرض نوع نظام الحكم أو فرض الحاكم على الشعب دون خياره .
ثانيا : أعطت بريطانيا الصلاحية الدستورية للملك باختيار أعضاء مجلس الأعيان و مجلس النواب تحت إشراف وإدارة الحاكم العسكري البريطاني ،
وهذا تسلط وفرض إرادة على الشعب من قبل الحاكم وأيضاً هي مُخالفة للسياقات الديمقراطية
ثالثا : تم إختيار أعضاء مجلس الأعيان ومجلس النواب من فئة واحدة دون وجود تمثيل لفئات الشعب الأخرى
الإختيار وقع على شخصيات من الطبقة الأرستقراطية وهم نخبة من الإقطاعيين واصحاب الأملاك وشيوخ العشائر ومرجعيات الدين
وزد على ذلك أن هذه الفئة الأرستقراطية هي أقلية في المجتمع حيث كانت تمثل بنسبة لا تتجاوز ١./. من الشعب العراقي البالغ تعداده حينها حوالي ٣ ملايين نسمة معظمهم من الفلاحين والعمال والكسبة،
وهذه أيضا مخالفة للسياقات الديمقراطية حيث تم فرض ممثلي الشعب على الشعب .
رابعا : أن تلك الفئة الأرستقراطية شرعت دستور وسنت قوانين ملائمة لتطلعاتها ورؤيتها في رعاية مصالحها فقط وأهملت تطلعات ورؤية الأغلبية الشعبية ،
وهذا ايضا مُخالفة للسياقات الديمقراطية عندما تم سن قوانين ودستور بواسطة فئة أقلية خدمة لمصالحها ،
لما ورد أعلاه يتضح لنا بإن النظام الملكي قد تم تشكيله وفق منهج ديكتاتوري وليس وفق منهج ديمقراطي ،
إستمر النظام الملكي بنهجه الديكتاتوري الفئوي في فرض رؤية فئة أقلية على الشعب طيلة فترة حكمه ،
ما أن سيطرت الأرستقراطية على مفاصل الدولة والحكم حتى أوغلت جذورها الديكتاتورية الفئوية داخل جسد الدولة ومفاصلها فنشأ عن ذلك التوغل ظهور طبقة متوسطة في المجتمع من الموظفين وضباط الجيش ومسؤولين عن إدارة مؤسسات الدولة ،
باتت الطبقة المتوسطة في المجتمع العراقي أداة لتنفيذ أجندات الطبقة الأرستقراطية لرعاية مصالحها بالإضافة إلى أنّ الأرستقراطيين استخدموا الطبقة الوسطى كجدار عازل لمنع الطبقة الشعبية من الارتقاء والتوظيف في مؤسسات الحكم أو نشر التعليم لديهم ،
إستمر هذا التقسيم الطبقي في المجتمع العراقي طيلة فترة الحكم الملكي ،
بالرغم من ظهور صراعات طبقية في المجتمع لاحقا في محاولات من الطبقة الوسطى للإطاحة بنظام الحكم الارستقراطي لكن كانت السلطة تسارع للقضاء على تلك الحركات بقوة السلاح ،
في تموز عام ١٩٥٨ م ثارت المؤسسة العسكرية على النظام الديكتاتوري الفئوي الملكي و عملت إنقلاب عسكري تمت به الإطاحة بالعهد الملكي وتم تشكيل نظام الحكم جمهوري في العراق للخلاص من سطوة الطبقة الأرستقراطية ،
أول عمل قام به النظام الجديد هو إبادة العائلة الملكية بمجزرة دموية ثم إبادة رموز الحكم والمسؤولين ،
ثم أخذ هذا النظام الجمهوري بتفتيت وجود الفئة الأرستقراطية في العراق سواء بالتهجير القسري أو بتشريع قوانين لاجتثاث وجود الأرستقراطية في المجتمع ،
ولبس بعدها النظام الجمهوري الجديد ثوب الديكتاتورية أيضا ولم يتم تحقيق أحلام الشعب في المشاركة الشعبية لادارة الدولة ،
لم يستقر حال هذا النظام الجمهوري الديكتاتوري بسبب إعتماده على الحزب الشيوعي في مسك السلطة وادارة الحكم ولمحاربة بقية الأحزاب فكان بإمتياز نظاما ديكتاتورياً حزبياً
ودخل النظام الجمهوري بصراع دموي مع شركاءه في الانقلاب العسكري ضد الملكية (الأحزاب القومية والدينية)
سرعان ما أطاح أحد أحزاب المعارضة القومية (حزب البعث ) بنظام الحكم الجمهوري وقيادات الحزب الشيوعي وتمت محاكمتهم ثم تمت تصفيتهم وأيضا تصفية كوادر الحزب الشيوعي بمجازر دموية لاحقا ،
بدأ الانقلابيون الجدد في إجتثاث وجود باقي أحزاب المعارضة من وجودها السياسي ونهجوا نهج النظام الديكتاتوري الحزبي الذي انقلبوا عليه ،
ثم حدث خلاف بين القيادات العسكرية المشاركة بالإنقلاب وقيادات حزب البعث أدى هذا الإختلاف إلى اغتيال الزعامة العسكرية ثم تم تنصيب زعامة عسكرية اخرى ليستمر النظام العسكري الحاكم في صراعه السياسي مع حزب البعث ومع الحزب الشيوعي والأحزاب الإسلامية ،
في تموز عام ١٩٦٨ تمت الإطاحة بنظام العسكر بقيادة حزب البعث ولكن الأخير نهج نفس النهج الذي سار عليه سابقه النظام الجمهوري الديكتاتوري الحزبي فأسس أيضا نظام ديكتاتوري للحزب الواحد لقيادة الدولة والنظام
فأدى ذلك لتجدد الصراع مع احزاب المُعارضة له مثل الحزب الشيوعي و حزب الإخوان المسلمين وحزب الدعوة الشيعي ،
حدث إنشقاق داخل قيادات حزب البعث أدى ذلك إلى شطر الحزب لشطرين متخالفين متصارعين شطر يميني يتزعم السلطة وشطر يساري يحاول أن أن يسلب السلطة ويقضي على الآخر،
ودخل العراق في متاهة الصراع الحزبي مجدداً وكلٌ يهدف إلى إقامة نظام ديكتاتورية حزبي بديلاً عن الآخر ،
لم يدم هذا الصراع طويلاً فانتهى بتصفية كل قيادات حزب البعث اليساري المعارض وهروب بعض من كوادره كما وتمت أيضاً تصفية كوادر احزاب المعارضة الأخرى وهروب كوادرها خارج العراق كلٌ حسب دول المخابرات التي كانت تمولهم وتساندهم في الصراع ،
بعد مرور عشر سنوات على انقلاب تموز حدث انقلاب داخل حزب البعث نفسه ليتم طي مرحلة من مراحل سيرة حزب البعث وانتقال الحزب إلى مرحلة جديدة يقودها نظام ديكتاتورية القائد الضرورة ،
أدى هذا الإنتقال إلى ضمور وضعف سلطة حزب البعث في الساحة السياسية وتم إبعاده عن ادارة الحكم فأصبح مجرد تشكيل داعم لا تأثير سياسي له مع تعاظم سلطة وسطوة القائد الضرورة ,
في سنة ٢٠٠٣ م تم إسقاط نظام حكم ديكتاتورية القائد الضرورة بواسطة الاحتلال العسكري الأمريكي وقوات التحالف وعادت مع دبابات المحتل إلى العراق بعض الكوادر الحزبية القديمة وأيتام الأرستقراطية التي كانت هاربة بعد أن خانت الوطن الأم لها وتحالفت مع أعداء العراق ، جائت للعراق وهي حاملة معها اوهام وأحلام وامراض التأريخ والصراعات الحزبية وحاولت الظهور في الساحة السياسية بداية الأمر
لكنها إصطدمت بالرفض الشعبي وفشلت فشلاً ذريعاً بسبب عدم تعايشها و انسجامها مع تطلعات الشعب العراقي
من جهة اخرى اندفعت الأحزاب الدينية للمذهب الشيعي نحو الشارع العراقي الشيعي لتحتل أرضية وتعمل لها قاعدة شعبية وهي وليدة وتربية المخابرات الإيرانية لكنها إستخدمت المذهب الشيعي كأيديولوجية ووسيلة لإستلام للوصول للسلطة فأسست أول نظام ديكتاتوري مذهبي في العراق على غرار ومنهج النظام الديكتاتوري الديني في إيران بعد حصولها على مباركة وتأييد ودعم سلطة الإحتلال الأمريكي بحجة حماية العملية السياسية ،
كما وحصل نظام الحكم الديكتاتوري الطائفي على إسناد ودعم مطلق من مرجعية وشيوخ الدين الشيعة بحجة حماية طائفة الشيعة ومقدساتها ،
وبرز مرة اخرى صراع الأحزاب التي إرتدَت كلها ثوب الطائفية كملجأ لها وجسر تستخدمه للعبور إلى السلطة ، ومن تلك الأحزاب انبرت طائفة من خارج الحدود (القاعدة ) كتشكيل سني للتصدي لنظام أتباع ولاية الفقيه الشيعي لكن في الخفاء كان المحرك لهذا التشكيل هو حزب البعث ، استخدمت هذه الحركة التفجيرات والقتل والاغتيالات كمشروع مقاومة لمشروع تصدير الثورة الإيراني للعراق وضد قوات الإحتلال ، دخل العراق في هذه المرحلة بظلام دامس دموي ومجازر وطوفان من الفوضى حتى وصل الأمر حد الحرب الاهلية والقتل على الإسم والهوية ،
عندها سارعت قوات التحالف والمخابرات الإيرانية فسحقت فلول القاعدة و قضت على وجودها في العراق
بعد فترة قصيرة عادت دوامة الصراع بظهور جماعة إسلامية متطرفة تهدف لتشكيل خلافة إسلامية في العراق وسوريا موطن ومهد حزب البعث العربي الاشتراكي أطلقت على نفسها اسم الدولة الاسلامية في العراق والشام ( داعش ) ، تحركت خلاياها فهجمت واحتلت بعض المدن العراقية والسورية ونهبت الأسلحة الحديثة من معسكرات الجيش العراقي المهزوم وانشأت في تلك المدن نظام حكم ديكتاتوري ديني سلفي إرهابي ،
دفع هذا السلوك الإرهابي إلى استياء الشارع السني نفسه فتحركت على إثرها قبائل السُنة و نظام الحكم الديكتاتوري الشيعي ومرجعيات الشيعة وقوات التحالف والحرس الثوري الإيراني لتنشيء تشكيل ميليشياوي إجرامي إرهابي طائفي مضادة بأفكاره فكر داعش لكنه ينهج نفس نهج داعش , وبإسناد ودعم من قوات الاحتلال الامريكي تحركت فلول تلك الميليشيات لتحرير المناطق التي احتلها داعش ،
راح الأخير يتقهقر بعد إغتيال قياداته فتم القضاء على اغلب خلاياه وتم طوي هذه الصفحة الدموية الأخرى
ولكن الميليشيات الاجرامية الارهابية الطائفية لم تطوي صفحتها بل تمددت و إحتلت مراكز السلطة والحكم في العراق وشكلت إخطبوط ديكتاتوري فاسد تحت رعاية وإشراف قوات التحالف وذلك خوفاً من نشوء اي مقاومة شعبية ضد الاحتلال
الأمريكي و الإيراني ،
و أخيراً تقاطعت مصالح تلك الميليشيات الاجرامية مع مصالح المُحتل الأمريكي فنشأ صراع بينهما على مسك السلطة وادارة شبكات الفساد ،
إستمر الصراع الطائفي هذا منذ سنة ٢٠٠٣ حتى هذا اليوم ،
صراع إتخذ المذهبية الدينية وسيلة لاستلام السلطة ولتشكيل نظام ديكتاتوري طائفي دموي لا يختلف عن غيره يتسلط برؤيته على الشعب ويفرض تلك الرؤيا بالترهيب والسلاح،
لهذا نجد أن نهج وسيرة الإنظمة السالفة إبتداءا من العهد الديكتاتوري الفئوي ( العهد الملكي ) إلى عهد النظام الديكتاتوري الحزبي (الشيوعي/البعثي ) ثم تلتها مرحلة نظام ديكتاتورية القائد حتى هذا الزمن الذي ظهر فيه أسوأ النظم الديكتاتورية وأشدها إجراماً ألا وهو النظام الديكتاتوري الشيعي الدموي الظالم باسم الدين الحنيف وبقي الشعب مُضطهداً يقبع في بؤر الذل والظلم والحرمان صابراً لعل الزمن يمنحه فرصة لمستقبل مشرق .
***************
***ملاحظة :
تم استسقاء رؤية البحث من مجموعة من المصادر إضافةً إلى استنباط الآراء المشتركة للأحداث من تلك المصادر مع رؤية المؤلف للأحداث لضمان الحيادية وعدم الانحياز لطرف معين ضد أطراف النزاع الأخرى
****المصادر :
١- حوليات العراق في العهد الملكي - عبد المجيد كامل
٢- العراق تاسيس النظام الملكي - محمد الأدهمي
٢- تاريخ الوزارات العراقية
عبّد الرزاق الحسني
٣-أقليات العراق في العهد الملكي - زيد عدنان ناجي
٤- إنجازات العراق الديبلوماسية - د. مأمون أمين زكي
٥- مجموعة بحوث تاريخيّة وسياسية حول العراق
٦- المعايشة والحضور للأحداث والصراعات الحزبية في العراق من قبل المؤلف شخصياً
في السابع عشر من آب عام 2024
المملكة المتحدة
1285 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع